“صحفيو غزة كتبوا تاريخًا سيبقى للأجيال”.. حوار مع تامر المسحال

منذ اليوم الأول لحرب الإبادة في قطاع غزة، كان الصحفيون الفلسطينيون في صدارة بنك أهداف آلة الحرب الإسرائيلية؛ استهدافٌ منظّم غايته إسكات الصوت وقتل الصورة ومنع وصول الحكاية إلى العالم. 

في هذا السياق، برزت قناة الجزيرة كإحدى أهم المنابر التي لم تنقطع صورتها ولم يهبط صوت مراسليها عن الهواء، فيما حصدت في المقابل النصيبَ الأكبر من الاستهداف الممنهج لمكاتبها وطواقمها مما أدى إلى استشهاد مراسلين ومصورين، إصاباتٌ بالغة، واستهدافُ عائلات زملاء باتت قصصهم جزءًا من ذاكرة المأساة.

مؤخرًا، شهد شمالُ القطاع الاغتيالَ الدامي لطاقمٍ صحفي من الجزيرة؛ ارتقى على أثره ستة صحفيين، كان من بينهم مراسلا الجزيرة أنس الشريف ومحمد قريقع، في حلقةٍ جديدة من حلقات استهداف الصوت والصورة. وعلى الرغم من ذلك، لم تتوقف التغطية؛ ظلّت الكاميرا شاهدةً، والميكروفون حاضرًا، وصور الواقع تتدفّق من قلب غزة إلى شاشات العالم.

في حوار خاص لـ”نون بوست” مع الصحفي في قناة الجزيرة تامر المسحال -أحد الوجوه المركزية في إدارة هذه التغطية- نتناول أسئلة المهنة والإنسان: كيف واجهت الجزيرة التهديدات والضغوط؟ كيف وازنت بين مقتضيات السلامة ومسؤوليتها الأخلاقية والمهنية؟ وكيف تحوّلت قصص التجويع والاستهداف إلى روايةٍ مضادّة كسرت محاولات التعتيم وأعادت تعريف دور الصحافة في الحرب؟

للجزيرة دور محوري في تغطية الإبادة، وكانت من أبرز المنابر التي ساهمت في فضح جرائم الاحتلال وإيصال الصورة إلى العالم. كيف تُدار هذه التغطية التي لم تتراجع ولم تتعب بعد قرابة عامين من الحرب المستمرة في القطاع؟

بالتأكيد واجهت الجزيرة خلال هذه الحرب تحديات كبيرة جدًا في استمرار التغطية، ودفعَت الثمن الأكبر باستهداف صحافييها والإعلاميين الفلسطينيين العاملين في قطاع غزة. تعرّض مكتب القناة للقصف، واستُهدفت طواقمنا الميدانية؛ لدينا نحو 10 من شهداء طواقم الجزيرة ارتقوا على أرض غزة، فضلًا عن عدد من المصابين. كما طال الاستهداف عائلات الزملاء، وعائلة الزميل وائل الدحدوح أكبر دليل على ذلك.

ومع هذا الثمن الباهظ، لم تتوقف تغطية الجزيرة، والسبب الأول هو إصرار الزملاء في الميدان -أبناء غزة، أبناء الأرض والوطن- على مواصلة العمل وإتمام الرسالة. بقوا ولم يغادروا، وكان لزامًا على الجزيرة أن تبقى وفية لهم، وعلى قدر المسؤولية، في ظل هذا الإصرار الكبير.

التحديات جسيمة، ونحاول بشتى السبل دعم زملائنا في الميدان عبر توفير مستلزمات العمل واستمراريته، رفع أصواتهم، وحشد تضامن المؤسسات الدولية معهم، إضافةً إلى الدفع باتجاه المحاسبة القانونية لمجرمي الاحتلال الإسرائيلي وملاحقة المتورطين في الجرائم ضد الصحفيين.

