داخل معركة سوريا لتفكيك دولة الأسد المخدرة

ترجمة وتحرير: نون بوست
بدأت مجموعة أحمد بالتفكك في ديسمبر/ كانون الأول الماضي بعدما أدركوا أفرادها أن المتمردين الإسلاميين، الذين كانوا يخشونهم منذ زمن، قد اجتاحوا العاصمة السورية وأطاحوا بالديكتاتور بشار الأسد.
خوفًا من أن يتعرض للتعذيب والقتل إذا شوهد بملابسه العسكرية، خلعها وفعل ما كان يفعله دائمًا في الأوقات العصيبة داخل الجيش: أشعل سيجارة ولجأ إلى مخزونه من الطوارئ من المخدرات، متناولًا نصف قرص صغير أبيض من الكبتاغون، وهو منشط شديد الإدمان شبيه بالأمفيتامين.
قال أحمد، وهو اسم مستعار، بضحكة ساخرة: “لقد أعطاني دفعة الطاقة التي كنت بحاجة إليها لأمشي عدة ساعات للوصول إلى المنزل. كما منحني الشجاعة – أو في الواقع الوهم – لأعتقد أنني يمكنني مواجهة أي من المتمردين إذا لزم الأمر. لم أكن ممتنًا للمخدرات في حياتي كما شعرت في تلك اللحظة”.
لم يكن هناك نقص في الكبتاغون في عهد الأسد، الذي موّل نظامه خلال الحرب الأهلية المستمرة منذ 14 عامًا عبر صناعة تدرّ خمسة مليارات دولار سنويًا، حوّلت سوريا إلى واحدة من أكثر الدول المنتجة للمخدرات في العالم.
لكن بينما لا يزال أحمد يتعاطى بين الحين والآخر حبة في ملاهي دمشق الليلية، شهدت سوريا منذ ذلك اليوم في ديسمبر/ كانون الأول تحولًا لافتًا: حملة واسعة على المخدرات يقودها الرئيس الجديد أحمد الشرع، الذي يسعى لتفكيك الإمبراطورية التي خلّفها الأسد.
وقال الشرع في الجامع الأموي بدمشق عند توليه السلطة: “لقد تحولت سوريا إلى مصنع ضخم للكبتاغون، واليوم يتم تطهير سوريا منه بفضل الله تعالى.”
كانت النتائج سريعة؛ إذ تراجعت عمليات الإنتاج والتهريب بنسبة تصل إلى 80 بالمائة، وفقًا لتجار مخدرات وأجهزة إنفاذ القانون ومسؤولين حكوميين في المنطقة وباحثين. فقد داهمت السلطات مختبرات الكبتاغون في معاقل النظام السابقة، وأعدمت ملايين الحبوب.
لكن كما أدركت الحكومات الإصلاحية في أمريكا اللاتينية وأماكن أخرى – وكما يكتشف الآن نظام الشرع ذو الموارد المحدودة – فإن بدء حرب على المخدرات أسهل بكثير من الانتصار فيها.
وبينما تباطأ الإنتاج على نطاق صناعي، ردّ المنتجون والمهرّبون والموزعون بالمقاومة، وتهربوا من الاعتقال، وتصدوا للسلطات، مستغلّين الفراغات الأمنية في وقت يكافح فيه النظام الجديد لترسيخ سيطرته على أطراف البلاد الممزقة.
لم يختف الطلب بدوره؛ إذ لا تزال نسخ رخيصة من الكبتاغون متوافرة بسهولة على الرغم من النقص المتزايد في المعروض، ويمكن أن تباع الحبة الواحدة منها بنحو 30 سنتًا في دمشق، بينما تصل النسخ ذات الجودة العالية إلى أسعار تفوق ذلك بنحو 30 ضعفًا في الأردن أو السعودية أو الإمارات.
