كيف أعادت الضربات الإسرائيلية تشكيل مستقبل إيران؟

ترجمة وتحرير: نون بوست
في الأسابيع التي أعقبت الضربات الإسرائيلية على إيران في يونيو/ حزيران، حدث أمر غير مألوف. لعقود طويلة، كان الإيرانيون من بين أكثر شعوب الشرق الأوسط تأييدًا للولايات المتحدة. كانوا ينظرون بعين الريبة – إن لم يكونوا رافضين تمامًا – للإطار الأيديولوجي الذي تصور به حكومتهم الولايات المتحدة وإسرائيل على أنهما تهديدان وجوديان.
كانت شريحة واسعة من الإيرانيين، وخاصة الشباب، تنظر إلى الخطاب الرسمي في هذا السياق على أنه مجرد شعارات جوفاء، أو مادة للتندر والسخرية. وغالبًا ما بدا هوس النظام بـ”المقاومة” كأنه نهج تجاوزه الزمن أكثر منه سياسة واقعية.
ولكن عندما سقطت القنابل هذه المرة، أحدثت الحرب فرقا كبيرا، فقد توغلت في الداخل وغيّرت مجرى النقاش. بدأ الجيل الذي كان يسخر سابقًا من الخطاب الرسمي – وربما للمرة الأولى – يفهم سبب اعتماد الحكومة في سرديتها على المقاومة في المقام الأول.
بين عشية وضحاها، لاحظتُ تحولًا عميقًا في طريقة تفكير الكثير من معارفي في إيران. حتى الإيرانيون الذين كانوا يسخرون سابقًا من شعارات المرشد الأعلى علي خامنئي، بدأوا الآن بترديد تلك الشعارات. لم تؤجج الضربات المشاعر القومية فحسب، بل أشعلت شيئًا أكثر تقلبًا: شعورًا واسع النطاق بأن القوى الخارجية قد تجاوزت الحد. وحتى في صفوف أشد منتقدي النظام، تحوّل الغضب من الداخل إلى الخارج.
في غضون أسبوعين فقط، استوعب الإيرانيون واقعًا جيوسياسيًا جديدًا، وبدأت الشعارات تبدو أكثر منطقية. لم تكن النخبة العسكرية متفقة على رأي واحد حول أفضل السبل لحماية إيران، لكن موقف أنصار الحلول الدفاعية الصارمة أصبح الآن أقوى من المطالبين بالحلول الدبلوماسية. حتى المدنيون – الذين عارض العديد منهم سابقًا سياسات النظام الأمنية – أصبحوا يطالبون الآن بتعزيز الموقف الدفاعي، وبدأ بعضهم يناقش علنًا الحاجة إلى سلاح نووي. قال لي صحفي من أصفهان: “نحتاج شيئًا يجعلهم يفكرون مرتين. وإلا سوف يتمكنون من مهاجمتنا كل بضع سنوات”.
لسنوات، كان العديد من الإيرانيين يرون الحروب بين إسرائيل والولايات المتحدة وبلدهم، على أنها حروب بعيدة أو نظرية أو مفروضة عليهم. دارت تلك الحروب في سوريا ولبنان والعراق، وليس في أصفهان أو طهران. سواء خارج البلاد أو داخلها، وُجهت انتقادات لاستراتيجية الجمهورية الإسلامية على الصعيد الإقليمي باعتبارها مهدرة للموارد واستفزازية ومعزولة.
لكن ضربات يونيو/ حزيران غيرت هذا التصور. لم تكن هذه حربًا بالوكالة على جبهة بعيدة. لقد كانت مباشرة وسريعة، وأظهرت للمواطنين الإيرانيين العاديين أنهم لم يعودوا مجرد متفرجين. أصبح بإمكان إسرائيل والولايات المتحدة الآن الوصول إلى عمق البلاد دون أي عواقب تقريبا.
قال لي فنان من طهران: “كنت من أولئك الذين يطالبون خلال الاحتجاجات بعدم إرسال أموال إيران إلى لبنان أو فلسطين. لكنني الآن أدرك أن القنابل التي نواجهها جميعًا هي واحدة، وإذا لم تكن لدينا دفاعات قوية في جميع أنحاء المنطقة، فإن الحرب ستصل إلينا”.
