هل تنجح واشنطن في الانفراد بحل أزمة السودان؟

غادر رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان مدينة بورتسودان في 11 أغسطس/آب الحالي، إلى سويسرا في زيارة غير معلنة لمقابلة مستشار الرئيس الأميركي لشؤون أفريقيا، مسعد بولس.
عُقدت المقابلة، وهي أرفع لقاء بين مسؤولي البلدين منذ الانقلاب الذي نفذه قائدا الجيش والدعم السريع في 25 أكتوبر/تشرين الأول، في مدينة زيورخ، حيث ناقشا إنهاء النزاع وتوصيل المساعدات الإنسانية، علاوةً على مكافحة الإرهاب وإجراء تفاوض مباشر مع الإمارات.
شهدت العلاقات بين البلدين تحسنًا كبيرًا بعد عزل الرئيس عمر البشير في 2019، حيث دعمت واشنطن الحكومة الانتقالية المدنية برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، وغيرها من الإجراءات، لكن سرعان ما ساءت العلاقات بعد الانقلاب الذي وصفته بأنه استيلاء على السلطة.
ولم تنشط الولايات المتحدة في ملف السودان منذ ذلك الوقت منفردة، كما أنها لم تشارك في أي مباحثات بوفد رفيع المستوى، بما في ذلك المباحثات التي عُقدت بين الجيش ومليشيا الدعم السريع في مدينة جدة، حيث شاركت الوساطة مع السعودية.
وعلّقت الوساطة التفاوض في أواخر 2023، نظرًا لعدم تنفيذ طرفَي النزاع إجراءات بناء الثقة، التي شملت إبعاد القوات من المدن، وإعادة احتجاز قادة النظام السابق.
🚨عن لقاء البرهان بمستشار #ترامب مسعد بولس في سويسرا:
واشنطن تتحفّظ بشدّة على كشف أي تفاصيل (أو حتى تأكيد اللقاء)، لأسباب مفهومة… فأي تحرّك دبلوماسي لأزمة بهذا الحجم يتطلب الحذر والكتمان لضمان فرص نجاحه.
📍هذا ما قاله لي مصدر بالإدارة:
📌 نواصل التواصل مع الأطراف وممثليهم عبر…— Rana Abtar – رنا أبتر (@Ranaabtar) August 14, 2025
استمرار التعثر
حاولت الولايات المتحدة حشد المجتمع لعقد مباحثات بين الجيش والدعم السريع في جنيف في أغسطس/آب 2024، لكن الجيش رفض المشاركة قبل تنفيذ الدعم السريع بنود إعلان جدة، حيث أرسل وفدًا حكوميًا دون أن تُعقد أي مفاوضات.
وتداولت الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية المعنية بالتنمية “إيقاد”، والولايات المتحدة والإمارات والسعودية ومصر وسويسرا، في الأزمة السودانية آنذاك، حيث انتهت المناقشات إلى تكوين تحالف “متحدون“، الذي تمثلت مهامه في وقف الحرب، وإحلال السلام، وحماية المدنيين، وضمان وصول الإغاثة.
وبعد ذلك، أجرى المبعوث الأميركي الخاص للسودان، توم بورييلو، زيارات إلى الدول العربية والأفريقية، كما سافر إلى السودان دون أن يفلح في تحقيق اختراقٍ يدفع طرفي الحرب إلى العودة للتفاوض، وذات الأمر انطبق على تحالف “متحدون”.
ترك بورييلو منصبه، الذي تولاه بعد استقالة السفير الأميركي في السودان، جون غودفري، فور تولي دونالد ترامب مقاليد الحكم، مما ترك فراغًا حاولت الإدارة الجديدة ملأه عبر المجموعة الرباعية التي تتألف من أميركا والسعودية والإمارات ومصر، وكان من المقرر عقد اجتماع في 29 يوليو/تموز السابق، لكنه تأجل لخلافات بين أطراف المجموعة حول محتوى البيان الختامي.
وفشلت محاولات عديدة لإنهاء النزاع في السودان عبر إشراك دول الإقليم، بما في ذلك مساعٍ بريطانية لتشكيل مجموعة اتصال دولية تُسهم في دفع محادثات وقف إطلاق النار في السودان، وذلك في مؤتمر لندن، الذي عُقد بالتزامن مع حلول الذكرى الثانية لاندلاع النزاع.