وقالت كارولين روز، التي ترأس مشروع تجارة الكبتاغون في معهد “نيو لاينز” للأبحاث، إنّه “بعد سقوط نظام الأسد، كان هناك توقع لدى بعض الأطراف – بل وحتى تصريحات – بأن تجارة الكبتاغون قد انتهت، لكن ما أثبتته الأشهر الثمانية الأخيرة في سوريا ما بعد النظام هو أن هذه التجارة غير المشروعة ما زالت بعيدة كل البعد عن الانتهاء”.
تم تصنيع الكبتاغون لأول مرة في ستينيات القرن العشرين على يد شركة أدوية ألمانية، وكان يُستخدم لعلاج بعض الحالات مثل الاكتئاب.
ومنذ زمن طويل حُظر استخدام الكبتاغون، لكنه انتشر في الشرق الأوسط، حيث استُخدم في دول الخليج بين مرتادي الحفلات أو العمال المناوبين، قبل أن يشق طريقه إلى ساحات القتال في سوريا، حيث غذّى المقاتلين بنشوة مكثفة تمكّنهم من القتال لعدة أيام متواصلة.
بالنسبة لنظام الأسد، الذي أضعفته العقوبات والحرب، فقد شكل ذلك فرصة سانحة، فبفضل جزء من صناعة الأدوية ونفاذه إلى البحر المتوسط، تحولت سوريا إلى مركز إقليمي؛ حيث وفر النظام سهولة استيراد المواد الخام، إضافة إلى حصانة فعّالة للمنتجين.
تعزز تورط الأسد وأقاربه والمقرّبون منه في هذا المجال. وكان شقيق الرئيس السابق، ماهر الأسد، الذي ترأس الفرقة الرابعة في الجيش السوري والمعروفة بوحشيتها، المسؤول بدرجة كبيرة عن الإيرادات غير المشروعة لتمويل المجهود الحربي.
وقال أحمد إن ارتباط النظام بعقار الكبتاغون كان عميقًا إلى درجة أنّ الاتجار به انتشر على نطاق واسع داخل الجيش والميليشيات الموالية للأسد، مضيفًا أنه عندما لا يُباع للجنود، كان الضباط القادة يقدّمون الحبوب مجانًا، أو يخلطونها بالشاي والحلوى قبل العمليات، أو لاستخدامها لمساعدة الجنود الذين يعيشون على حصص ضئيلة في التغلب على الجوع.
وأثار التدفق المستمر للمخدرات من سوريا في عهد الأسد غضب جيرانه، وخصوصًا دول الخليج العربي، التي اشتكت من التأثير المدمّر للكبتاغون على مجتمعاتها. فقد ظهرت الحبوب المصنّعة في سوريا في كل مكان، من حفلات الرياض إلى موانئ أوروبا، مع ضبط شحنات وصلت إلى أماكن بعيدة مثل هونغ كونغ وفنزويلا.
بالنسبة للشرع وحركته المتمردة السابقة هيئة تحرير الشام – وهي جماعة إسلامية تعارض الكبتاغون أيديولوجيًا وترى في النظام مثالًا على الانحطاط الأخلاقي – فإن شن حملة لمكافحة المخدر كان واجبًا دينيًا وأخلاقيًا، وفي الوقت نفسه وسيلة لتحسين مكانة سوريا.
نفذت السلطات الجديدة وقواتها الناشئة لمكافحة المخدرات مداهمات واسعة النطاق حظيت بتغطية إعلامية مكثفة في مختلف أنحاء البلاد.
ومنذ ديسمبر/ كانون الثاني، كشفوا عن منشآت تصنيع ضخمة مرتبطة بالنظام السابق وعائلته الحاكمة، مثل مطار المزة العسكري في دمشق والفيلات المملوكة ماهر الأسد وأعوانه.
وذكر “مشروع الكبتاغون” التابع لـ “نيو لاينز” أنّ السلطات صادرت أكثر من 200 مليون حبة ما بين يناير/ كانون الثاني وأغسطس/ آب 2025، أي ما يعادل 20 ضعف الكمية التي صادرتها قوات الأسد طوال عام 2024.
