لجان التحقيق في سوريا: هل تكسر إرث الإفلات من العقاب؟

لم يكن سقوط النظام البائد مجرد نهاية لحقبة مظلمة طبعت سوريا بالاستبداد والانتهاكات، بل بدا كخيط أمل يفتح الطريق نحو دولة عادلة تكفل الحقوق وتحاسب كل من تورط في جرائم ضد الإنسانية. غير أن الواقع السوري المأزوم سرعان ما كشف أن العدالة لا تُبنى بالشعارات وحدها، إذ برزت انتهاكات جديدة ارتكبها عناصر محسوبون على الحكومة الانتقالية، سواء في أحداث الساحل أو السويداء أو في وقائع وُصفت رسميًا بأنها “فردية”.
أمام ذلك، كان لافتًا أن الحكومة الجديدة لم تنكر هذه التجاوزات، بل سارعت إلى الإقرار بها وتشكيل لجان تحقيق مستقلة لتقصي الحقائق ومحاسبة المتورطين. فمنذ تسلّمها السلطة، أُنشئت لجنتان من هذا النوع، أولاهما عقب أحداث الساحل بمرسوم رئاسي في 9 آذار/مارس 2025، وثانيتهما في 31 تموز/يوليو من العام نفسه للتحقيق في أحداث السويداء.
هذه اللجان، وإن عُدّت اختبارًا لجدية الدولة في الالتزام بالشفافية وسيادة القانون، فقد وُوجهت أيضًا بانتقادات حادة، إما لغياب استقلاليتها أو لعدم توافق آليات عملها مع المعايير الدولية للتحقيقات. من هنا، يناقش هذا التقرير الأبعاد القانونية والدستورية لتشكيل لجان التحقيق في سوريا، والإشكاليات المنهجية في آلية عملها بالإضافة إلى كيفية تعامل الحكومة مع نتائجها.
المعايير الأساسية الدولية لتشكيل اللجان الوطنية
الجدل حول لجان التحقيق في سوريا لا يمكن قراءته بمعزل عن التجارب المقارنة، فمصداقية أي لجنة لا تُقاس فقط بإرادة الحكومة، بل بمدى التزامها بالمعايير الدولية التي شكّلت مرجعًا ثابتًا في العدالة الانتقالية، خاصة أن فعاليتها ومصداقيتها تبقى رهنًا بالالتزام بهذه المعايير التي أرستها التجارب التاريخية والدراسات القانونية، ويلخصها مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني كالتالي:
الاستقلالية: تعني أن تُنشأ لجان التحقيق بنصوص دستورية أو تشريعية تحصّنها من التدخل السياسي، لكن الاستقلال القانوني وحده غير كافٍ من دون استقلالية تشغيلية ومالية تتيح إدارة التحقيق بحرية وتخصيص الموارد بشفافية. لذا يُعد وجود ميزانية مستقلة بصلاحيات إنفاق حرة شرطًا أساسيًا لتفادي الضغوط.
كما تضمن الأطر القانونية صلاحيات التحقيق، مثل استدعاء الشهود والوصول إلى الوثائق وحمايتهم، بعيدًا عن تدخل السلطة التنفيذية. أما تعيين الأعضاء فيبقى مفارقة أساسية، والحل هو آلية تشاركية وشفافة تضم المجتمع المدني والبرلمان وقوى اجتماعية متعددة، بما يعزز شرعية اللجنة ويحمي استقلاليتها.
مدى صلاحية التفويض ووضوحه: يُعد وضوح تفويض لجان التحقيق أمرًا أساسيًا، لأنه يحدد بدقة نطاق عملها ويضع توقعات واضحة أمام الجمهور، مع ضرورة أن يتسم هذا التفويض بقدر من المرونة يتيح متابعة الخيوط الجديدة والأنماط الناشئة، فالتحديد المفرط للصلاحيات قد يقيّد قدرة اللجنة على كشف الحقائق، بينما الغموض قد يؤدي إلى تجاوز الصلاحيات أو التقصير في المهام.