انتشر هذا الوعي الجديد بسرعة، ولكن ليس فقط داخل إيران. معظم المحتوى الذي انتشر بسرعة والذي يشرح تاريخ التدخل الغربي في إيران، من انقلاب عام 1953 إلى اغتيال العلماء الإيرانيين، لم يُصنع في طهران، بل جاء من الغرب، موجهًا للجمهور الغربي. على منصات “تيك توك” و”إنستغرام” و”إكس”، بدأ الشباب – من كلا جانبي الطيف السياسي، اليسار واليمين – يشككون في سبب تصوير إيران منذ عقود كعدو دائم للولايات المتحدة. لم يكن هؤلاء موالين للنظام، بل كانوا في الغالب أمريكيين – من جيل الألفية وجيل زد – يحاولون فهم الحروب المستمرة التي تشكل حياتهم.
فجأة، بدت تحذيرات خامنئي بشأن عدم إمكانية الوثوق بالولايات المتحدة، وطموحات إسرائيل التوسعية وتحريضها المستمر على الحروب، تحذيرات منطقية، ليس لأنه اكتسب سلطة أخلاقية، بل لأن العالم بدأ يدرك الحقائق الاستراتيجية التي كانت إيران تشير إليها منذ سنوات. هذا التحوّل، مهما كان جزئيًا أو غير متوقع، بدأ بالفعل يعيد تشكيل مكانة إيران من المعادلة، داخليًا وإقليميًا وعالميًا.
لطالما صوّر الغرب الحرس الثوري الإيراني كمؤسسة متجانسة هدفها الأول هو العدوان. لكن في الواقع، الحرس الثوري منقسم داخليًا إلى أطراف متنافسة. على مدى العقد الماضي، كان قدامى القادة الذين شكلتهم صدمة الحرب الإيرانية العراقية بين 1980 و1988، يميلون غالبًا إلى ضبط النفس. ورغم التزامهم بالردع الإقليمي والتوسع العسكري، كان العديد من هؤلاء القادة يعتبرون المواجهة المفتوحة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة مخاطرة وجودية، وليست مواجهة حتمية.
ظهر جيل أصغر في الحرس الثوري الإيراني، بُنيت عقيدته على الدفاع عن النفس وضرورة تطوير قدراته. بعض هؤلاء باتوا الآن في الأربعينيات وعلى استعداد لتولي القيادة. تم تدريب هذا الجيل الجديد على الطائرات المسيّرة والصواريخ والحرب السيبرانية، وقد شاركوا في القتال في سوريا وساعدوا في تدريب الميليشيات في العراق. واليوم، يرى هذا الجيل الصاعد أن المواجهة ليست حتمية فحسب، بل مفيدة أيضًا. بالنسبة لهم، الردع ليس مجرد مسألة وجودية، بل يمتد ليشمل المكانة الإقليمية والكبرياء الوطني واستعادة السيادة.
لقد منحت ضربات يونيو/ حزيران، إلى جانب الردود الإيرانية المحدودة والدقيقة، هذا الجيل جرأة أكبر. فهم يرون أن ضبط النفس على مدى العقدين الماضيين، ناهيك عن الالتزام باتفاق 2015، شجع على استهداف إيران. وحقيقة أن إسرائيل استطاعت توجيه ضربات في العمق بكفاءة كبيرة تزيد من قوة حجة هذا الطرف: إيران بحاجة إلى رادع موثوق به، وهي بحاجة إليه الآن.
وإذا تحدثنا عن الشعب الإيراني ككل، فإن الجيل الذي وُلد بعد الثورة عام 1979، وغالبًا ما خاب أمله بسبب الأيديولوجية الرسمية، بدأ يشهد تحولًا عميقًا في قناعاته. هذا الجيل لا يؤيد النظام، لكنه يعيد التفكير في كل ما قناعاته عن قوة الغرب والأمن.
