“فتيات التلال”: الاستيطان المتخفي في الضفة الغربية

في قلب الضفة الغربية، وعلى سفوح التلال المتنازع عليها، تظهر ملامح جديدة للاستيطان الإسرائيلي لا تشبه ما اعتاده المشهد التقليدي من البؤر المسلحة أو الكتل الخرسانية المحصّنة. بل في كثير من الأحيان، يُستقبل القادمون الجدد بابتسامات وأغاني دينية وأنشطة زراعية، أو حتى عرض شعبي في مناسبة محلية. 

خلف هذا الوجه الجديد، تبرز ظاهرة تُعرف باسم “فتيات التلال”، مجموعة نسائية إسرائيلية تنشط في المستوطنات، وتتخذ من أدوات الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية وسيلة لإعادة صياغة صورة المستوطنات، والترويج لاستيطان “ناعم”، يهدف إلى جعل الاحتلال أكثر قبولًا، وأقل صدامًا، في الوعي العام.

هذا المقال يسلّط الضوء على هذه الظاهرة المركّبة، من حيث النشأة، الأهداف، الأنشطة، والتأثير على المجتمع الفلسطيني، في سياق الاستراتيجية الإسرائيلية الأشمل للسيطرة على الأرض، ولكن هذه المرة، بوسائل غير عسكرية.

من هنّ وما هي أهدافهن؟ 

يُستخدم مصطلح “فتيات التلال” في الإعلام العبري للإشارة إلى شريحة من الفتيات اليهوديات الشابات، المرتبطات بالمجتمع الاستيطاني في الضفة الغربية، واللاتي يتخذن من البؤر الاستيطانية المنتشرة على قمم التلال غير المرخصة قانونيًا – حتى بمقاييس القانون الإسرائيلي – مركزًا لنشاطهن. هذه الفتيات لا ينتمين بالضرورة إلى تنظيم رسمي، بل يتجمعن في مجموعات تتشارك الأيديولوجيا الدينية القومية، والولاء لمشروع “أرض إسرائيل الكبرى”.

انطلقت الظاهرة في أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة، كرد فعل على الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، وما تلاه من إخلاء لمستوطنات يهودية. إذ أن كثير من هؤلاء الفتيات هنّ بنات مستوطنين، نشأن في بيئة دينية قومية تُعلي من شأن الاستيطان وتعتبره فريضة وطنية ودينية. فمع شعورهن بـ”الخيانة” من قبل الدولة بسبب الانسحابات، بدأن يتجهن نحو ما يعتبرنه “استيطانًا حقيقيًا” – أي بؤرًا تُقام في قلب الضفة الغربية، خارج حدود التفاهمات السياسية، وبدون انتظار مباركة رسمية.

القدس غوزلان، عدد من “فتيات التلال” يحملن الماء من البئر في بؤرة ماعوز إستير الاستيطانية في 12 يوليو/تموز 2020. (تايمز أوف إسرائيل)

ورغم عدم التنظيم الهرمي، إلا أن “فتيات التلال” يرتبطن أيديولوجيًا ببعض الحركات اليمينية المتشددة، مثل “شبيبة التلال” (Hilltop Youth)، وهي أيضًا حركة شبابية – إنما عنيفة – انطلقت عام 1998 من مستوطنين ذكور، تشتهر بالاعتداء ومهاجمة الفلسطينيين. لكن في حين يُعرف “شباب التلال” بالعدوانية المباشرة، تسعى “فتيات التلال” إلى فرض حضورهن بأسلوب أقل تصادمية، يقوم على “المقاومة الثقافية” – وفق تعبيرات بعض أنصارهن.

بؤرة ماعوز إستير الاستيطانية في 12 يوليو/ تموز 2020. (تايمز أوف إسرائيل)

تتراوح أعمار “فتيات التلال” بين 13 و 18 عامًا، حيث تترك كثيرات منهن منازلهن والمدارس الدينية التي يدرسن فيها، للانتقال إلى الحياة الجماعية في بيوت أقيمت فوق التلال في بؤرتي “ماعوز إستير” و”أور أهوفيا” شرق رام الله. إذ تختار هؤلاء الفتيات الانسحاب من مسار التعليم والحياة المدنية، والتفرغ بالكامل للمشروع. 

التأثير على الضفة الغربية

على الرغم من الطابع الثقافي والاجتماعي الذي تتخذه أنشطة “فتيات التلال”، فإن الواقع الميداني يكشف عن استراتيجية أعمق وأشد تأثيرًا مما يبدو على السطح. فهؤلاء الفتيات، وإن بدت تحركاتهن غير تصادمية، يحملن قناعات دينية راسخة تعتبر الاستيطان في الضفة الغربية “حقًا إلهيًا” غير قابل للمساومة، ويؤدين دورًا فعّالًا في تثبيت الوجود الاستيطاني على الأرض بمعزل عن التوجهات السياسية لحكومات الاحتلال المتعاقبة.

فالعمل الذي تقمن به لا يتأثر بالمسارات الرسمية أو التقلبات السياسية، بل يواصلن نشاطهن حتى في ظل مواقف رسمية تدعو إلى تهدئة أو تجميد مؤقت للتوسع الاستيطاني. ومن خلال أسلوب التحرك الهادئ وغير العسكري، يفلحن في تجاوز الرقابة الدولية وتجنب الإدانات الحقوقية، مما يمنح البؤر الاستيطانية فرصة للاتساع دون أن تتحمل إسرائيل تبعات قانونية أو سياسية مباشرة.