وتعمل الوحدات، التي تضم ضباطًا خدموا سابقًا في مكافحة المخدرات تحت حكم الأسد إلى جانب مجندين جدد، في مختلف أنحاء البلاد، خصوصًا في المناطق الحدودية القريبة من لبنان والأردن والعراق.
وأوضح أحمد أن الموزع الرئيسي له في دمشق اعتُقل مؤخرًا على يد جاره، وهو مقاتل سابق تحول إلى مسؤول في مكافحة المخدرات، بعد أن عاد إلى دمشق في ديسمبر/ كانون الأول.
قال أحمد: “بعد أن تركه في البداية مكتفيًا بعدة تحذيرات، قام المقاتل السابق في نهاية المطاف بمداهمة شقة الموزع، وأخرجه مكبل اليدين إلى فناء المبنى، وأجبره على الركوع محاطًا بأكياس المخدرات، وأهانه أمام جميع الجيران، قبل أن يقتاده إلى السجن”.
وجاء أكبر إنجاز حققته هذه القوات الجديدة في يونيو/ حزيران، حين استدرج ضباط سوريون وسيم الأسد، ابن عم الرئيس السابق الذي وُضع تحت العقوبات الدولية بسبب دوره في تجارة المخدرات، وأعادوه إلى سوريا عبر عملية مُحكمة.
عند عودته من لبنان، حيث كان محميًا من قبل جماعة حزب الله المسلحة، اعتُقل وسيم أثناء محاولته استعادة كميات كبيرة من النقود وسبائك الذهب المخزنة بالقرب من الحدود، وفقًا لمسؤولين أمنيين سوريين.
ومع ذلك، في سوريا كما في أماكن أخرى، غالبًا ما يكون لدى تجار المخدرات خطوة متقدمة.
اصطدمت وحدات مكافحة المخدرات الجديدة مع الموالين للنظام والأشخاص المرتبطين بجماعات ميليشيا حزب الله وإيران الذين يرغبون في الحفاظ على موطئ قدمهم في التجارة.
ووفقًا لمسؤول في وزارة الداخلية في محافظة دير الزور الشرقية، فإن التهديد الأمني الرئيسي لم يعد من مقاتلي تنظيم الدولة، بل من الميليشيات الشيعية العراقية التي لا تزال تدير شبكات الكبتاغون على جانبي الحدود.
وقال: “في كل منشأة كبتاغون نداهمها، نجد الكثير من الأسلحة”.
في زاوية مغبرة من محافظة السويداء الجنوبية، على مسافة قصيرة من الحدود الأردنية، حافظت الشبكات الإجرامية القديمة المرتبطة بنظام الأسد أو القبائل العربية البدوية على استمرار التجارة.
وقد نجح المهربون في البقاء جزئياً لأنهم يعملون في مناطق – بما في ذلك الشمال الشرقي الذي تسيطر عليه الأكراد – لم تتمكن الحكومة الجديدة من السيطرة عليها، حيث اضطرت قوات الشرع مؤخرًا إلى الانسحاب من السويداء بعد اشتباكات طائفية.
وتحلق طائرات تجارية مسيرة صغيرة وصواريخ خالية من المتفجرات، ومؤخرا بالونات يتم التحكم فيها عن بعد – جميعها محملة بالأقراص – عبر الحدود إلى الأردن؛ حيث يتم بيع محتوياتها إلى دول الخليج العربية.
يتم اعتراض بعض الشحنات، ويقول السكان المحليون إن محاولات التهريب أصبحت أقل بكثير مما كانت عليه في السابق. قال أحد سكان المنطقة الحدودية: “كنا نرى عشرات السيارات تمر عبر قريتنا الهادئة و10 محاولات في اليوم. الآن يمكن أن يمر يومين أو ثلاثة أيام دون أن نرى محاولة واحدة”.