أما من حيث المدة الزمنية، فإن تحديد جداول زمنية واقعية يضمن إنجاز التحقيق دون إطالة تُفقده الزخم أو تضعف ثقة المجتمع، على أن تكون هناك إمكانية محدودة للتمديد عند الضرورة.
وتُشكّل الصلاحيات القانونية عنصرًا مكملًا للتفويض، إذ يجب أن تمنح اللجنة سلطات متناسبة مع مهامها، مثل استدعاء الشهود، الوصول إلى الوثائق، إجراء التفتيش والمصادرة بإشراف قضائي، مع توفير الحماية للضحايا والشهود. وتُمارَس هذه الصلاحيات بما يمكن وصفه بـ “سلطة تقديرية مقيّدة” تمنح المرونة مع الحفاظ على الضوابط القانونية.
التمثيل والتنوع: لا يقتصر نجاح لجان التحقيق على التمثيل الديموغرافي، بل يتطلب أيضًا تنوعًا معرفيًا يوازن بين الخبرة الفنية والقبول المجتمعي، فالتجارب السابقة أثبتت أن هيمنة الخبراء تُضعف الثقة الشعبية، بينما التركيز على التمثيل فقط يُفقد التحقيق الدقة، والحل الأمثل هو تشكيل هجين يجمع الخبرة المهنية مع الشرعية المجتمعية.
ويلعب المجتمع المدني دورًا محوريًا يتجاوز الاستشارة إلى التأثير المباشر في النتائج، لما يملكه من روابط مع الضحايا وخبرة في التوثيق وسلطة أخلاقية، ما يضمن مركزية الضحايا وردم الفجوة بين الرسمي والمجتمعي.
أما التنوع الجندري والعرقي والمناطقي فهو ضرورة عملية، إذ يعزز إشراك مختلف الفئات، ويزيد من شعور العدالة، ويحدّ من النزاعات. وتفرض الطبيعة المتداخلة للهويات إدراكًا عميقًا لتجارب الضحايا وتوقعاتهم للعدالة.
مركزية الضحايا: تمثل إعادة النظر في دور الضحية نقلة نوعية في عمل لجان التحقيق، حيث لم تعد شهاداتهم مجرد أدلة إجرائية، بل صارت مصدرًا معرفيًا أساسيًا يكشف أنماط الانتهاكات التي قد تغيب عن المراقبين التقليديين، لذلك، فإن مشاركة الضحايا الفعلية تستوجب هياكل تشاركية تتيح لهم تحديد أولويات التحقيق، والمساهمة في صياغة بروتوكولات الشهادة، ومراجعة النتائج الأولية قبل نشرها.
هذا النهج يعزز دقة النتائج ومصداقيتها، ويحوّل الضحايا من شهود سلبيين إلى شركاء فاعلين في مسارات العدالة، شرط أن تُصمَّم المشاركة بما يحميهم من إعادة الصدمة ويمنحهم السيطرة على وتيرة سردهم وتفاصيل إفاداتهم.
ولا بدّ من عدم إهمال التوازن بين كشف الحقيقة وحماية كرامة الضحية من خلال إجراءات مرنة تحترم استقلاليتهم، سواء عبر جلسات علنية لمن يرغبون في الاعتراف بمعاناتهم، أو خاصة وسرية لمن يفضلون ذلك، مع اعتماد مبدأ “الموافقة المستنيرة” الذي يضمن وضوح كيفية استخدام الشهادات وآليات حمايتها.
الشفافية والعدالة الإجرائية: تعمل لجان التحقيق في مساحة تجمع بين الطابع الجنائي والتوثيق التاريخي، ما يستلزم قواعد إجرائية تحمي حقوق الأفراد وتضمن في الوقت نفسه مرونة التحقيق. وتشمل هذه الضمانات: إخطار المتهمين مسبقًا، منحهم فرصة للرد، الحق في تمثيل قانوني، والوصول إلى الوثائق ذات الصلة.
كما أن معايير الأدلة والتوثيق تُعد أساسية، إذ يجب وضع أطر واضحة تميز بين درجات اليقين المختلفة، مع الاعتماد على منهجيات متقدمة تجمع بين الشهادات والوثائق والتحليلات الجنائية، وتُصاغ النتائج غالبًا بلغة “الاعتقاد المعقول” بدلًا من “اليقين الجنائي”، ما يتطلب دقة في الصياغة لتفادي الالتباس وضمان الوضوح التحليلي.