وفي النهاية بات واضحًا أن الجميع في غزة داخل دائرة الاستهداف بلا استثناء، وصحفيو الجزيرة ليسوا استثناءً. نتحدث اليوم عن قرابة 240 صحفيًا فلسطينيًا استُشهدوا خلال هذه الإبادة المستمرة.

في ظلّ إغلاق قطاع غزة ومنع إدخال طواقم جديدة، كيف نظّمت الجزيرة قرار الاستمرار في التغطية ومكانها وشكلها؟ ومن الذي كان يقدّر المخاطر، خصوصًا مع الضغوط على النزوح من الشمال إلى الجنوب؟

في ظلّ إغلاق قطاع غزة، لم يُسمح للجزيرة ولا لسائر وسائل الإعلام العالمية بدعم زملائها في الميدان أو رفدهم بزملاء آخرين للمساندة، وقد عُزل الصحفيون داخل القطاع ومُنع دخول أي صحفي من الخارج؛ لذلك كان القرار والتوجيه واضحَيْن: أن يكون قرار التغطية وتقييمها والتحديات المرتبطة باستمرارها وتقدير مخاطرها عائدًا للصحفيين في الميدان.

نحن نتحدث عن صحفيين وحدهم، ومعهم عائلاتهم. وكانت دائمًا الرسالة: “أنتم من تحددون الأنسب والأفضل، وشكل وطبيعة الاستمرارية وفقًا للاعتبارات التي تحفظ أمنكم وسلامتكم”. وعليه عاد لهم قرار تحديد مكان وشكل العمل والتغطية وفقًا للاعتبارات الميدانية التي يقدّرونها على الأرض.

وإن كان من سبب لاستمرار التغطية فهو إصرار صحفيينا في الميدان على ذلك؛ وما كان منا إلا الدعم والتوجيه والحرص على إيصال هذا الصوت وتعزيزه، وأن تبقى الرسالة حاضرة وبقوة وبكل مهنية.

كان العمل مع مراسلين ذوي تجارب حديثة داخل قناة بحجم الجزيرة يتطلب مجازفة مهنية ومتابعة حثيثة. حدّثنا عن هذه التجربة التي تحوّلت لاحقًا إلى بوابة استنساخ لدى وسائل إعلام أخرى، وأسهمت في إبراز مراسلين شباب صاروا رموزًا ومدارس في التغطية الصحفية المهنية.

بكل تأكيد، أعتقد أن هذه الحرب أعادت تعريفًا آخر للعمل الإعلامي وتحدّياته وظروفه، وبالمقارنة مع مناطق شهدت حروبًا أو عدوانًا أو عمليات إبادة، وقف الصحفي الفلسطيني أمام اختبار ليس سهلًا. 

وفي الجزيرة، ومع التحديات التي فُرضت علينا بإصابة الزملاء -وبشكل خاص الزميل وائل الدحدوح مدير مكتب الجزيرة في قطاع غزة- وخروج زملاء آخرين، فُرض واقع ليس سهلًا. 

خلال هذه الحرب شهدت الجزيرة انطلاقة ودخول عدد غير قليل من الصحفيين الشباب الذين شكّلوا علامة فارقة في التغطية، وما أنس الشريف وإسماعيل الغول، وزملاؤهما مثل محمد قريقع وسواهم، إلا دليل على ذلك.

هؤلاء الصحفيون شكّلوا فعلًا علامة فارقة؛ قدّموا تغطية حيوية بنفس جديد، وارتبطوا بالمشاهد حتى صار لصيقًا بهم. وما هذا التفاعل الكبير، وذلك التقدير الواسع، والحزن العميق على فقدان محمد قريقع وأنس الشريف، ومن قبلهم إسماعيل الغول، إلّا أكبر دليل.

