في الفاشر.. البقاء جريمة والرصاص العقوبة

يوضح مقطع فيديو نُشر يوم الأحد 17 أغسطس/ آب الحالي، إعدام عنصر في ميليشيا الدعم السريع رجلًا مدنيًا بعد سؤاله عن موقع قائد قاعدة الجيش في الفاشر وعن قبيلته، أن ما يجري في العاصمة التاريخية لإقليم دارفور، غربي السودان، هو إخضاع مجتمعات كاملة عبر العنف، وليس معارك عسكرية من أجل السيطرة على المدينة.

يحرص جنود الدعم السريع على توثيق الجرائم المروعة التي يرتكبونها في الفاشر ونشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، لترويع المجتمعات بعد فشل أساليب العنف الجنسي، والنهب، والتهجير القسري، حيث يؤكد ذلك دفاع العديد من المؤيدين للميليشيا عن جُرم العنصر، الذي ظهر لاحقًا متباهيًا باستعداده لقتل ألفين شخص، في مواجهة حملة الغضب التي أثارها مقطع الفيديو.

وقبل يوم واحد من هذا، أطلق عناصر الميليشيا النيران على شباب في بلدة شقرة، التي أعلنتها وحلفاءها ممرًا آمنًا لفرار المدنيين من الفاشر، بذريعة تهريب السلع إلى داخل المدينة المحاصَرة، مما أدى إلى مقتل 12 مدنيًا، بالتزامن مع مقتل 30 نازحًا في قصف شُن على مخيم أبو شوك، شمالي الفاشر.

الجريمة الكبرى

يُعتبر مقطع الفيديو الذي صدم الرأي العام لمحة صغيرة عن سجل جرائم الدعم السريع في الفاشر، حيث فُتحت أول صفحات هذا السجل بحصار المدينة في أبريل/ نيسان 2024، قبل أن تُشن عليها في الشهر التالي هجومًا لتواصل بعده تضييق الخناق على المدينة ومحيطها يومًا بعد الآخر.

وإزاء دفاع الجيش وحلفائه باستماتة عن المدينة أمام هجمات المليشيا، لم تجد الأخيرة غير شن حملة عنيفة لتهجير جميع القرى حول المدينة واحتلال خزان قولو الذي يُعد المصدر الرئيسي لإمداد الفاشر بالمياه، وهي حملة بلغت ذروتها بالهجوم على مخيم زمزم في أبريل/ نيسان السابق.

استطاعت المليشيا، بعد سيطرتها على مخيم زمزم الذي يبعد 12 كيلومترًا جنوب غرب الفاشر، تضييق الحصار على المدينة بإحباط جميع أساليب تهريب السلع إليها بما في ذلك عبر الدواب، وذلك بعد أن نجحت في نشر أنظمة دفاع جوي أسقطت طائرة حربية، مما دفع الجيش إلى التراجع عن عمليات إسقاط السلع عبر الجو.

وتوصلت المليشيا إلى حفر خندق عميق حول المدينة التي كانت رمزًا للتعايش منذ حقب سلاطين الفور قبل مئات السنين من تشكيل السودان بحدوده السياسية الحالية، تاركة طريقًا ضيقًا لفرار الأشخاص الذين تخضعهم لتحقيق يشمل السؤال عن القبيلة.

القتل بناءً على اختلاف الهوية

لا يقتصر الأمر في الفاشر على الحصار والتجويع، بل يمتد إلى التطهير العرقي، حيث تؤكد منظمة أطباء بلا حدود تزايد الخطر الذي يحدق بعرقية الزغاوة، التي تُشكّل أساس القوة المشتركة التي تُقاتل مع الجيش في الدفاع عن الفاشر، كما بدأت قوات الدفاع الذاتي، التي جُنّدت من مجتمع الزغاوة، في دعم الجيش والقوة المشتركة.

انخرطت القوة المشتركة، التي تأسست مع حركات دارفور المسلحة الموقّعة على اتفاق السلام في 2020، في القتال مع الجيش ضد الميليشيا بعد فترة طويلة من اندلاع الحرب في 15 أبريل/ نيسان 2023، بعد أن ظلت على الحياد طوال أشهر، ويُشرف عليها حاليًا حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي.