إذًا، في جميع الحالات، عملت الولايات المتحدة على إشراك الآخرين في ملف السودان، دون أن تحاول قيادته بصورة منفردة للضغط على الجيش والدعم السريع للعودة إلى طاولة التفاوض، باستثناء لقاء البرهان وبولس الأخير، مما يشير إلى حدوث تغيير في سياسة واشنطن.
لماذا التغيير الآن؟
استبق الكونغرس الأميركي هذا التحول بالدخول في إجراءات لتصنيف مليشيا الدعم السريع جماعةً إرهابية، في محاولة جادة لمنع أي دولة، بما في ذلك الإمارات، من التعامل معها وإمدادها بالأسلحة.
ويُعتبر لقاء البرهان وبولس بدايةً لمرحلة جديدة، يُحتمل أن تُمسك فيها واشنطن بخيوط الأزمة، بعيدًا عن تدخلات دول الإقليم، في ظل تضارب مصالحهم حيال ما يجري في السودان، حيث بادرت الولايات المتحدة بتقديم حافزٍ قوي إلى الجيش، يتمثل في استعادة التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وبناء علاقات مباشرة مع السودان، لتأييد خطتها في إنهاء النزاع.
تقول المحللة السياسية تيسير عووضة، في منشور على حسابها في الفيسبوك، إن طرح موضوع التعاون في مكافحة الإرهاب تسبقه دراسةٌ متأنية من الإدارة الأميركية حول مدى قدرة واستعداد الدولة ومؤسساتها المعنية للمساهمة بفعالية في هذا الأمر.
وتشير إلى أن التعاون في هذا المجال يتيح للسودان فوائد استخباراتية وأمنية وعسكرية، تتضمن تدريباتٍ مشتركة، إضافةً إلى الإصلاح السياسي، وعودة النظام المصرفي ضمن المنظومة المالية العالمية.
ولا شك أن رفض الجيش لطلبات روسيا المتكررة بمنحها قاعدةً عسكرية في ساحل البحر الأحمر، وكذلك إيران مقابل دعمه عسكريًا، سيعزز حظوظ السودان في بناء علاقات مباشرة، بما يعني أن الولايات المتحدة تمضي في التخلي عن الشركاء الإقليميين لتأمين مصالحها في البلاد، في ظل تطاول أمد النزاع.
ويلاحظ أستاذ العلوم السياسية في جامعة النيلين، مصعب محمد علي، أن الولايات المتحدة غيّرت سياستها تجاه الحرب في السودان بعد أن وصلت مرحلة الجمود السياسي والعسكري خلال الفترة السابقة، مع فشل جولات التفاوض السابقة في جدة وجنيف.
ويقول لـ “نون بوست” إن واشنطن تريد أن تُحدث اختراقًا هذه المرة، وأن تصل إلى تقدمٍ ملموس ينهي هذا الجمود، حيث يتضح من خلال لقاء البرهان وبولس أنها تريد التحالف مع السودان في مكافحة الإرهاب، وهذا يعني “دعم الجيش وبناء شراكة معه، عكس الدول الأخرى التي ترفض وجود الجيش والدعم السريع في سلطة ما بعد الحرب”.
ويضيف: “لقاء البرهان وبولس هو بدايةٌ لحل الأزمة، وهو جاء بعد إلغاء الرباعية، مما يعني أن واشنطن تحاول أن تنفرد بالحل في السودان من خلال الأولوية في وقف إطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية، كما أن عرض مكافحة الإرهاب يمكن أن يُقرأ في سياق محاولة واشنطن تقديم مغرياتٍ تساعد في تحفيز الجيش لفتح مرونة في المسار السياسي”.
ويوضح مصعب أن التحالف بين واشنطن وتركيا حول البحر الأحمر، خطوةٌ جديدة لأجل صياغة النفوذ على البحر الأحمر والقرن الأفريقي، حيث إن أنقرة عرضت تطوير ميناء بورتسودان، وهو أمر لا ينفصل عن رغبة تعاون واشنطن مع السودان في مكافحة الإرهاب.