ليس من المضمون استمرار هذا الزخم من الدعم الشعبي النسبي للحكومة ومقاربتها الأمنية، لكنه يُحدث في الوقت الحالي تحولاً في موازين القوى في دوائر صنع القرار، حيث يكتسب المتشددون الشباب في الحرس الثوري الإيراني المزيد من النفوذ. ويُروّج حلفاؤهم في وسائل الإعلام الحكومية والبرلمان، وحتى وزارة الاستخبارات، أنهم الطرف الأقدر على حماية إيران من التهديدات الوجودية.
هذه الأصوات بدأت الآن تعلو على أولئك الذين لا يريدون الحرب، وهم كثيرون. تاريخيًا، كان المؤيدون للتفاوض مع الغرب ينتمون إلى المعسكر التكنوقراطي الأكثر براغماتية، لكن هذه القيادات المؤيدية للسلام تواجه الآن تحولًا عميقا في الرأي العام.
لسنوات، وحتى مع تحذيرات خامنئي بأن الغرب لا يُمكن الوثوق به، واصلت فئة كبيرة من الشعب الإيراني التصويت للمرشحين المؤيدين للتواصل مع الغرب. وكان يُنظر إلى الدبلوماسية، إن لم يكن على أنها المقاربة المثالية، كمسار واقعي: الطريق العملي الوحيد للخروج من العزلة.
لكن الضربات الإسرائيلية غير المبررة في يونيو/ حزيران جاءت أثناء المفاوضات مع الولايات المتحدة. والآن، يتنامى داخل الدوائر التي كانت تدعم الحوار رأي قائل بأن المفاوضات مع الغرب كانت مجرد خدعة، وإن إيران كان ستُستهدف بغض النظر عن طريقة تعاملها مع الغرب.
وفي الأسابيع القليلة التي تلت الضربات، تحول النقاش في إيران من التساؤل حول إمكانية نجاح المسار الدبلوماسي، إلى التشكيك فيما إذا كانت نوايا الغرب صادقة منذ البداية. والآن، تبدو فكرة أن المفاوضات مع الغرب ستحل مشاكل إيران أقل واقعية وأقرب لإعلان الاستسلام.
لقد استغل خامنئي، الخبير السياسي المحنك، هذه اللحظة لترسيخ الرواية التي ترى بأن وحدة الأراضي الإيرانية تتطلب مقاربة دفاعية. وبشكل محدد، سردية المقاومة، التي بدأت منذ عام 1980 على الأقل، عندما غزت العراق إيران، بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الغربية (وربما قبل ذلك، عندما نفذّت واشنطن ولندن انقلابًا في إيران عام 1953).
فإذا كانت إيران محاطة من جميع الجهات بأعداء يسعون للسيطرة على البلاد، فإن المقاومة، بما في ذلك الصواريخ والطائرات المسيّرة المصنوعة محليًا، تظل الأمل الأخير للبقاء. والكيان الوحيد القادر على تأمين هذه المقاومة للدفاع عن إيران هي القوات المسلحة للجمهورية الإسلامية.
لقد ألحقت الضربات أضرارًا بالبنية التحتية، لكنها عززت في الوقت نفسه رواية خامنئي. صمد النظام وثبتت القيادة، ولم تندلع احتجاجات في الشوارع، ولم تتفكك إيران. وعلى الصعيد الدولي، لم تعد إيران دولة معتدية فقط، بل دولة تحت الحصار، تقاوم مرة أخرى التدخل الخارجي.
هذا الإرث مهم – ليس للتاريخ فحسب، بل أيضًا لخلافة القيادة الحالية. الزعيم الجديد الذي سيخلف خامنئي البالغ من العمر 86 عامًا كمرشد أعلى، سيتم اختياره في سياق هجمات يونيو/ حزيران التي رسخت مبدأ المقاومة من خلال الأحداث وليس فقط من خلال الأيديولوجيا. هذا ما يمنح الحرس الثوري – وخاصة الجيل الأصغر المتشدد – نفوذًا أكبر في صياغة الفصل القادم من تاريخ الجمهورية الإسلامية.
التحدي الذي يواجه قادة إيران – وخاصة الجيل الأصغر في الحرس الثوري – يكمن في كيفية استغلال هذه اللحظة دون المبالغة في استخدام نفوذهم. تلقى الدعوات لدعم قدرات الجيش أو حتى تطوير السلاح النووي صدى في الوقت الحالي، لكنها تحمل في طياتها مخاطر ردود فعل أجنبية أكثر حدة، واحتمال تعميق العزلة الاقتصادية.
