التطويق الأخير: خطة الاحتلال لاجتياح وتدمير مدينة غزة

جاء قرار الكابينت الإسرائيلي باحتلال مدينة غزة كخطوة رئيسية على طريق استكمال الإطباق العسكري واحتلال ما تبقى من مساحة القطاع، حيث حُشر أكثر من مليوني فلسطيني في ثلاث رقع جغرافية ضيقة، في واحدة من أكثر اللحظات التصعيدية التي يصفها الاحتلال بأنها “حاسمة وكبرى”، محمّلة بكل التوصيفات التي تواكب عادةً قرارات الحرب الأكثر إجرامًا.
ورغم أن حكومة الاحتلال تسوّق هذه الخطة العدوانية، التي تحظى بدعم أمريكي، ورفض داخلي ودولي، باعتبارها ردًّا على انسداد أفق المفاوضات، وفشل الجولة الأخيرة من المباحثات، إلا أن الوقائع تشير إلى أن قرار الإطاحة بالمسار التفاوضي كان متخذًا مسبقًا على المستوى الأمريكي – الإسرائيلي، تمهيدًا للمضي في مشروع التدمير الشامل لقطاع غزة، ودفع سكانه نحو التهجير القسري، دون أي أهداف أخرى حقيقية.
تطويق وحصار وانقضاض
كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن خطة الجيش للسيطرة على مدينة غزة قد تمتد لستة أشهر على الأقل، وفق جدول زمني يبدأ خلال أسبوعين، بعملية إخلاء تدريجية لسكان المدينة نحو ما تسمّيه سلطات الاحتلال الإسرائيلي “مناطق إنسانية” جنوب القطاع.
وبحسب تقرير بثته قناة “كان 11″، فإن المرحلة الأولى تشمل نقل أكثر من 800 ألف فلسطيني من مدينة غزة إلى منطقة المواصي جنوب غرب خانيونس، في عملية قد تستغرق ما لا يقل عن 45 يومًا. ويتبع ذلك، خلال شهر، استدعاء قوات احتياط من الفرقة 146، ونشر الفرقة 98 في القطاع، ليرتفع عدد الفرق المشاركة إلى ست، وهي: 162، 36، 98، فرقة غزة، 99، و146.
وتخطط قيادة الجيش لفرض طوق عسكري كامل على مدينة غزة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول، بالتوازي مع تقدم كبير في الإخلاء السكاني، تمهيدًا لبدء المناورة البرية. وترجح التقديرات الإسرائيلية أن تستمر العملية، ما لم يطرأ تطور جوهري في المفاوضات أو صفقة تبادل الأسرى.
وذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن نقاشًا استمر أكثر من عشر ساعات داخل أروقة القيادة الأمنية، شهد تحفّظات من رئيس الأركان، ورئيس الموساد، والقائم بأعمال رئيس الشاباك، ورئيس مجلس الأمن القومي، على قرار نتنياهو بالمضي في العملية الكبرى، محذرين من أن احتلال غزة سيعرّض حياة الجنود والرهائن لدى حماس لخطر بالغ. ورغم ذلك، لم يُعارضوا مبدأ “العمل العسكري”، لكنهم رأوا أن هناك “خيارات أكثر ملاءمة”.
وفي تطوّر لاحق، صادق رئيس الأركان إيال زامير على الخطة الميدانية للسيطرة على غزة، والمبنية على ثلاث مراحل أساسية:
الإخلاء السكاني: نقل نحو 800 ألف شخص خلال أسبوعين، لتقليل الكثافة في مناطق القتال.
تطويق المدينة: عزل غزة عن مناطق الوسط، والممر الإنساني في المواصي، عبر إعادة إنشاء محور نتساريم.
المناورة البرية: هجوم بري واسع داخل المدينة، مصحوب بقصف جوي مكثّف.