تتخذ الميليشيا من كون معظم مقاتلي القوة المشتركة من الزغاوة ذريعة لقتل أفراد هذه العرقية، رغم أن سجلها الإجرامي يُفيد بأنها ارتكبت إبادة جماعية بحق قومية المساليت في غرب دارفور، ونفذت عمليات قتل جماعي في الجزيرة، وسط السودان.

تقول امرأة، في إفادة لأطباء بلا حدود، نُشرت في تقرير عن الفظائع الجماعية ومخيم زمزم في 3 يوليو/ تموز 2025: “لم يكن بمقدور أحد أن يخرج من الفاشر إذا قال إنه من الزغاوة”، ويفسّر رجل آخر هذا الأمر: “كانت قوات الدعم السريع وحلفاؤها يسألون الناس إذا كانوا من الزغاوة، وإذا أجابوا بنعم، كانوا يقتلونهم”.

ولا تكتفي الميليشيا بتصفية المنحدرين من الزغاوة فقط، بل إنها تستهدف أيّ شخص من القبائل الإفريقية، على غرار الرجل الذي ظهر في مقطع الفيديو، وقال إنه من عرقية البرتي، لكن العنصر قتله بدمٍ بارد.

ذات السيناريو

استبقت الميليشيا الهجوم على مخيم زمزم، الذي كان يأوي أكثر من نصف مليون نازح، بقصفه عبر الطيران المُسيَّر والمدافع، والآن تفعل ذات الشيء مع مخيم أبو شوك، الذي يحتضن ما يزيد على 190 ألف نازح، حيث بدأت بقصفه قبل أن تتوغّل إلى داخله.

توغّل عناصر الدعم السريع إلى مخيم أبو شوك أدى إلى توقف عمل سوق نيفاشا، وهو الوحيد العامل في الفاشر، بعد أن تعرّضت الأسواق الأخرى، بما في ذلك سوق المواشي، للقصف والهجوم البري، وذات الأمر ينطبق على المستشفيات والمرافق الصحية.

تكمن المفارقة في أن النازحين في زمزم وأبو شوك هُجّروا من ديارهم خلال حرب دارفور بواسطة ميليشيات الجنجويد، الذين هم نواة الدعم السريع، ليواصل عناصرها إكمال ما بدأه أسلافهم بضميرٍ ميت، لا يُراعي شيخًا ولا صغيرًا.

حوّلت الميليشيا مخيم زمزم إلى قاعدة عسكرية، يتواجد فيها مرتزقة كولومبيون استعانت بهم، بعد فشل جنودها منذ مايو/ أيار 2024 في السيطرة على المدينة، لعدة أسباب نُفصّلها لاحقًا.

ونتيجة للحصار، وقصف الأسواق، ومنع وصول أيّ إمدادات للمدينة، اضطرّ معظم المتواجدين، البالغ عددهم 845 ألف شخص، وفقًا لإحصائية رسمية، إلى تناول علف الماشية المصنوع من بقايا الفول السوداني بعد استخراج الزيت منه، مما أدى إلى تفشي سوء التغذية على نطاق واسع، وتسجيل وفيات نتيجة للجوع.

 

عرض هذا المنشور على Instagram

 

‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎نون بوست | NoonPost‎‏ (@‏‎noonpost‎‏)‎‏

والآن، لا يملك سكان الفاشر سبيلًا إلى الرعاية الصحية إلا بعد 60 كيلومترًا في محلية طويلة، لكن الخروج من المدينة، مع الانتهاكات وارتفاع تكاليف النقل، أصبح خيارًا صعبًا، في وقت تواصل الميليشيا تدمير كل شيء، بدءًا من مصادر المياه، والأسواق، والمرافق الصحية، والإنسان.

كيف صمدت؟

نتيجة الانتهاكات المتواصلة في الفاشر، لم تُدمَّر مدينة تحوي الثقل السياسي، والاقتصادي، والعسكري، والتاريخي لإقليم دارفور فقط، بل مُزّق النسيج الاجتماعي، بعد أن فقدت آلاف الأسر معيلها، مما ترك النساء يعانين في تلبية احتياجات الأسرة، ومجابهة أخطار العنف الجنسي، فيما حُرم الأطفال من التعليم، والصحة، مع التعرّض لمخاطر الجوع، والمرض، والتجنيد القسري.

