موانئ الإبادة: أسلحة الغرب تتدفق إلى “إسرائيل” عبر البحار

خلفَ المشهد الدموي الذي يشاهده العالم في غزة منذ أشهرٍ طويلة، حيث تحوّل القطاع إلى مسرحٍ يوميٍّ لإبادةٍ ألطَفُ كلمة يمكن أن توصف بها أنها وحشية، يقبع سؤالٌ كبيرٌ وخطيرٌ في الآنِ ذاته: من أين يأتي الاحتلال بكل هذا السيل من السلاح الذي يُغذّي آلته العسكرية ويمنحه القدرة على مواصلة الإبادة؟

لا يتعلق الأمر هنا فقط بالعقود المبرمة مع شركات السلاح الغربية، وإنما يتعلق، قبل كل شيء، بالممرات البحرية التي تحوّلت إلى شرايين مفتوحة تنقل إلى “إسرائيل” ما تحتاجه من أدواتٍ للقتل الجماعي، ليس فقط منذ السابع من أكتوبر، وإنما على امتداد تاريخ الاحتلال.

من هنا تُطرَح أسئلةٌ أخرى: من أين تأتي السفن التي تحمل العتاد العسكري إلى دولة الاحتلال؟ وهل يمكن اعتبار الدول التي ترسو فيها هذه السفن شريكةً في الإبادة الجماعية التي تُرتكب في حق الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر؟ ثم هل تملك هذه الدول سلطةَ منع هذه السفن من الرسو في موانئها، أم أنها لا تملك إلا الرضوخ للسياسات الأمريكية التي يبدو أنها تفعل ما في وسعها للضغط على كل من يعارض سياستها المؤيدة لـ”إسرائيل”، خاصةً أنها المصدّر الأول للأسلحة؟ والسؤال الأهم: ما الذي تقوله القوانين التي تُنظِّم النقل البحري للسلاح، وما الذي يقوله القانون الدولي للبحار ومعاهدة تجارة الأسلحة واتفاقية منع الإبادة الجماعية؟

مصدر الأسلحة

حسب أرقام معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، فإن أكبرَ حصةٍ من واردات “إسرائيل” من الأسلحة، في الفترة بين 2020 و2024، تأتي من الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بنسبة 66%، تليها ألمانيا بـ 33%، ثم إيطاليا بـ 1%، وقد احتلت إسرائيل المرتبة الخامسة عشرة عالميًّا من حيث استيراد الأسلحة خلال الفترة المذكورة.

وبالنظر إلى تحقيقٍ مشترك أجرته منظمة الشباب الفلسطيني ومنظمة التقدمية الدولية، تبيّن أن ما لا يقل عن 1,185 شحنة تحمل إمداداتٍ عسكرية، تزيد حمولتها عن 13 ألف طن، قد عبرت خلال السنوات الأخيرة عبر طريق الجزيرة الخضراء في إسبانيا، وهو واحدٌ من أهم الممرات البحرية الاستراتيجية في أوروبا.

وكشف التحقيق نفسه أن الولايات المتحدة الأمريكية أرسلت أكثر من ألفَي شحنةٍ تحمل بضائعَ عسكرية إلى الجيش الإسرائيلي، في الفترة بين سبتمبر/ أيلول 2023 وسبتمبر/ أيلول 2024، وذلك بواسطة شركة ميرسك الدنماركية المتخصصة في الشحن البحري.

وخلال عام 2023 وحده تم إصدار 655 ترخيص تصدير أسلحة لـ”إسرائيل” من قبل 23 دولة في الاتحاد الأوروبي بقيمة إجمالية بلغت 948 مليون يورو، تصدّرتها ألمانيا ثم فرنسا فرومانيا، مما دفع منظمة العفو الدولية إلى المطالبة بفرض حظر شامل على تصدير الأسلحة إلى “إسرائيل”، محذرة في بيان لها من أن الدول التي تستمر في تصدير السلاح قد تتحول إلى شريكة في الإبادة الجماعية. 

وتظهر هذه الأرقام حجم التدفق العسكري نحو “إسرائيل”، واضعة علامات استفهام حول دور الممرات البحرية في تسهيل هذا التدفق، وحول الالتزامات القانونية المترتبة على الدول التي تمر هذه السفن عبر مياهها الإقليمية، ومدى استعدادها لممارسة حقها في الرقابة أو واجبها في منع استخدام موانئها وممراتها كجسور لتغذية آلة الحرب.

المسؤولية القانونية للدول الساحلية

استَشارت اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات عليها (BDS) مركز أسكوماري، وهو مركز أبحاثٍ دولي يقدم الاستشارات القانونية للحكومات والمؤسسات الخاصة والمنظمات غير الحكومية، بشأن واجبات الدول الساحلية بموجب القانون الدولي وخاصة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وقد أصدرت بناءً على هذه الاستشارة رأيا قانونيا صاغه 11 خبيرًا وباحثًا في قانون البحار. 

خلص هذا الرأي إلى أن هذه الاتفاقية، التي وُقعت بين عامي 1973 و 1982، وحدّدت حقوق ومسؤوليات الدول فيما يتعلق باستخدامها لمحيطات العالم، ووضعت مبادئ توجيهية للأعمال التجارية والبيئة وإدارة الموارد البحرية؛ تمنح الدول الساحلية الحق، في ظروف محددة، بالالتزام بقطع أو تعليق مرور السفن عبر بحرها الإقليمي “عندما تنتهك هذه السفن القانون الدولي لحقوق الإنسان”، وقد تفرض على هذه الدول منع “المزيد من انتهاكات القانون الدولي”، وينشأ هذا الواجب، حسب رأي الخبراء، عندما تساعد سفينة ما دولا أخرى على ارتكاب هذه الانتهاكات، مما “يجعلها مسؤولة بموجب القانون الدولي.”