كما أن قدرة الجمهورية الإسلامية على الصمود في وجه الضربات لا يعني أنها محصنة ضد الانهيار – فلا توجد دولة محصنة تمامًا. لا يزال الاقتصاد الإيراني في أزمة، والثقة الشعبية منخفضة. كما أن الخط الفاصل بين دعم الردع ودعم النظام رفيع للغاية، وإذا أخطأت القيادة في تفسير التأييد الاستراتيجي على أنه شرعية غير مشروطة، فقد تُثير الاضطرابات نفسها التي نجحت في تهدئتها مؤقتًا.
مع ذلك، تغير المشهد السياسي الداخلي شكل جوهري. فالمتشددون الذين كانوا يجدون صعوبة في تبرير “المقاومة” ضد إسرائيل والولايات المتحدة، أصبحوا الآن يزعمون أن التاريخ قد برهن على صحة موقفهم. لم تعد “المقاومة” حكرًا على الجمهورية الإسلامية وأنصارها المخلصين؛ بل أصبحت الآن شعارًا للدفاع عن الوطن يتجاوز الاختلافات الاجتماعية والسياسية. هذه السردية قوية للغاية، خاصة عندما يرددها من كان يشكك بها سابقا، وتدعمها الوقائع على الأرض.
ويبقى السؤال ما إذا كان بإمكانهم إضفاء الطابع المؤسسي على هذه السردية، سواء عبر آليات خلافة المرشد، أو من خلال التشريعات والقوانين، أو عبر بناء توافق اجتماعي أوسع. ذلك هو ما سيحدد الشكل المستقبلي للجمهورية الإسلامية، لكن في الوقت الراهن، فإن هذا الموقف في حالة صعود.
غالبًا ما يتأرجح النقاش الدولي حول إيران بين رؤيتين متناقضتين: إما أن النظام على وشك الانهيار أو أنه تهديد إقليمي لا يمكن إيقافه. لكن ما يغيب عن الأذهان هو مدى مرونة هذا النظام وقدرته على التكيف، وعلى استيعاب الصدمات ضمن سرديته عن البقاء والمقاومة. فالضربات الإسرائيلية لم تُدمّر هذا النظام، بل عززته. ومن غير المعروف ما الدروس التي ستقدمها هذه الرواية للإيرانيين، سواء لأولئك الذين يتطلعون إلى السلام، أو لأولئك الذين يسعون إلى الحرب.
لقد أعادت الضربات أيضًا تشكيل نظرة الإيرانيين لأنفسهم. فبعد أن كانوا، حتى في ظل العقوبات، يرون أنفسهم مجرد مراقبين سلبيين لحروب بعيدة عن بلادهم، أصبحوا اليوم هدفا مباشرا لعدوان إقليمي.
ربما يكون التحول الأهم هو ذاك المتعلق بالجيل الجديد. فالأمر لا يتعلق بجيل 1979 الذي يعيد تأكيد مواقفه القديمة، بل بأبنائهم وأحفادهم الذين نشأوا في عصر الإنترنت والإعلام الغربي، وغالبًا ما كانوا يتبنون مواقف مؤيدة للغرب، لكنهم باتوا اليوم يشككون في شرعية النظام العالمي الذي آمنوا به. أما الشعارات التي اعتبروها يومًا مجرد دعاية، يُنظر إليها الآن باعتبارها واقعا ملموسا. وإذا ترسخ هذا التحول، فسوف يرسم ملامح السياسة الداخلية والإقليمية لإيران لعقود قادمة.
وقد يكون لهذا التحول – أكثر من أي نجاح أو فشل تكتيكي – الأثر الأعمق والأطول. فلطالما تساءل الإيرانيون لسنوات عن جدوى امتلاك بلادهم برنامجًا صاروخيًا أو وكلاء إقليميين أو عقيدة للمقاومة العسكرية. أما اليوم، فقد بات السؤال مختلفًا: كيف يمكن تعزيز هذه الدفاعات لضمان بقاء إيران دولة مستقلة ذات سيادة؟
المصدر: فورين بوليسي