هل وصل الذكاء الاصطناعي إلى طريق مسدود؟

ترجمة وتحرير: نون بوست
كان من المفترض أن يشكل إطلاق شركة “أوبن إيه آي” لنموذج الذكاء الاصطناعي الجديد “جي بي تي – 5” الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة الأسبوع الماضي، لحظة كبيرة للشركة.
وقد أشاد المدير التنفيذي سام ألتمان بـ”جي بي تي – 5″ باعتباره “خطوة مهمة على طريق الذكاء الاصطناعي العام”، أي أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تتجاوز مستوى الذكاء البشري.
غير أن مسؤولي “أوبن إيه آي” كانوا يعتقدون أيضًا أن النموذج الجديد سيعمل على تحسين بعض العيوب في “شات جي بي تي”، روبوت الدردشة متعدد الأغراض الذي نما بسرعة أكبر من أي تطبيق استهلاكي في التاريخ.
وقال نيك تورلي، رئيس “شات جي بي تي” في “أوبن إيه آي”: “الأجواء المحيطة بإطلاق هذا النموذج جيدة جدًا، وأعتقد أن الناس سيشعرون بذلك حقًا”؛ لكن الأجواء لم تكن جيدة؛ فقد شارك المستخدمون صورًا على وسائل التواصل الاجتماعي للنموذج الجديد وهو يرتكب أخطاء أساسية كانت تعاني منها النماذج السابقة بعد فترة وجيزة من إطلاقه، مثل تصنيف خاطئ لخريطة الولايات المتحدة، والأهم من ذلك أن المستخدمين المتقدمين للنماذج السابقة من “أوبن إيه آي” أعربوا عن خيبة أملهم من التغيير الذي طرأ على “شخصية” النموذج، وأدائه الذي لم يكن مبهرًا في المعايير مقارنة بالمنافسين.
بعد كل هذه الضجة، يُنظر إلى النموذج اللغوي الكبير على نطاق واسع على أنه تحسين تدريجي على النماذج السابقة، وليس التغيير الكبير الواعد في القدرات كما في الإصدارات السابقة من “جي بي تي”.
ويقول توماس وولف، المؤسس المشارك والرئيس العلمي لشركة الذكاء الاصطناعي المفتوحة المصدر “هاجينج فيس”: “بالنسبة لـ”جي بي تي – 5″… توقع الناس اكتشاف شيء جديد تمامًا، ولكننا لم نحصل على ذلك هنا”.
بعد استثمار مئات المليارات من الدولارات في الذكاء الاصطناعي التوليدي والبنية التحتية الحاسوبية التي تدعمه، يظهر سؤال يطرح نفسه فجأة على وادي السيليكون: ماذا لو كان هذا هو أفضل ما يمكن تحقيقه؟
على مدى السنوات الثلاث الماضية، اعتاد الباحثون والمستخدمون والمستثمرون في مجال الذكاء الاصطناعي على وتيرة سريعة من التحسينات؛ وحينما بدا أن “أوبن إيه آي” تتمتع بصدارة لا يمكن تجاوزها، قلصت الشركات المنافسة مثل جوجل، و”ديب سيك”، و”أنثروبيك”، و”إكس إيه آي” التابعة لإيلون ماسك، الفجوة في مجال التطوير.
وقد أشعل هذا السباق المتزايد الوعود بأن الذكاء الاصطناعي العام وشيك، حتى أن ألتمان توقع أنه سيأتي خلال رئاسة دونالد ترامب، لكن الكثير من تلك التوقعات – التي تدعم التقييم الجديد المقدر بـ 500 مليار دولار لـ “أوبن إيه آي” – اصطدمت بالواقع عندما لم يلب “جي بي تي – 5” التوقعات.
ويقول غاري ماركوس، الناقد البارز للذكاء الاصطناعي والأستاذ الفخري لعلم النفس وعلم الأعصاب في جامعة نيويورك: “كان “جي بي تي – 5″ هذا رمزًا مركزيًا للنهج الكامل للتوسع للوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام، لكنه لم ينجح”.
وكان ستيوارت راسل، أستاذ علوم الحاسوب في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، من أوائل الباحثين الذين حذروا من مخاطر قدرات الذكاء الاصطناعي التي تتجاوز قدرة البشر على التحكم فيها، لكنه الآن يشبه ما يحدث اليوم ببداية “شتاء الذكاء الاصطناعي” في الثمانينيات، عندما فشلت الابتكارات في ذلك الوقت في تلبية التوقعات وتحقيق عائد مقابل الاستثمار.