الثغرات البنيوية في عمل لجان التحقيق السورية
لا بدّ أن تشكيل هذه اللجان كان خطوة إيجابية، تُشعر المجتمع السوري بعد عقود من التهميش بأن “دماءهم ليست رخيصة”، لكن تبقى هناك إشارات استفهام حول مدى التزام هذه اللجان بالمعايير الأساسية التي تضمن إرساء العدالة وتكريس دولة القانون التي لطالما ابتغاها السوريون.
تبرز أولى الملاحظات في آلية التشكيل، فبدلًا من أن تُنشأ وفق نصوص دستورية وتشريعية ضامنة، يجري تشكيلها عبر مراسيم تنفيذية أقرب إلى التعيين المباشر، وفق ما أوضح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديثه لـ”نون بوست”.
ومع أن هذه الإشكالية لم تُلغِ كليًا إمكانية الاستقلال، فإن التجربة أظهرت تباينًا واضحًا بين اللجان، ففي حين بدت لجنة الساحل قادرة على العمل باستقلالية نسبية، إذ تمكنت من إصدار نتائجها بعيدًا عن الضغوط المباشرة، فإن الأمر يبدو أكثر تعقيدًا مع لجنة السويداء.
فهناك، كما يوضح المحامي غزوان قرنفل، لا يتعلق الأمر بنزاهة الأعضاء بل بحدود قدرتهم على تجاوز البُنى السلطوية، إذ يبقى القضاة خاضعين لوزارة العدل، والمحامون مقيّدين بنقابتهم، والضابط مرتهنًا لتعليماته العسكرية، مشيرًا إلى ضرورة إشراك منظمات دولية مستقلة، مثل “هيومن رايتس ووتش” أو “العفو الدولية”، لإضفاء الضمانات المطلوبة للنزاهة.
ورغم أن لجنة السويداء لا تزال في طور عملها ولم تُعلن نتائجها بعد، إلا أن التجربة السابقة للجنة الساحل وفّرت أرضية مهمة للتقييم، فالدراسة التي أجراها الباحث نوار شعبان، والمعنونة بـ “اختبار الحقيقة والمساءلة: قراءة في تجربة لجنة تقصّي أحداث الساحل السوري”، أوضحت أن التحديات البنيوية والمنهجية ليست تفصيلًا جانبيًا، بل جوهر يحدد قدرة اللجان على تقديم الحقيقة كاملة.
لجنة التحقيق في أحداث #الساحل زارت 33 موقعاً وكشفت على المقابر بحضور الأهالي، وعقدت لقاءات مع عشرات الشخصيات، ودونت 938 إفادة بينها 452 عن القتل و486 عن السلب والحرق والتعذيب.#سوريا pic.twitter.com/C96Ipoqi42
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 22, 2025
يذكر شعبان في دراسته أربعة تحديات أثّرت على فعالية اللجنة، تمثّل أولها، في ضيق النطاق الزمني والمكاني لحصر ولايتها ببداية آذار/مارس 2025 وما تلاه، ضمن 33 موقعًا في ثلاث محافظات، فرغم أنه سمح بتركيز الجهد، لكنه قيّد القدرة على تتبع حوادث مرتبطة خارج هذا الإطار. هذا التقييد، مع غياب إجراءات تعويضية كإصدار ملاحق توثيقية أو استقبال روايات إضافية، ترك انطباعًا بوجود فجوات في التقرير.
ثانيًا، عملت اللجنة في بيئة أمنية معقدة بسبب انتشار “الفلول” واحتمال تجدد الاشتباكات، ما حدّ من الوصول لبعض المناطق والشهود. اعتمدت لذلك على معيار “الشبهة المعقولة” بدل الأدلة القطعية، وهو مقبول في لجان دولية مشابهة، لكنه لم يسمح بتحديد المسؤوليات الفردية بدقة، فبقي الطابع جماعيًا ومبهمًا، رغم إحالة أسماء للنيابة دون إطار متابعة واضح.