منذ اليوم الأول قالت الجزيرة إن استمرار التغطية يتطلّب تقدير الصحفي الفلسطيني في الميدان، وأن تكون منصّة للمهنية؛ ففتحت أبوابها للصحفيين الشباب الذين عملوا بمهنية ومصداقية، وشكّلت صورهم وأعمالهم علامةً ومصدرًا موثوقًا للمؤسسات الدولية، ودلائل حيّة على المجزرة التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة.

وبشكل تفصيلي، في ملف المجاعة مثلًا، كانت الصور التي وثّقها أنس الشريف ومحمد قريقع صادمة، ووضعت المأساة على طاولة الحقوقيين والسياسيين حول العالم. وكان ذلك من الأسباب الرئيسة وراء التحريض الكبير على أنس الشريف تحديدًا، الذي انتهى بجريمة اغتياله لإسكات صوته وصوت محمد قريقع، ورسالة ردع للصوت الصحفي في مدينة غزة ومنعه من الاستمرار.

لكن، كما رأينا، لم تتوقف التغطية؛ حمل الراية زميلان جديدان يُكملان الرسالة، ويكونان على عهد من سبقوهما. هذا ميدان نعرفه؛ نحن أبناؤه، أبناء غزة، وأبناء هذه الأسرة الصحفية التي لن تكلّ ولن تملّ حتى توصل صوت الحقيقة.

شنّ الاحتلال ومنصّاته الإعلامية حملات تحريض موسّعة بحقك بالمعنى الشخصي، وحمّلك المسؤولية المباشرة عن إدارة تغطية الجزيرة لحرب الإبادة. هل وصلتك تهديدات شخصية تمسّ حياتك؟ وكيف تتعاملون مع حملات التحريض المنظّمة والمتتالية التي تستهدفك وتستهدف فريق مراسلي الجزيرة في قطاع غزة؟

بكل تأكيد، حملات التحريض على الجزيرة حملات مستمرة، وبكل تأكيد طالتني شخصيًا جزءٌ منها. وهي حملات معروفة الدافع: وقف التغطية عبر التحريض والشيطنة والتهديد للتأثير على مسار التغطية المهنية في قطاع غزة.

لكن بالنسبة لي هذه التهديدات لا تعني شيئًا؛ ما يهمني أساسًا هو سلامة الزملاء في الميدان. وما يهمني كتامر -وأنا ابن هذه الأسرة الصحفية- أن ندعم كل صحفي مهني على أرض غزة.

ما يهمني أن تستمر التغطية مهما جرى، لأن الصورة وصوت الناس يجب أن يبقيا حاضرين. وما الاستهداف الإسرائيلي للصحفيين إلا دليل على نجاح الرسالة الإعلامية، ودليل على نجاح المهنية الفلسطينية، ودليل على أن الصورة لم تغب وأن الحقيقة حتمًا ستنتصر.

وبالتالي، شخصيًا، بكل تأكيد تلقّيتُ كثيرًا من التهديدات والتحريض، لكن هذا لا يهم؛ أنا مستمر في أداء رسالتي، والأهم بالنسبة لي دعم الزملاء في الميدان وسلامتهم، وإن شاء الله ألّا نُفجع في أي زميل جديد.

وفاؤنا وعهدنا مع الزملاء الشهداء ثابت؛ إننا لن نخون رسالتهم ولا أمانتهم، ونحن على العهد في استمرار ما بدأوا به. هؤلاء الأبطال أصبحوا عمليًا قامات وأساتذة؛ من بدأوا كصحفيين شباب هم الآن مدارس، وما تركوه من تأثير-بخبرتهم الضئيلة خلال أشهر الحرب- فاق خبرات كثير من الصحفيين في العالم الذين مكثوا عقودًا.