يقول راسل: “ثم انفجرت الفقاعة، لم تحقق الأنظمة أي أرباح، ولم نجد تطبيقات ذات قيمة عالية بما فيه الكفاية. في غضون بضعة أشهر، أصبح الأمر أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية، والجميع يركضون حتى لا يكونوا آخر من يحمل طفل الذكاء الاصطناعي.”
يجادل آخرون بأن التكنولوجيا لا تزال في مراحلها الأولى، وأن منتجات الذكاء الاصطناعي تحظى بشعبية كبيرة، ولكنها لا تزال في مرحلة مبكرة نسبيًا من اعتمادها في التطبيقات التجارية. في الوقت الحالي، لا يزال رأس المال يتدفق إلى الشركات الناشئة ومشاريع البنية التحتية للذكاء الاصطناعي.
بالمقابل؛ يحذر راسل من أن خطر رفع التوقعات بشكل مفرط يمكن أن يرتد بسهولة على مروجي الذكاء الاصطناعي إذا قرر المستثمرون أن الفقاعة مبالغ فيها، ويحذر قائلاً: “سيهرعون إلى الملاذات الآمنة بأسرع ما يمكن، وهكذا قد تنهار الأمور بسرعة كبيرة جدًا”.
ويكمن جزء من المشكلة في الطريقة التي تبني بها الشركات نماذج اللغة الكبيرة؛ فعلى مدى السنوات الخمس الماضية، تمكنت شركات مثل “أوبن إيه آي” و”أنثروبيك” من تحقيق تحسينات مستمرة في أداء أنظمتها باستخدام صيغة بسيطة: المزيد من البيانات والمزيد من القدرة الحاسوبية يساوي نماذج أكبر وأفضل.
لا يزال العديد من قادة الذكاء الاصطناعي يعتقدون أن “قوانين التوسع” هذه يمكن أن تستمر لسنوات قادمة، لكن هذا النهج بدأ يصل إلى حدود موارده المتاحة:
أولاً، استهلكت شركات الذكاء الاصطناعي جميع بيانات التدريب المجانية المتاحة على الإنترنت، وهي تسعى الآن للحصول على المزيد من الوقود لنماذجها من خلال إبرام صفقات لمشاركة البيانات مع الناشرين وأصحاب حقوق الطبع والنشر، ولكن من غير الواضح ما إذا كان هذا كافيًا لفتح آفاق أكبر لتطور هذا المجال (أبرمت صحيفة “فاينانشال تايمز” و”أوبن إيه آي” صفقة لمشاركة المحتوى.)
وتواجه مختبرات الذكاء الاصطناعي أيضًا قيودًا تتعلق بقوة الحوسبة؛ حيث يتطلب تدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة استهلاكًا كبيرًا للطاقة؛ فقد تم تدريب “جي بي تي – 4” في عام 2022 باستخدام عدة آلاف من رقائق شركة إنفيديا، وتشير التقديرات إلى أن “جي بي تي – 5” تم تدريبه باستخدام مئات الآلاف من معالجات الجيل التالي من إنفيديا، مع وجود رقائق أكثر قوة في الطريق.
وأقر ألتمان هذا الأسبوع بأن شركته تواجه بعض القيود، لكنه قال للصحفيين في عشاء في سان فرانسيسكو إنه النماذج الأساسية للذكاء الاصطناعي “لا تزال تتحسن بوتيرة سريعة”، لكن روبوتات الدردشة مثل “شات جي بي تي” “لن تتحسن كثيرًا”.
ويقول بعض الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي إن التركيز الكبير على توسيع نطاق نماذج اللغة الكبيرة والمحولات – وهي البنية التحتية للتكنولوجيا التي أنشأتها غوغل في عام 2016 – كان له تأثير محدود؛ حيث جاء على حساب طرق أخرى.
ويقول يان ليكون، كبير العلماء في شركة “ميتا”، والذي يعتبر أحد “الآباء المؤسسين” للذكاء الاصطناعي الحديث: “نحن ندخل مرحلة من العائد المتناقص مع نماذج اللغة الكبيرة المدربة على النصوص. لكننا بالتأكيد لم نصل إلى آخر حدود أنظمة الذكاء الاصطناعي القائمة على التعلم العميق والمدربة على فهم العالم الحقيقي من خلال الفيديو ووسائط أخرى”.
تُدرَّب هذه النماذج العالمية على عناصر من العالم المادي تتجاوز اللغة، وهي قادرة على التخطيط والتفكير وامتلاك ذاكرة دائمة، ويمكن أن تدفع البنية الجديدة التقدم في السيارات ذاتية القيادة، والروبوتات، أو حتى مساعدي الذكاء الاصطناعي المتقدمين.