هل تسعى واشنطن للانفراد بملف السودان؟
إن محاولة الكونغرس تصنيف مليشيا الدعم السريع جماعةً إرهابية، لا تتيح للإدارة الأميركية التعاون معها إطلاقًا، ضف إلى ذلك الرفض الشعبي الواسع لها بعد ارتكابها انتهاكاتٍ فظيعة، مما يضطرها إلى دعم مطلب البرهان، الذي قدمه إلى بولس، بإبعادها عن المشاركة السياسية في فترة ما بعد الحرب.
ومن الصعوبة إغفال رغبة واشنطن في استعادة نفوذها في أفريقيا بعد تضاؤل الوجود الروسي، حيث يمثل السودان بوابةً إلى القرن الأفريقي ودول شرق القارة، مما يتطلب البحث عن حلٍّ ذي طابعٍ أميركي، يقوم على دعم الجيش كعمودٍ فقري للدولة، مع الضغط لاحقًا لتشكيل سلطة مدنية موسعة.
ولن تملك مصر أن ترفض مساعي أميركا، نظرًا إلى أنها تدعم بقاء الجيش في السلطة، فيما تدعم السعودية أصلًا استقرار شرق السودان، على الأقل لضمان بقاء البحر الأحمر آمنًا، بينما قد تعرقل الإمارات أي تسوية، لكنها لا تملك أدواتٍ فعالة سوى إثارة مزيدٍ من الفوضى.
تكمن الصعوبة في الوضع الداخلي، حيث إن النزاع خلّف دمارًا واسعًا، وأزمةً إنسانية، وجماعاتٍ مسلحة عديدة، وانشقاقاتٍ في القوى السياسية، مع انتشار خطاب الكراهية والاستقطاب الأهلي، ومع ذلك، يستطيع الجيش، الذي يسعى إلى نقل السلطة من بورتسودان إلى الخرطوم بحلول أكتوبر/تشرين الأول المقبل، استعادة زمام الأمر، خاصةً في ظل الدعم السريع، الذي وجده خلال هذا النزاع.
ويتميز الجيش السوداني بعدم الاستعجال في خوض المعارك الفاصلة، مما يعني أنه يهتم بأمر الاستقرار أولًا، وبعد ذلك الإمدادات، قبل أن يشق طريقه في استعادة المواقع التي تسيطر عليها المليشيا حاليًا في كردفان ودارفور، وهذا التمهل يتيح له إبرام صفقاتٍ بضمان بقائه مطولًا في الحكم.
ويبدو أن الولايات المتحدة ستكون مجبرةً في الوقت الراهن على عدم إثارة مسألة نقل السلطة إلى المدنيين حاليًا، لتحمّل الجيش والدعم السريع على وقف إطلاق النار، ومعالجة الأوضاع الإنسانية، كما يُرجّح أن تُيسّر حوارًا مباشرًا بين الخرطوم وأبو ظبي، يُنهي دعم الأخيرة للمليشيا، التي يُحتمل أن تنهار حال توقفت إمدادات الإمارات.
في خاتمة المطاف، فإن لقاء البرهان وبولس يعكس تحوّلًا في طريقة تعامل واشنطن مع الملف السوداني، حيث يظهر أنها عازمةٌ على الانفراد بالحل، بعد أن أثبتت تجارب الشهور الماضية أن إشراك دول الإقليم ذات المصالح المتعارضة لم يُثمر سوى مزيدٍ من التعقيد، ومع ذلك، فإن نجاح هذه المقاربة مرهونٌ بقدرة واشنطن على التوفيق بين مصالح الأطراف الداخلية والخارجية.
وثمة أمرٌ أخير لا يمكن استبعاده، رغم صعوبة تنفيذه، هو دعم واشنطن نوايا المليشيا غير المعلنة بفصل إقليم دارفور وأجزاء من كردفان كأمرٍ واقع، حال سيطرتها على مدينة الفاشر، التي تُعد آخر موقعٍ حضري في الإقليم يخضع لسلطة الجيش، وهذا يعني أيضًا عودة الاستقرار إلى السودان.