اللقاء السوري ـ الإسرائيلي في باريس: لماذا يُعد مفصليًا؟

في سابقةٍ سياسيةٍ تاريخية، اجتمع وزير الخارجية والمغتربين السوري، أسعد الشيباني، بوفدٍ إسرائيليٍّ رسميٍّ في العاصمة الفرنسية باريس، مساء الثلاثاء، بحضور المبعوث الأميركي للشرق الأوسط توماس برّاك. في تطورٍ سياسيٍّ فارقٍ يشير إلى تحوُّلٍ حقيقيٍّ في موقع دمشق داخل المعادلة الإقليمية بعد الإطاحة بنظام الأسد.
ووفق ما نقلته وكالة الأنباء السورية “سانا”، فقد تركزت النقاشات على مجموعةٍ من القضايا الأمنية والسياسية، أبرزها: خفض التصعيد، وعدم التدخل في الشأن الداخلي السوري، والتوصل إلى تفاهماتٍ تدعم الاستقرار الإقليمي، بالإضافة إلى مراقبة وقف إطلاق النار في محافظة السويداء، وإعادة تفعيل اتفاق فصل القوات لعام 1974.
حيث تجري هذه المحادثات برعايةٍ أميركيةٍ مباشرة، ضمن مسارٍ دبلوماسيٍّ جديدٍ يهدف إلى تعزيز الأمن، والحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية، وتحييد الجنوب عن الصراع الإقليمي الذي طال أمده.
دلالات الحضور تتجاوز صفاتهم الرسمية
لفهم مغزى هذا اللقاء، لا بد من التوقف عند هوية الأطراف المشاركة فيه، إذ إن اللافت لم يكن فقط في توقيته، ولا طبيعة الملفات المطروحة، بل أيضًا نوعية الحضور التي تعكس تحوُّلًا في أنماط التفاوض الإقليمي. الوفد السوري مثّله وزير الخارجية والمغتربين، أسعد الشيباني، وهو شخصية تُعد من أركان التشكيل السياسي السوري الجديد الذي تولّى السلطة بعد انهيار نظام الأسد.
حيث تولى الشيباني مهامه في مرحلةٍ مبكرةٍ من الفترة الانتقالية، فيما بات يُنظر إليه اليوم على أنه واجهة السياسة الخارجية السورية، وأكثر ميلًا إلى البراغماتية والتفاوض من سابقيه.
في المقابل، شارك من الجانب الإسرائيلي رون ديرمر، وزير الشؤون الاستراتيجية وأحد أبرز مستشاري رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وهو شخصية محورية في صياغة رؤية تل أبيب للأمن الإقليمي، وأحد المهندسين الفعليين لاتفاقيات “أبراهام”، ما يضفي على حضوره طابعًا رسميًا واستراتيجيًا في آنٍ معًا.
أما الوسيط الأميركي، توماس برّاك، فهو رجل أعمالٍ ومبعوثٌ خاصٌّ يتمتع بعلاقاتٍ واسعةٍ في الشرق الأوسط، وسبق أن لعب دورًا في الأسابيع الأخيرة في تقريب وجهات النظر بين كافة الأطراف. كما يعكس وجوده في هذا اللقاء تبنّي واشنطن لنهج الوساطات السياسية بين “إسرائيل” وسوريا الجديدة، ومساهمتها في إعادة ضبط موازين القوى في سوريا عبر أدواتٍ ناعمة.
وفي سياقٍ متصل، التقى برّاك أيضًا بالرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في “إسرائيل”، الشيخ موفق طريف، المقرّب جدًا من سلطات الاحتلال، لمتابعة تطورات الوضع في محافظة السويداء. ووفق ما نشره طريف على صفحته الرسمية في “فيسبوك”، فقد طالب المبعوث الأميركي بعدة خطواتٍ عاجلة، منها: وقف شاملٍ ومستدامٍ لإطلاق النار، وفتح ممرٍّ بريٍّ آمنٍ وبضماناتٍ أميركيةٍ لإيصال المساعدات من إسرائيل إلى السويداء، إضافةً إلى رفع ما وصفه بـ”الحصار”، وتحرير المختطفين، وضمان عودة النازحين إلى القرى الدرزية في شمال وغرب المحافظة.
ملفات محددة ورسائل أعمق
يتوقّع أن تكون النقاشات قد انصبّت على مجموعةٍ من القضايا العملية المرتبطة مباشرةً بالوضع الميداني في الجنوب السوري، مع احتمالاتٍ أن تمهّد هذه الملفات لتفاهماتٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ أوسع نطاقًا وفق ما نقله موقع “أكسيوس”. فيما يُرجّح أن يكون اللقاء قد تركز على مناقشة أربعة ملفات رئيسية هي:
خفض التصعيد في الجنوب
تصدّر ملف التهدئة الميدانية جدول الأعمال، لا سيما في محافظة السويداء التي شهدت في الأشهر الأخيرة تصعيدًا عسكريًا غير مسبوق، مع انتشار مجموعاتٍ مسلّحةٍ محلية، وتحركاتٍ لقوى إقليمية تسعى لملء الفراغ الأمني. إذ يُرجّح أن تكون دمشق قد طالبت بضماناتٍ إسرائيلية ـ أميركيةٍ لوقف عمليات التوسع في المدن السورية الحدودية.
مراقبة اتفاق وقف إطلاق النار
مناقشة آليةٍ مستقرةٍ للإشراف على اتفاق وقفٍ لإطلاق النار، تُبقي الجنوب تحت رقابةٍ مشددةٍ تتم عبر توسيع دور المراقبين الدوليين في المنطقة، وتفعيل خطوط الاتصال المباشر عبر وسطاء أمنيين، لتجنّب أي تصعيدٍ غير محسوب، مع إمكانية إشراك طرفٍ ثالثٍ في ضمان التنفيذ الميداني.