ووفق الإطار الأولي، ستتطلب العملية استدعاء ما بين 80 و100 ألف جندي احتياط، فيما يواصل كبار ضباط الجيش مناقشة تفاصيل المناورة، قبل رفع الخطة النهائية إلى الكابينت، استعدادًا لمرحلة “إجراءات المعركة” على مستوى الفِرَق والألوية المشاركة.
معيقات متعددة.. لكنها لن تمنع العملية
يأتي إقرار الأفكار العامة لخطة احتلال مدينة غزة في ظلّ خلاف متصاعد بين وزير الحرب يوآف كاتس، ورئيس الأركان إيال زامير، يبدو في ظاهره مرتبطًا بسلسلة التعيينات الجديدة في الجيش، وترقية ضباط لرتبة عميد، لكن خلفيّته أعمق بكثير، إذ يُتّهم كاتس بالعمل كواجهة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مواجهة زامير.
كاتس صعّد من لهجته مؤخرًا، قائلًا إن “سلوك رئيس الأركان يمسّ بضباط الجيش”، منتقدًا محاولات زامير تغيير الإجراءات المتّبعة، استنادًا ـ حسب وصفه ـ إلى “نصائح مستشارين معادين للحكومة”، والسعي لفرض وقائع على الأرض عبر اجتماعات مرتجلة “لن تفلح”.
جاء ذلك بعد أن كشفت صحيفة هآرتس أن زامير أبلغ جنرالات وأطرافًا خارج الجيش، بينهم رئيس الأركان السابق غابي أشكنازي، أن عائلة نتنياهو “وضعتني هدفًا نصب أعينها”، بسبب معارضته خطة احتلال مدينة غزة ومخيّمات الوسط، ملمّحًا إلى أن محيط نتنياهو يسعى لإقالته.
📌 نائبة وزير خارجية الاحتلال، هاسكل، تزور جنوب السودان في أول زيارة رسمية إسرائيلية، وتلتقي بالرئيس ووزير الخارجية.
📌 ترامب طرح في فبراير ترحيل أهالي غزة إلى دول أخرى وتحويل القطاع إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”، و”إسرائيل” أنشأت وكالة حكومية لتنفيذ “المغادرة الطوعية”.
📌 أكد… pic.twitter.com/UXMB9gGiKz
— نون بوست (@NoonPost) August 13, 2025
وعلى الصعيد الميداني، تواجه الخطة تحدّيًا لوجستيًا حادًّا، إذ تشير تقديرات إلى أن احتلال غزة يتطلّب نحو 200 ألف جندي، في وقت تتراجع فيه نسب الاستجابة بين قوات الاحتياط. ووفق الصحافي عكيفا نويفيك في هآرتس، بلغت نسبة الرفض نحو 40%، فيما لا تتجاوز الاستجابة في بعض الفِرَق 60–70%، وسط شعور بأن الاستدعاءات تُستغل لخدمة شركاء سياسيين، ما يدفع كثيرين لتجاوز دورات الخدمة دون رفض معلن.
كما أظهر تقييم ميداني عرضته القناة 12، استعرضه محللها العسكري نير دفوري، وجود فجوة تُقدّر بـ10 آلاف جندي عن العدد المطلوب، بينهم 7 آلاف مقاتل، و3 آلاف عنصر دعم قتالي، فضلًا عن نقص في جاهزية المعدات.
ولا تقف التحدّيات عند البُعد العسكري؛ إذ يحذّر خبراء اقتصاديون من التكلفة الباهظة لإعادة احتلال كامل القطاع. ووفق الصحافي جاد ليور في يديعوت أحرونوت، قد تتراوح التكلفة السنوية بين 120 و180 مليار شيكل (حتى 53 مليار دولار)، ما يُشكّل عبئًا ثقيلًا على ميزانية الدولة، ويؤثّر على المواطنين والشركات.