تجسيدًا لهذا الواقع، كشفت وحدة “الجزيرة تحقق” في تقرير استقصائي عن التوسع المتسارع لبؤرة “ماعوز إستير”، الواقعة شمال شرق رام الله، والتي مضى على إنشائها نحو 17 عامًا. ورغم بداياتها كمزرعة صغيرة غير مرخّصة، باتت تُعرف اليوم باسم “تلة الفتيات”، حيث تضم 17 عائلة استيطانية وأكثر من 50 طفلًا.



كما يجري فيها بناء منازل جديدة استعدادًا لاستقبال مزيد من المستوطنين، فقد نشرت وسائل إعلام إسرائيلية صورًا جوية تظهر أن مساحة هذه البؤرة تضاعفت، لتفوق مساحة مستوطنة “كوخاف هشاحر” المجاورة، التي تبلغ نحو 950 دونمًا.

تشمل مظاهر التوسع تأسيس بنى اجتماعية تعليمية وثقافية، حيث أنشأت الفتيات فرعًا محليًا للأطفال، ويعمل معظم مستوطني البؤرة في مجالات الزراعة والتعليم، بما يُضفي على البؤرة طابعًا من “الاستقرار المجتمعي” على المكان. 

وصولًا للهدف النهائي المتمثل بتحويل البؤرة إلى تجمع استيطاني كبير، قادر على استيعاب الآلاف مستقبلًا، دون الحاجة إلى قرارات حكومية رسمية أو حتى اعتراف قانوني بالبؤرة.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by גבעת אור אהוביה (@or.ahuvyah)

في عام 2023، خطت “فتيات التلال” خطوة مماثلة على طريق ترسيخ هذا النموذج، بتأسيس بؤرة استيطانية أخرى حملت اسم “أور أهوفيا”، شُيّدت على تلال قريبة من مستوطنة “عوفرا” غير القانونية، شمال شرق رام الله. في مثال واضح على منهجيتهن المتبعة في اختيار موقع استراتيجي، إنشاء نواة استيطانية صغيرة، ثم توسعتها تدريجيًا عبر أدوات ناعمة اجتماعية ودينية، حتى تتحول إلى واقع يفرض نفسه.

استراتيجية تلميع المشروع الاستيطاني

يعكس التغلغل الاجتماعي في سلوك “فتيات التلال” توجّهًا استراتيجيًا مدروسًا لتسويق الاستيطان بشكل مختلف، بعيدًا عن صوره النمطية المرتبطة بالعنف والتطرف. فبدلًا من الاصطدام المباشر مع الفلسطينيين أو الدخول في صدامات مع الجيش الإسرائيلي، تختار المجموعة طريقًا ناعمًا يُظهر الاستيطان كخيار شخصي طبيعي.

تقوم “فتيات التلال” بأنشطة اجتماعية ودينية تبدو، في ظاهرها، غير سياسية، لكنها تخدم الهدف الأساسي المتمثل في تجذير الوجود الاستيطاني وترويجه داخل المجتمع الإسرائيلي. من بين هذه الأنشطة:

  • إقامة حفلات موسيقية وأمسيات دينية على سفوح التلال.
  • تنظيم ورش زراعية تطوعية “تكرّس العلاقة بالأرض” وتُضفي طابعًا ريفيًا على المشروع الاستيطاني.
  • استقبال الزوار من داخل الخط الأخضر وإرشادهم في جولات ميدانية هدفها عرض “جمال الضفة الغربية” كجزء لا يتجزأ من التراث اليهودي.
  • إنتاج محتوى مرئي ينتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، يصوّر الفتيات في مشاهد الحياة اليومية، كخبز العجين، زراعة الحدائق، المشاركة في الصلوات، أو تنظيف المنازل، بما يعيد رسم صورة المستوطن كمزارع بسيط أو شابة ملتزمة ومسالمة، وليست كعنصر صدامي يكرّس الاحتلال.

ضمن هذه الحملة المنهجية، تنشر المجموعة فيديوهات ساخرة من قبيل: “تعالوا نكسر لكم كل الصور النمطية عن فتيات التلال”، في رسالة دعائية موجّهة إلى الداخل الإسرائيلي. حيث تؤكد الفتيات في الفيديو، أنهن لا “يقتلن العرب ولا يضربن أصحاب الأرض”، بل يطبخن وينظفن وينشرن الغسيل “مثل أي نساء في العالم”، في محاولة لتطبيع حضورهن في الضفة الغربية، وتجريد المشروع الاستيطاني من مضمونه الاحتلالي.


كما ينشرن باستمرار صور لعائلات تسكن في بؤرة “أور أهوفيا”، مرفقة بتعليقات على نمط “هنا نصنع النصر”، مع دعوة مباشرة إلى التوسع، بقول: “بعد خمس سنوات، يمكنكم أن تقولوا أنكم أنشأتم مستوطنة. أجمل منظر في العالم ينتظركم – تعالوا واسكنوا معنا في جفعات أور أهوفيا”.

في محاولة حثيثة لخلق ما يمكن تسميته بـ “الاستيطان الناعم” الذي يهدف لتشكيل صورة الاحتلال في الوعي العام، سواء داخل “إسرائيل” أو في بعض الأوساط الخارجية. عبر إخفاء جوهر السيطرة على الأرض الفلسطينية تحت غطاء من المشاهد اليومية والممارسات الدينية والاجتماعية، بما يقلّل من حدّة النقد الدولي.

لكن الحقيقة أن لا طقوس الغناء ولا أنشطة الزراعة تغيّر من جوهر الأمر، فما يُقام فوق التلال ليس سوى مشروع إحلالي يمنح المستوطنين، خطوة بعد أخرى، أرضًا مغتصبة يُعاد تسويغها باسم الدين والحياة.