قدّم مكتب الجزيرة في غزة تضحيات جسيمة؛ أُصيب عدد من أفراد الطاقم، ومنهم مدير المكتب الذي فقد جزءًا كبيرًا من عائلته شهداء، واستُشهد المراسلون إسماعيل الغول وأنس الشريف ومحمد قريقع، وثُلّة من المصوّرين، مع نجاحكم في إجلاء بعض الزملاء للعلاج خارج القطاع. كيف تتعاملون مع هذا التحدّي الكبير الذي يُراد منه إيقاف التغطية بأيّ ثمن؟

هذا تحدٍّ كبير جدًا. عملنا، في ظل هذه الظروف، مع مختلف الجهات والمؤسسات لمحاولة دعم زملاءنا وإعلاء أصواتهم، وهذه نقطة بالغة الأهميّة.

فيما يخصّ الإجلاءات: ما حدث من حالات محدّدة كان مرتبطًا بظروف كل حالة. بالنسبة إلى الزميل وائل الدحدوح، بعد فقدانه جزءًا كبيرًا من عائلته واستهدافه وإصابته، ومع تيسّر ظروف المعبر آنذاك مقارنةً بالوضع الحالي، خرج لإكمال العلاج. وكذلك الزميل إسماعيل أبو عمر الذي خرج للعلاج بعد إصابته الخطيرة.

لم نُوفّق في إخراج الزميل أحمد مطر رغم محاولات مضنية ومستمرة -وما زالت مستمرة- لكن لم تصدر الموافقات اللازمة لإخراجه.

أمّا الزميلان فادي الوحيدي وعلي العطّار، فقد أطلقنا حملة كبيرة جدًا بعد إصابتهما الخطيرة في حدثين منفصلين، وبعد جهود مضنية تمكّنا من إخراجهما للعلاج.

بالنسبة إلى الزملاء الآخرين، فإنّ قرار الإجلاء أو الخروج أو حتى النزوح داخل قطاع غزة تُرك للزملاء أنفسهم؛ نُساعد أيّ زميل وفق رغبته. هذا هو التوجيه الثابت: الزملاء أصحاب القرار على الأرض، وهم من يقدّر استمرار التغطية من عدمها وفق ظروف الميدان، ونحن نبقي دعمنا قائمًا والاختيار لهم.

ولدينا زملاء خرجوا مع عائلاتهم من قطاع غزة قبل ظروف إغلاق المعبر؛ وهم ما زالوا على كادر الجزيرة، والجزيرة وفيّة لهم ومستمرة معهم وتدعمهم— وهذا أقلّ واجب تقوم به.

كانت تغطية الجزيرة لملفّ التجويع في قطاع غزة عاملًا مهمًا في فضح الجريمة ودحض سردية إنكار المجاعة، وأجبرت قادةً دوليين بما فيهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الإقرار بالواقع، ما جعل الاستهداف والضغوط عليكم أشدّ. كيف تتعاملون مع هذا التحدّي؟ وكيف أدرتم تغطية التجويع لتبلغ هذا التأثير؟

بكل تأكيد، تغطية الجزيرة لموضوع التجويع كانت مؤثّرة. الصور التي وثّقها أنس الشريف ومحمد قريقع ومعهما باقي الزملاء، وضعت ملفّ المجاعة مباشرةً على طاولات العالم وشاشاته، وخلقت رأيًا عامًا، وكشفت واقعًا حاول الاحتلال حجبه.

ومشهد أنس الشريف وهو يبكي على امرأة مسنّة تنهار أمامه من الجوع لفَّ العالم؛ وكان حجم التحريض والاستهداف دليلًا على هذا الأثر، وقد أراد الاحتلال باغتيال أنس الشريف ومحمد قريقع أن يقتل هذا التأثير وهذه الصورة، وأن يُسكت الصوت ويَردَع الصحفيين في مدينة غزة عن الاستمرار بالتغطية.

لكن وكما رأينا، لم تتوقّف التغطية؛ والتفاعل الكبير مع هذه الجريمة واغتيال هذا الطاقم الصحفي كان دليلًا على نجاح الرسالة الإعلامية وفشل المسعى الإسرائيلي، وانكشاف طبيعة الاستهداف والانتقام من الصحفيين بسبب صورة ورسالة، وهذا سلوك إجرامي ليس جديدًا عليه.