المدّعية العامة العسكرية حذّرت هي الأخرى من تبعات قانونية وإنسانية، مؤكدة أن السيطرة على أكثر من 75% من مساحة القطاع، ستفرض على إسرائيل مسؤولية مباشرة عن توفير الغذاء، والماء، والتعليم، والصحة، والبنية التحتية لمئات آلاف الفلسطينيين، ما سيزيد الضغوط السياسية والقانونية، ويقوّض الشرعية الدولية التي ما زالت بعض الدول تمنحها للعملية العسكرية.
ومع ذلك، يمضي نتنياهو في خطته، مدعومًا من وزراء مثل إيتمار بن غفير، الذي شدّد على أن “المستوى السياسي هو من يتخذ القرارات”، ورفض أيّ تدخل في رسم الاستراتيجية العسكرية. وأعلن نتنياهو، متجاهلًا التحذيرات الداخلية والخارجية، تسريع خطة احتلال غزة، مؤكدًا أن القوات ستتقدّم “سريعًا نسبيًا” للسيطرة على المدينة، التي وصفها بأنها “المعقل الأخير لحماس”.
مؤشرات ميدانية
بعيدًا عن الجدل السياسي والعسكري الدائر في أروقة القرار الإسرائيلي، شرع جيش الاحتلال فعليًا في تنفيذ خطوات عملياتية، تمهّد لتوسيع العدوان ليشمل ما تبقّى من مدينة غزة. فقد بدأ الجيش بعملية تطويق المدينة، بالتزامن مع مجزرة استهدفت خيمة الصحفيين عند بوابة ما تبقى من مجمّع الشفاء الطبي غرب غزة، وأدّت إلى استشهاد ستة من الصحفيين، بينهم مراسلا قناة الجزيرة أنس الشريف ومحمد قريقع.
دماؤهم تكتب الحقيقة التي يخشاها الاحتلال، وأصواتهم تتردد في أذهاننا رغم كل محاولات إسكاتها. pic.twitter.com/PhJuuVivUD
— نون بوست (@NoonPost) August 14, 2025
المناطق الجنوبية الشرقية من المدينة، لا سيما شارع 8 في حيّ الزيتون، والمناطق الشرقية من حيّ الصبرة، شهدت تمهيدًا ناريًا كثيفًا، تخللته عمليات نسف بواسطة روبوتات مفخّخة، إلى جانب غارات جوية، وقصف مدفعي على مئات الأهداف. وقد دفعت هذه الهجمات إلى موجات نزوح جماعي نحو المناطق الغربية من المدينة، المكتظّة أصلًا بمئات الآلاف من أهالي شمال وشرق القطاع.
وفي الشمال، تركزت التحركات الإسرائيلية على المناطق المحاذية لحدود مدينة غزة، بما في ذلك أحياء الفالوجا، وأبو شرخ، والنزلة، وبئر النعجة، وصولًا إلى ما وُصف سابقًا بـ”محور مفلاسيم”، وهو الشارع الفاصل بين المدينة وشمال القطاع. وسبقت هذه التحركات استهدافات ممنهجة للمباني المرتفعة في غزة القديمة وشمال القطاع، بهدف توفير غطاء تحرك آمن نسبيًا للقوات المهاجمة، وتقليل خطر الرصد أو عمليات القنص التي تنفذها المقاومة، ما يضع هذه الضربات في إطار التمهيد المباشر لتحرّك بري أوسع.
المعطيات الميدانية تشير بوضوح إلى أن الخطة التي يناقش قادة الاحتلال تفاصيلها العملياتية، تُمثّل استكمالًا أو “مرحلة ثانية” لعملية “عربات جدعون“، التي أفضت إلى السيطرة على نحو 70% من مساحة القطاع.
وباتت هذه المناطق نقطة الانطلاق نحو استكمال الاحتلال، بدءًا من مدينة غزة، مرورًا بالمخيمات الوسطى، وصولًا إلى منطقة المواصي، ومن ثم إلى رفح التي يُخطّط لتحويلها إلى ما تسمّيه إسرائيل “مدينة إنسانية”، بينما هي في الواقع سجن ضخم يُمهّد لسيناريو التهجير الكامل لسكان القطاع.