لكن ليس من الصعب تجنيد مهربين في السويداء، حيث الوظائف قليلة والفقر منتشر، كما يقول المهربون. يتم إغراء الشباب بعروض لكسب آلاف الدولارات مقابل نقل حقيبة تزن 25-30 كيلوغرامًا من الكبتاغون عبر الحدود بقيمة لا تقل عن 25 ألف دولار.
ووفقًا للمهربين ومسؤولي إنفاذ القانون والمحللين، فإن بعض حرس الحدود في سوريا – المعروفين بتلقيهم رشاوى للسماح بالتجارة – ظلوا في أماكنهم بسبب نقص الموظفين
وقال مهرب سابق: “كنا نعرف أي حراس الحدود المتورطين ونتأكد من التعامل معهم فقط. هؤلاء الأشخاص نفسهم ما زالوا يغضون الطرف”.
وبينما قد تنظف السلطات في النهاية صفوفها من الجنود والضباط الفاسدين، فإن إغراء الثراء السريعة يمكن أن تجذب المجندين الجدد أيضًا.
قال ضابط متخفي في قوات مكافحة المخدرات في القلمون، وهي منطقة حدودية مع لبنان، إنهم كافحوا لعدة أشهر للتحقيق في قضية أحد أكبر التجار المعروفين الذي نقل معامل إلى لبنان لكنه لا يزال يدير طرق التهريب عبر سوريا.
وفي النهاية، بدأ يشك في أن الضباط داخل وحدته الخاصة كانوا يلعبون دورًا مزدوجًا. وقال الضابط: “لا يمكننا الاقتراب منه، إنه يعرف متى تتم المداهمات.. لا بد أن بعض الأشخاص في وحدتنا يحذرونه”.
في مواجهة تجارة راسخة، قال المهربون والسكان المحليون لصحيفة فاينانشال تايمز إن السلطات لجأت إلى أساليب أكثر قسوة؛ حيث قال مسؤول أردني إن البلاد ستستخدم “القوة المتناسبة وغير المتناسبة” لصد هذه التجارة.
وقال المهرب السابق عن حراس الحدود الأردنيين: “لم يكونوا يقتلوننا أبدًا، لكن الآن يطلقون النار على أي شخص يقترب من الحدود ليلاً”.
في نهاية المطاف، بعيدًا عن الحدود، لا يزال السوريون يتحملون تكاليف إمبراطورية المخدرات التابعة للأسد.
تمتلك البلاد أربعة مراكز فقط لعلاج الإدمان، وتوفر المستشفيات في الغالب فترة انسحاب بسيطة أولية مدتها أسبوعان فقط، دون أي برنامج لإعادة التأهيل.
وقال الدكتور غاندي فرح، مدير مستشفى ابن رشد الذي يضم مرفقًا لعلاج الإدمان في دمشق: “هذا لا يكفي بأي حال من الأحوال لمعالجة حجم المشكلة في سوريا، لكن الدولة بالكاد تستطيع تحمل تكاليف الوضع الحالي”.
وقال غاندي إنه نقص الكبتاغون أدى إلى ارتفاع الأسعار في جميع أنحاء البلاد، مما دفع العديد من المستخدمين إلى اللجوء إلى بدائل أرخص وأكثر خطورة مثل الميثامفيتامين.
ومن بين هؤلاء أحمد، الذي أدى تعاطيه للميثامفيتامين إلى استبدال عدة أسنان، ورغم أن تأثير الميثامفيتامين أقوى، إلا أنه يفضل الاستمرار في تعاطي الكبتاغون – الذي يستخدمه الآن للاحتفال بدلاً من تحمل التجنيد العسكري – طالما أنه لا يزال بإمكانه الحصول عليه.
قال أحمد: “الرسالة واضحة: لا يوجد تسامح مع المخدرات في سوريا الجديدة، لكن هذا ليس كافيًا لردعنا بعد كل ما مررنا به”.
المصدر: فايناشنال تايمز