جمعتك بالمراسلين أنس الشريف ومحمد قريقع، ومن قبلهما إسماعيل الغول، علاقةٌ إنسانية فريدة تتجاوز حدود العلاقة المهنية، وربما كانت دموعك على الشاشة خير شاهد. حدّثنا عن هذه العلاقة.

بكل تأكيد. أنس الشريف، محمد قريقع، إسماعيل الغول، هشام زقوت، مؤمن الشرافي، رامي أبو طعيمة، أشرف أبو عمرة، هاني الشاعر، هبة عكيلة، والأستاذ وائل الدحدوح، هم أسرةٌ صحفية نعتزّ بها. التواصل معهم يُشعرك بأنك تتواصل مع أخٍ وقريبٍ من القلب. وبالطبع لم نتمالك أنفسنا ونحن نفقد إسماعيل وأنس ومحمد وحمزة، وسامر أبو دقّة، ورامي الريفي، وحسام شبات، وغيرهم من الزملاء.

نحن نفقد بشرًا؛ نفقد أشخاصًا كانوا نِعمَ الوفاء. خارج الكاميرا وكادر التصوير، هم قلوبٌ صافية وإنسانية. أنس وإسماعيل ومحمد -في ظلّ المأساة وكلّ الظروف الصعبة- كنتَ دائمًا تشعر بنقائهم، بسريرتهم، بإيجابيتهم… بكلّ شيء. ولا يسعنا إلا أن نقول: “ربّنا يرحمهم ويتقبّلهم، ونحن على عهدهم”.

نبكيهم قهرًا وألمًا وحزنًا، كأصدقاء وأحباب قبل أن يكونوا زملاء. وعائلاتهم أمانةٌ في رقابنا، ونحن مستمرّون على العهد. نحن لا نتحدّث عن علاقةٍ سطحية؛ أنا ابنُ هذه الأسرة الصحفية وابنُ غزة، وأشعر بحجم الفقد والألم بفقدان هذه الوجوه، وهذه الطاقات والخامات التي كان لها مستقبلٌ كبير. لكن نقول الحمدُ لله، أدّوا الأمانة وارتقَوا، وما هذا التقدير الكبير إلا إشادةً بما قدّموا وتقديرًا لما عملوا.

أخبرنا عن أكثر المواقف الإنسانية التي ما زالت عالقة في ذاكرتك خلال الإبادة.

أوّل ما يخطر في بالي موقفُ زميلِنا أبو حمزة -وائل الدحدوح- في الوفاء. في اليوم الذي قُصِف فيه بيتُ عائلة زوجتي وأُصيب شقيقُها إصابةً خطيرةً جدًا، اتصلتُ بأبي حمزة لأُبلغه بما جرى. فورًا ترك التغطية وتوجّه بنفسه إلى المستشفى، وبقي مع العائلة على تواصلٍ معي يطمئنّني. وفي المساء نفسه، قُصف البيتُ الذي فيه عائلة الزميل وائل واستُشهد أفرادٌ من عائلته. كان مشهدًا قاسيًا. 

وفي اليوم التالي، حين وصل أبو حمزة إلى مستشفى الشفاء، فاضت روحُ شقيقِ زوجتي المصاب، وكان هو مَن أبلغني بذلك. تخيّل هذا التتابع من الألم والمأساة، وكيف ظلّت مظاهرُ الوفاء الإنساني حاضرةً في أقسى الظروف: زميلٌ فقد عائلته للتوّ، يعود ليُخبرك باستشهاد قريبك. هذا موقفٌ لا يغيب عن الذاكرة أبدًا.