أما ثالثًا، فكان حجم البيانات الميدانية محدودًا نسبيًا مقارنة بالانتهاكات، إذ شمل مئات الإفادات وبعض الوثائق والمواد المصوّرة. ضعف الموارد وضيق الزمن أثّرا على التوثيق، وزاد من صعوبة تصنيف المشتبه بهم بسبب تداخل أدوار النظاميين والمدنيين، ما أضعف بناء ملفات مسؤولية فردية.
وأخيرًا، عانت اللجنة من إدارة توقعات المجتمع والتواصل مع الرأي العام، فقد أثارت سرية بعض الإجراءات وتأخر إعلان النتائج شكوكًا بغياب الجدية، بخلاف تجارب دولية اعتمدت استراتيجيات اتصال مرحلية وشفافة.
لجان الحقيقة.. خطوة أولى في مسار المحاسبة
تقييم فعالية اللجان لا يكتمل عند استعراض الملاحظات المنهجية، بل يتجاوزه إلى سؤال أكثر جوهرية: ما الذي ستفعله الحكومة بعد صدور النتائج؟، فالتحدي الحقيقي لم يبدأ مع تشكيل اللجان، بل مع نشر نتائج تحقيق أحداث الساحل.
يُجيب خبراء بأن جدية الحكومة في تنفيذ وعود المحاسبة ستحدد ما إذا كانت لجان التحقيق الوطنية أداة فعّالة للعدالة أم مجرد آلية لاحتواء الغضب، حيث يشدد المحامي باسل سعيد مانع على أن تشكيل اللجان خطوة ضرورية، لكنها غير كافية لضمان العدالة، مؤكدًا أن المطلوب ليس فقط كشف الملابسات، بل تقديم ضمانات علنية بإحالة كل من يثبت تورطه إلى القضاء، مع الالتزام بالشفافية أمام الرأي العام.
كما اعتبرت منظمة العفو الدولية أن الوقت حان لتنفيذ الرئيس السوري أحمد الشرع وعوده بمحاسبة كل من تورط بانتهاكات في أحداث الساحل، بعد الإعلان عن النتائج.
الرئيس #أحمد_الشرع يتسلّم التقرير النهائي للجنة التحقيق الوطنية في أحداث الساحل السوري.#سوريا pic.twitter.com/aSA59Fune0
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 20, 2025
أما الحقوقي فضل عبد الغني، فأكد أن اللجنة أدّت عملها، وأن “الكرة الآن في ملعب السلطات السورية”، داعيًا إياها إلى اتخاذ خطوات حاسمة، مقترحًا ثلاث خطوات رئيسية، أولها اعتقال ومحاسبة جميع الوارد ذكرهم في تقرير اللجنة، بمن فيهم عناصر من الأمن والجيش، باعتبار أن إخفاء الحقائق يضر بمؤسسات الدولة ولا يحميها.
كما شدد على ضرورة إعادة هيكلة مجلس القضاء الأعلى بما يضمن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، وفق المعايير العالمية لتشكيل مجلس القضاء الأعلى، إضافة إلى ذلك، إطلاق عملية تعويض واسعة للضحايا والاعتراف بمعاناتهم.
ولا شك أن اتخاذ أي خطوة في مسار محاسبة المتورطين في قضية الساحل يعزز من الثقة المجتمعية بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات في السويداء، سواء من الأمن العام أو الميليشيات.
في نهاية المطاف، تبدو لجان التحقيق في سوريا اليوم اختبارًا حقيقيًا لجدية الدولة الجديدة في ترسيخ نهج العدالة والمساءلة، فالمجتمع السوري، الذي أنهكته عقود من الانتهاكات والإفلات من العقاب، لم يعد يقبل بلجان شكلية أو نتائج مبتورة، بل يطالب بآليات شفافة تفضي إلى محاسبة فعلية وتعويض منصف للضحايا. وبينما تشكّل لجنتا الساحل والسويداء فرصة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، فإن المماطلة أو الاكتفاء بالرمزية سيضاعف من فجوة الشكوك ويفرغ هذه اللجان من مضمونها.