وتقول جويل بينو، الرئيسة السابقة لبحوث الذكاء الاصطناعي في “ميتا”، الرئيسة التنفيذية الحالية للذكاء الاصطناعي في شركة “كوهير” الناشئة: “هناك مجالات واسعة للتحسين.. لكننا نحتاج إلى إستراتيجيات جديدة للوصول إلى هناك، فمجرد الاستمرار في إضافة الحوسبة واستهداف الذكاء الاصطناعي العام النظري لن يكون كافيًا”.
وبدأت الشكوك حول تباطؤ معدل تطور الذكاء الاصطناعي تؤثر بالفعل على سياسة التجارة والتكنولوجيا في الولايات المتحدة؛ فقد كان التركيز خلال إدارة الرئيس جو بايدن منصبًا بشكل حازم على السلامة والتنظيم، وأقنع المديرون التنفيذيون في وادي السيليكون العديد من الموظفين بأن النمو الحاد في قدرات الذكاء الاصطناعي قد تكون له عواقب خطيرة بحلول نهاية العقد.
من جهة أخرى؛ فإن ميول دونالد ترامب الليبرالية تعني أن تنظيم الذكاء الاصطناعي كان دائما أقل أولوية مما كان عليه في إدارة بايدن، ولكن المخاوف بشأن الأمن القومي بدأت تتصدر المشهد قبل بضعة أشهر؛ حيث هددت واشنطن بتشديد ضوابط التصدير على رقائق “إتش 20” من شركة “إنفيديا”، التي صُممت لمطوري الذكاء الاصطناعي في الصين.
وجاءت إحدى الإشارات على تغير الرؤية السائدة في واشنطن من ديفيد ساكس، خبير الذكاء الاصطناعي في إدارة ترامب؛ والذي أعلن في منشور طويل على منصة “إكس” في وقت سابق من هذا الشهر أن “التنبؤات المروعة بفقدان الوظائف مبالغ فيها بقدر المبالغة في الذكاء الاصطناعي العام نفسه”.
وبدلاً من وجود ذكاء اصطناعي عام سريع وذاتي التطور، حقق سوق الذكاء الاصطناعي حالة من توازن “المعتدل”، كما كتب ساكس؛ مع وجود العديد من الشركات المتنافسة ودور واضح للبشر في توجيه ما يفعله الذكاء الاصطناعي.
بعد ذلك بوقت قصير، أبرم ترامب صفقة جديدة مع رئيس شركة “إنفيديا”، جنسن هوانغ، لاستئناف مبيعات رقائق “إتش20” إلى الصين، وقال إنه سيفكر حتى في السماح ببيع نسخة معدلة من أنظمة “بلاكويل” الأكثر قوة التي تنتجها “إنفيديا” إلى الصين.
ويقول المحللون إنه مع عدم اعتبار الذكاء الاصطناعي العام خطرًا الآن، تحول تركيز واشنطن إلى ضمان أن تسيطر رقائق ونماذج الذكاء الاصطناعي الأمريكية الصنع على العالم.
ويقول كيغان مكبرايد، المستشار السياسي الأول في مجال التكنولوجيا في معهد توني بلير: “الإدارة الأمريكية الحالية واضحة في رغبتها في تعزيز المشاركة الدولية، والعمل مع دول أخرى لمساعدتها على تبني الذكاء الاصطناعي الأمريكي. وهذا يمثل انحرافًا كبيرًا عن الجهود السابقة، ويرجح أن يكون هذا نتيجة اعتقاد مختلف باحتمالية حدوث سيناريو انطلاق سريع للذكاء الاصطناعي العام”.
قد لا يكون ذلك ما قصدته “أوبن إيه آي”، ولكن ما يتضح من إطلاق “جي بي تي – 5” هو أن طبيعة سباق الذكاء الاصطناعي قد تغيرت.
ويقول سياش كابور، الباحث في جامعة برينستون، إن شركات الذكاء الاصطناعي “بدأت تدريجيًا في إدراك أنها تبني بنية تحتية للمنتجات” بدلاً من مجرد بناء نماذج أكبر وأكثر بريقًا.
وقام كابور وفريقه في برينستون بتقييم النماذج الرائدة في الذكاء الاصطناعي لمعرفة كيفية أدائها عند تطبيقها على مهام تتراوح بين البحث العلمي والمهام عبر الإنترنت إلى البرمجة وخدمة العملاء، ووجدوا أن أداء “جي بي تي – 5” لم يكن أقل بشكل ملحوظ، بل كان متوسط المستوى بشكل ثابت عبر المهام المختلفة. ويقول كابور: “ما يتميز فيه حقًا هو كونه فعالًا من حيث التكلفة وأسرع بكثير من النماذج الأخرى”.