إن أجريتَ بحثًا صغيرًا في مواقع مثل “سودان تربيون” أو “دارفور24” باسم الفاشر، ستُظهر لك نتائج عن فظائع يومية تُرتكب في المدينة، لكن الأشنع أن الميليشيا تحتجز نساءً في موقعين على الأقل، أُجبر بعضهن على الزواج القسري بالجنود، مما نتج عنه حالات حمل بالإكراه.

تعرّضت المدينة لـ 231 هجومًا بريًا، غير القصف بالمدافع والطيران المُسيَّر، على مدار عامٍ ونصف العام، دون أن يؤثر ذلك على تماسك المقاتلين، والالتفاف الشعبي، بفضل أسباب عديدة، ربما أهمها عدم امتلاك الميليشيا قاعدة شعبية داخل المدينة، مما جعلها تتحرّك بلا هدى، ليكون الفاشر بمثابة مصيدة لهم.

تحصل المطابخ الجماعية ـ تُعرف محليًا بـ”التكايا”، التي يُديرها متطوّعون لإطعام الفئات الأشد ضعفًا في مراكز الإيواء، والأحياء السكنية ـ على تمويل عبر التطبيقات المصرفية من السودانيين في الداخل والخارج، حيث كان التضامن يدفع الجوعى إلى الصمود، رغم عدم جودة الغذاء.

ويتمثل السبب الثالث في تدافع آلاف الشباب والنساء إلى الانضمام إلى المقاومة الشعبية، سواء تحت إمرة الجيش أو القوة المشتركة، للدفاع عن ديارهم، إضافة إلى جماعات مسلحة أخرى.

وساهم انسحاب الجيش من قواعده ومقراته العديدة في دارفور، لصعوبة الدفاع عنها بسبب عدم توفر طرق الإمداد منذ اندلاع النزاع، إلى الفاشر، في تواجد جميع القادة الميدانيين في المدينة، مما سهّل عليهم عملية القيادة والسيطرة في إعداد المقاتلين بمختلف تشكيلاتهم.

 

عرض هذا المنشور على Instagram

 

‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎نون بوست | NoonPost‎‏ (@‏‎noonpost‎‏)‎‏

أيضًا، لا يفتقر الجيش إلى الإمداد العسكري في الفاشر، باعتبار أن قاعدته فيها، والتي تضم مطارًا عسكريًا، ظلّت تُزوَّد بالذخيرة والمعدات منذ حرب دارفور التي اندلعت في 2003، علاوة على الأسلحة والسيارات التي يغتنمها من الدعم السريع في كل هجوم، بما يمكِّنه من الصمود لأطول فترة ممكنة.

ويشير تاريخ الجيش، على الأقل في النزاع القائم، إلى أنه لا يمكن السيطرة على قواعده بالحصار، الذي فشل في مقار كانت تفتقد تمامًا إلى العتاد، والعدد الكافي من المقاتلين، مثل سلاح المدرعات وقيادته في العاصمة الخرطوم.

وفي النهاية، قد لا تستطيع الفاشر الصمود طويلًا حال عدم تلقيها إمدادات حيوية، مثل الأدوية المنقذة للحياة، رغم تمسّك الجيش بوجوده فيها باعتبارها آخر معاقله في المناطق الحضرية بدارفور، فيما تحاول الميليشيا السيطرة عليها، للانقضاض على بقية الإقليم، وإحكام القبضة على الطرق الممتدة عبر الصحراء.

تُعتبر الفاشر اليوم شاهدًا حيًا على إجرام الدعم السريع، الذي تجاوز حدود المعارك العسكرية إلى مستوى تدمير كل شيء في المدينة، لأنها تحدّت التجويع، والقتل، والاغتصاب، والتشريد، والقصف، وهي جرائم لا يمكن تجاوزها مهما كانت نتيجة النزاع.