الموقفُ الآخر مع الزميل الشهيد إسماعيل الغول، رحمَه الله. حين اشتدّت المجاعة في شمال غزة، كنتُ أبحث عن بعض الموادّ الغذائية لعائلتي. علم إسماعيل بذلك، فترك التغطية وانطلق يبحث عمّا أحتاجه، رغم أنّ الأوضاع كانت في ذروة التجويع القاسي، وقد تمكّن من الحصول على الدقيق، ولم يطلب مقابلًا إلّا الدعاءَ على فعل الخير. هذا الوفاءُ والشهامةُ من شخصٍ غير مُجبَرٍ، يتطوّع ليكون سندًا في حاجةٍ إنسانيةٍ خالصة، يعكس صفاءَ السّريرَة وعظمة العطاء.

والشهيدُ أنس الشريف أيضًا؛ في الأيّام الأولى لظهوره على الجزيرة، هذا الشابّ الواعد، كانت كمّيةُ الوفاء مع والده، رحمه الله، لافتة. بعد اليوم الثالث أو الرابع من انضمامه للجزيرة، جاءني اتصال: أراد أن يشكرني لا بصوته، بل بصوت والده ووالدته اللذين غمراني بالدعاء. والدُ أنس ووالدتُه معروفان في مخيّم جباليا بنقائهما ومكانتهما عند الناس. قلتُ لهما: “نحن أسباب، وأنس يستحقّ موقعه، وندعو أن يحفظه الله ويوفّقه”. إلى اليوم أتذكّر دعاءَ والده لنا وله بالتوفيق والسداد، وكان فخورًا به جدًا، وأنس كان كثيرَ الحديث عن فخر والده.

وحين استُشهد والده، كان أوّل مَن أبلغني أنسُ نفسُه؛ أرسل رسالةً صوتيةً وهو باكيًا ينعَى والده، وقد نشرت الجزيرة جزءًا منها. هذه بعضُ المواقف الكثيرة التي تعلَق بالذاكرة وتظلّ نبراسًا حاضرًا دائمًا.

ختامًا، ما رسالتك للصحافيين؟

رسالتي للصحافيين، قبل كل شيء: أنتم صنعتم تاريخًا في عالم الصحافة سيذكره العالم، وسيبقى للأجيال جيلًا بعد جيل؛ درسًا في المهنية والإصرار والعزيمة في مواجهة احتلالٍ مُجرِم يقتل الصحافيين. 

هذه البقعة كانت الوحيدة في العالم التي أُغلقت في وجه صحافيي العالم، وبقي صحافيوها الأبطال على الأرض في غزة يؤدّون الرسالة بكل مهنية، وبكل عزيمة، وبكل إنسانية، وبكل وطنية، وبكل إصرار.

هذه البقعة نفسها شهدت ولادة كثيرٍ من الصحافيين الأبطال الذين أعادوا تعريف الصحافة؛ كانوا روّادًا في هذا العمل الإعلامي، وأصبحوا نجومًا في عالم الصحافة: إسماعيل الغول الذي لم يُتمّ عمرًا مهنيًا طويلًا على الشاشة كمراسل— وانظروا إلى أثره؛ أنس الشريف خلال 22 شهرًا – انظروا إلى هذا التأثير الضخم والإرث الكبير؛ محمد قريقع- أشهرٌ قليلة حفرت حبًّا في قلوب الناس وحضورًا مهنيًا مميّزًا؛ سامر أبو دقّة، حمزة الدحدوح، وجميع الزملاء الآخرين صنعوا إرثًا تاريخيًا سيبقى خالدًا في ميدان الصحافة.

نقول لكل الزملاء: نحن معكم. لن نخون الأمانة، ولن نخون الرسالة. نحن على العهد، وبرغم كلّ الألم والقهر، نحن متيقّنون أنّ النصر للحقيقة؛ وأنّ هذا الاحتلال، بروايته وعدوانه وقتله للصحافيين، سينهزم حتمًا أمام الحقيقة، طال الزمن أم قصر.