في نفس السياق نظّمت منظمة “القانون من أجل فلسطين”، بالتعاون مع مركز “أسكوماري للأبحاث”، و”الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان”، ندوة عبر الإنترنت تحت عنوان “المسؤوليات القانونية على الدول والشركات في نقل الأسلحة وإمدادات الطاقة إلى إسرائيل بموجب القانون الدولي للبحار”، وهي الندوة التي أشارت خلالها إيرين بيتروباولي، مديرة منتدى العناية الواجبة بحقوق الإنسان، إلى أنه يجب على البلدان الساحلية أن تمتنع عن تقديم المساعدة، لأنها على اطلاع بوجود خطر وشيك لارتكاب الإبادة، وإلا كانت متواطئة. 

وتحيل نفس المتحدثة إلى اتفاقية منع الإبادة والمعاقبة عليها التي تحضر نقل الأسلحة التي تُستعمل في خرق الاتفاقية، بما في ذلك نقل الطاقة أو أي شيء من شأنه مساعدة “إسرائيل” في ارتكاب الإبادة الجماعية. 

وهو نفسه ما ذهب إليه أستاذ القانون الدولي، معتز قفيشة، حيث أكد أن “جميع الأعضاء الموقعين على الاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار يقع عليهم الالتزام بمراقبة السفن التي تمر على مياههم الإقليمية وتحمل الأسلحة والذخائر إلى الدول التي ترتكب الإبادة الجماعية.”

اقتصاد الإبادة

عند النظر في النصوص القانونية التي يفترض أن تنظّم حركة الملاحة والنقل الدولي، نكتشف أن المجتمع الدولي يملك بالفعل من الأدوات ما يكفي نظريًا لوقف هذه الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل”، فاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار تفرض على الدول التي ترفع السفن أعلامها مسؤولية مباشرة في مراقبة أنشطة هذه السفن وضمان عدم تورطها في أي ممارسات غير قانونية. 

كما أن معاهدة تجارة الأسلحة تذهب أبعد من ذلك إذ تحظر نقل الأسلحة إذا كان ثمة احتمال جدّي بأن تُستخدم في ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.  أما اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي صيغت عام 1948 كرد فعل على الفظائع النازية، فهي لا تكتفي بالإدانة الأخلاقية بل تفرض التزامًا قانونيًا على الدول باتخاذ كل الوسائل الممكنة لمنع الإبادة. 

المسؤولية لا تقع على عاتق الدول وحدها، فالشركات العابرة للحدود متورطة بدورها في تكريس الاحتلال، رغم وجود التزامات تقع على عاتقها بمقتضى الاتفاقيات الدولية، وقد أشار تقرير المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز إلى عشرات الشركات، من مصانع السلاح إلى شركات التكنولوجيا، باعتبارها جزءًا من منظومة “اقتصاد الإبادة”. 

هذه الشركات هي أطراف يمكن ملاحقتها قانونيًا، بما في ذلك المديرون التنفيذيون الذين يقرّرون المضي في شحن الأسلحة أو تزويد الاحتلال بالبنية التكنولوجية الداعمة. ومع ذلك، لم نشهد أي محاكمة جدية تعكس هذا المبدأ.

وفي مواجهة صمت الدول والحكومات وتواطؤ الشركات، أخذت الشعوب زمام المبادرة عبر حملات مدنية وشعبية. من أبرزها حملة “لا موانئ للإبادة الجماعية” التي تسعى إلى منع السفن المتورطة في نقل الأسلحة والطاقة من استخدام الموانئ العالمية. 

كما ظهرت في السنوات الأخيرة مبادرات أكثر جرأة، مثل قرار كولومبيا عام 2024 وقف تصدير الفحم إلى “إسرائيل”، في خطوة اعتبرتها منظمات دولية نموذجًا يحتذى به، إذ عبّر عن أن قطع شريان الطاقة يمكن أن يكون وسيلة ملموسة للضغط على تل أبيب لوقف الإبادة.

على الورق إذًا تبدو الصورة صارمة، لكن حين توضع هذه النصوص في مواجهة الواقع الفلسطيني، تتبدى هشاشتها أمام ميزان القوة السياسي، فالقوانين موجودة، لكن الإرادة لتفعيلها تبدو غائبة، وهو ما يفتح الباب أمام سؤال آخر: ما جدوى الاتفاقيات والالتزامات والقوانين الدولية إذا كانت تتحول في لحظة الإبادة إلى مجرد شعارات فارغة؟ 

هكذا، ورغم أن خبراء القانون يشددون على أن الدول الساحلية ليست فقط قادرة بل أحيانًا ملزمة بمنع مرور السفن التي تحمل شحنات قد تستخدم في جرائم حرب، لكن ما نشهده اليوم هو عجز كامل أمام نفوذ اللوبيات العسكرية الغربية والسياسة الأمريكية، وبذلك فإن استمرار تدفق السلاح عبر الممرّات البحرية في الوقت الذي تنظر فيه محكمة العدل الدولية في قضايا ضد “إسرائيل” يكشف ضعف النظام القانوني الدولي. أما الصمت إزاء ذلك، فليس حيادًا وإنما هو اعترافٌ ضمني بأن القوانين لا تتجاوز حدود الشعارات. 

إنّ ترك البحار مفتوحةً أمام تدفقات الأسلحة نحو “إسرائيل” هو اختبار حاسم لمصداقية النظام الدولي، الذي يبدو أنه فقَد بالفعل مصداقيته، فإذا لم تُفعّل النصوص في زمن الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان في حق الفلسطينيين، فمتى تُفعّل إذن؟