تفعيل اتفاق فصل القوات لعام 1974
يُرجّح أن يكون هذا الملف من بين أولويات الوفد السوري، نظرًا لما يُمثّله من فرصةٍ لإعادة ضبط الوضع الحدودي وتثبيت حالةٍ من الاستقرار الرسمي في الجنوب. فقد كررت دمشق في الأشهر الأخيرة تمسّكها باتفاق فصل القوات الموقع مع إسرائيل عام 1974، كمدخلٍ قانونيٍّ وأمنيٍّ لإخراج الجنوب من دائرة الاشتباك المستمر.
عدم التدخل في الشأن الداخلي السوري
أكد وزير الخارجية أسعد الشيباني في تصريحاتٍ نقلتها وكالة “سانا”، أن من أبرز النقاط المطروحة كانت “ضمان عدم التدخل في الشؤون الداخلية السورية”، باعتبار ذلك شرطًا أساسيًا لنجاح أي مسار تفاهمٍ إقليميٍّ مستقبلي. إذ يبدو هذا المطلب في صلب رؤية الحكومة السورية الجديدة، لكبح أي دعمٍ خارجيٍّ للمجموعات المسلحة غير المنضبطة.
الممر الإنساني نحو السويداء
أما خارج إطار اللقاء السوري ـ الإسرائيلي المباشر، فوفق ما نشره الشيخ موفق طريف على حسابه في “فيسبوك”، فقد طُرح خلال اجتماعه مع المبعوث الأميركي توماس برّاك مطالب بفتح ممرٍّ إنسانيٍّ للسويداء بضماناتٍ أميركيةٍ لنقل المساعدات من “إسرائيل”، بعد رفع ما وصفه بـ”الحصار” عن المدينة، و”تحرير المختطفين”، وتأمين عودة النازحين إلى قراهم شمال وغرب المحافظة.
بمجملها، تعكس هذه الملفات مسارًا تفاوضيًا غير مسبوق، يجمع بين البُعدين الأمني والسياسي، ويُظهر استعداد الأطراف جميعها، لا سيما الحكومة السورية الجديدة، للدخول في تفاهماتٍ إقليميةٍ تمهّد لإعادة تشكيل أو ضبط المشهد في الجنوب.
حسابات الواقع تفرض نفسها
رغم أن لقاء باريس يندرج في سياقٍ إقليميٍّ معقّدٍ وضاغط، إلا أنه لا يعكس بالضرورة تحوُّلًا جذريًا في موقف دمشق من الاحتلال الإسرائيلي، ولا يشير إلى تطبيعٍ معلن. إذ يبدو ما جرى أقرب إلى استجابةٍ ظرفيةٍ لمعادلاتٍ ميدانيةٍ ضاغطة، ومحاولةٍ لاحتواء أزمةٍ مفتوحةٍ في الجنوب السوري، أكثر منه خيارًا استراتيجيًا طويل المدى.
فبعد الإطاحة ببشار الأسد ودخول البلاد في مرحلةٍ انتقاليةٍ حرجة، تواجه دمشق تحدياتٍ مركّبةٍ على أكثر من جبهة، منها: الفراغ الأمني في الجنوب، والضغوط الاقتصادية الخانقة، وتحديات فرض الاستقرار داخليًا، مما يدفع دمشق باستمرار إلى إعادة ترتيب أولوياتها.
كما لا تشير طبيعة اللقاء، ولا تفاصيله، إلى وجود مسارٍ سياسيٍّ واضحٍ باتجاه تسويةٍ دائمةٍ أو اتفاقٍ علنيٍّ مع “إسرائيل”. ورغم كثرة الشكوك التي أشارت لقرب فتح النقاش حول اتفاقية “أبراهام” تحت ضغوطٍ أمريكية، إلا أن التقديرات الغربية، حتى الآن، تُجمع على أن التطبيع مع دمشق لا يزال احتمالًا ضعيفًا، في ظل تركيبة السلطة الجديدة، وتعقيدات العلاقة مع طهران وموسكو، وصعوبة تمرير مثل هذا المسار داخليًا.
على صعيدٍ آخر، تبرز أيضًا دلالةٌ أخرى لا تقل أهمية، تمثّلت في الاجتماع الذي جمع المبعوث الأميركي توماس برّاك بالرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في “إسرائيل”، الشيخ موفق طريف. هذا اللقاء، وما ظهر منه من مطالب، يكشف أن المرجعية الفعلية في معالجة ملف السويداء لا تنحصر في مشيخة العقل داخل المحافظة ممثلةً بالشيخ حكمت الهجري، بل تشمل موفق طريف، المحسوب على الاحتلال الإسرائيلي، والذي بات يُقدَّم في العواصم الغربية كواجهةٍ تفاوضيةٍ في القضايا الدرزية. ما يعني أن ملف السويداء سيبقى لوقتٍ طويلٍ في قلب التجاذبات الإقليمية والدولية، بدل أن يبقى شأنًا محليًا صرفًا.
في المحصلة، يبقى لقاء باريس، بما حمله من رسائل متبادلة، بدايةً لإعادة رسم الاصطفافات في الإقليم. فدمشق تسعى للخروج من عزلتها عبر تفاهماتٍ مؤقتة، وواشنطن تعود إلى الساحة عبر وساطاتٍ محسوبة، فيما تراقب طهران وموسكو بقلق. غير أن ما جرى حتى الآن لا يعدو كونه خطوةً في طريقٍ طويلٍ، لم تتضح ملامحه النهائية بعد.