الخطة الفعلية: تدمير شامل وتهجير
بعيدًا عن السرديّات التي يروّجها بنيامين نتنياهو، والذي فاق وزير البروباغندا النازي يوزف غوبلز في قدرته على التلاعب بالحقائق وتزييفها، تكشف الوقائع الميدانية أن السلوك الإسرائيلي في قطاع غزة يسير بوتيرة متكاملة نحو هدف واحد، وهو تحويل كامل القطاع إلى كومة من الركام.
صحيفة هآرتس العبرية أوضحت، في تقرير للكاتبة داليا شيندلين، أن نتنياهو يحاول التخفيف من وطأة خطته عبر خطاب يتحدث عن “سيطرة محدودة” على مدينة غزة، لا على كامل القطاع، ويصفها بأنها ليست احتلالًا بل “تحريرًا”، مع وعود بإنهاء الحرب بشروط إسرائيلية، واستعادة الأسرى، وترك الإدارة المدنية لجهة أخرى.
لكن الصحيفة شدّدت على أن معظم هذه الادعاءات “كاذب على الأرجح”، مستندة إلى سوابق تاريخية تشير إلى أن إسرائيل ستحتفظ بسيطرة أمنية وعسكرية طويلة الأمد، وأن ما يُسوّق على أنه احتلال مؤقت، ليس إلا ستارًا لواقع مختلف تمامًا.
إن ما يجري ليس استجابة لانسداد مسار تفاوضي، ولا خطة مستحدثة، بل هو انتقال إسرائيلي مدروس إلى المرحلة الأكثر تقدّمًا في تنفيذ الهدف الفعلي للحرب، والمتمثل في إعدام كل مظاهر الحياة في غزة،
هذا الواقع يتجسّد في النموذج الذي بدأ شمال القطاع ومدينة رفح جنوبه، وتوسّع بعد انهيار اتفاق التهدئة في مارس/ آذار 2024، ليُصبح جوهر خطة “عربات جدعون” قائمًا على التمركز طويل الأمد، واستكمال التدمير الشامل لأكثر من ثلثي مساحة القطاع.
وكانت هآرتس قد كشفت أيضًا أن عمليات الهدم تتمّ عبر مقاولين إسرائيليين يعملون تحت إشراف الجيش، ويتقاضون نحو 5 آلاف شيكل (1500 دولار) عن كل مبنى، ويدفعون القادة الميدانيين لتوسيع نطاق التدمير.
فيما تعكس تصريحات نتنياهو نفسه الهدف الحقيقي؛ إذ ردّ على انتقادات ضباط احتياط، قائلًا بغضب: “نحن ندمّر غزة عن بكرة أبيها… يجب ألا يكون لهم مكان يعودون إليه، ويجب أن يرحلوا”.
وفي انسجام كامل مع هذه الرؤية، كان قد صرّح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بأن الجيش “لن يُبقي حجرًا على حجر” في القطاع، مؤكدًا أن المرحلة الحالية تشهد “تحوّلًا تاريخيًا” سيدفع سكان غزة جنوبًا، ومن هناك إلى دول أخرى، ضمن ما وصفه بخطة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مع تقديم مساعدات “بالحدّ الأدنى الضروري” لتجنّب اتهامات بارتكاب جرائم حرب.
بربط هذه الوقائع، يتّضح أن ما يجري ليس استجابة لانسداد مسار تفاوضي، ولا خطة مستحدثة، بل هو انتقال إسرائيلي مدروس إلى المرحلة الأكثر تقدّمًا في تنفيذ الهدف الفعلي للحرب، والمتمثل في إعدام كل مظاهر الحياة في غزة، ودفنها تحت الركام، ودفع سكانها إلى خيارين لا ثالث لهما: الموت بأشكاله المتعدّدة داخل القطاع، أو الاندفاع إلى “السجن الكبير” في رفح، انتظارًا لتهجير قسري يُراد تمريره تحت لافتة “الخيار الطوعي”.