قد يفتح هذا الباب أمام مزيد من الابتكار في أنواع المنتجات والخدمات التي تُستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي لإنشائها، حتى لو لم يؤدِ ذلك إلى تحقيق تقدم استثنائي نحو الذكاء الاصطناعي العام أو ما يُعرف بالذكاء الفائق.
ويقول مايلز بروندج، باحث سياسات الذكاء الاصطناعي وموظف سابق في “أوبن إيه آي”: “من المنطقي أن يركز الناس بشكل أكبر على التطبيقات مقارنة بالأفكار الأكثر تجريدية مثل الذكاء الاصطناعي العام مع تطبيق الذكاء الاصطناعي بطرق مفيدة كثيرة. لكن من المهم ألا نغفل حقيقة أن هذه تقنيات ذات أغراض عامة للغاية لا تزال تتطور بسرعة كبيرة، وأن ما نراه اليوم لا يزال محدودًا جدًا مقارنة بما هو قادم”.
وبدأت “أوبن إيه آي” وشركات الذكاء الاصطناعي الرائدة الأخرى مثل “كوهير” و”ميسترال” و”إكس إيه آي” في توظيف ما يُعرف بالمهندسين المدمجين، الذين يتم دمجهم في شركات العملاء لدمج نماذجهم في أنظمة العملاء.
ويقول كابور: “لن تفعل الشركات ذلك إذا كانت تعتقد أنها قريبة من أتمتة جميع الأعمال البشرية إلى الأبد”.
ويبدو أن مستثمري وادي السيليكون لا يشعرون بقلق كبير إزاء تباطؤ التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي؛ حيث تستمر تقييمات الشركات الناشئة في الارتفاع، وكذلك الأسهم المدفوعة بالذكاء الاصطناعي في وول ستريت، مع ارتفاع تقييم “إنفيديا” بنحو الربع في الأشهر الثلاثة الماضية إلى 4.4 تريليونات دولار، وهو ما يقارب أعلى مستوى لها على الإطلاق.
وارتفعت أسهم شركة سوفت بنك – إحدى أكبر المستثمرين في شركة “أوبن إيه آي”، والتي يرى قائدها ماسايوشي سون إنشاء الذكاء الفائق باعتباره مهمته الإرشادية – بأكثر من 50 بالمائة في الشهر الماضي. قد لا تتناسب إيرادات شركات الذكاء الاصطناعي بعد مع نماذج التقييم التقليدية، لكن إنفاق المستهلكين والاستخدام ينموان بمعدلات غير مسبوقة.
وينجذب المستثمرون إلى النمو السريع لـ”شات جي بي تي” – الذي دفع الإيرادات السنوية المتكررة للشركة إلى 12 مليار دولار – أكثر من انجذابهم إلى احتمال ظهور الذكاء الاصطناعي العام في المستقبل القريب. ويقول ديفيد شنايدر، شريك في شركة “كوتو مانجمنت”، أحد مستثمري “أوبن إيه آي”، إن منتج الشركة، مثل “غوغل” من قبله، “أصبح الفعل” بالنسبة لأولئك الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي.
ويعتقد الكثيرون أن هناك قيمة هائلة لم تُستغل بعد في الجيل الحالي من النماذج؛ حيث يقول بيتر دينغ، المدير التنفيذي السابق في “أوبن إيه آي” و”أوبر” و”فيسبوك”، والشريك العام الآن في شركة رأس المال الاستثماري “فيليسيس”، التي استثمرت في شركة برمجة الذكاء الاصطناعي “بولسايد” وشركة إنتاج الفيديو الناشئة “رنواي”: “الشركات والأعمال الناشئة لم تبدأ بعد في استكشاف إمكاناتها في التطبيقات التجارية والاستهلاكية”.
ربما يكون “جي بي تي – 5” قد خيب الآمال، ولكن مع اعتماد وادي السيليكون أكثر على “الأجواء” بدلاً من المعايير العلمية، فإن هناك مؤشرات قليلة على أن موسيقى الذكاء الاصطناعي ستتوقف في أي وقت قريب. يقول وولف من شركة “هاجينج فيس”: “لا يزال هناك الكثير من الأشياء الرائعة التي يمكن إنشاؤها، حتى لو لم يكن ذلك الشيء هو الذكاء الاصطناعي العام أو الذكاء الفائق المجنون”.
المصدر: فاينانشال تايمز