كيف يشرعن الإعلام الغربي مجاعة غزة؟

ترجمة وتحرير: نون بوست

كيف ماتت آن فرانك؟ لقد قتلها النازيون. إن الإيحاء بوجود سبب رئيسي آخر لوفاتها المبكرة جدًا يُعدّ إنكارًا بغيضًا للهولوكوست، ولهذا السبب فإن منكري الهولوكوست يشيرون إلى أنها توفيت بسبب حمى التيفوس في معسكر الاعتقال بيرغن بيلسن.

هذا هو تحديدا المنطق الذي استخدمه المدافعون عن إسرائيل في وسائل الإعلام خلال الأيام الأخيرة فيما يتعلق بالتجويع المتعمد لسكان غزة. نشر موقع “فري برس” اليميني تقريرًا يوم الأحد الماضي، في شكل تحقيق استقصائي، يكشف أن 12 على الأقل من الأطفال الفلسطينيين الذين ظهروا في الصور المنتشرة عن المجاعة التي سببتها إسرائيل، لم يكونوا فقط يعانون من الجوع، بل كانوا يعانون من أمراض أخرى.

وفقا لهذا المنطق، فإن الأطفال ذوي الإعاقة وأولئك الذين يعانون مسبقًا من مشاكل صحية، ولا يستطيعون الحصول على العلاج والتغذية بسبب الحصار الذي تفرضه إسرائيل، لا يمثلون سكان القطاع. والأمر المرعب، أن صور هؤلاء الأطفال “الذين لا يمثلون السكان” تثير غضبًا عالميًا.

الفكرة هي أنه من المفترض أن نشعر بصدمة أقل عندما نشاهد الأطفال الذين يعانون من إعاقات مثل الشلل الدماغي والتليف الكيسي، يموتون جوعًا بفعل سياسات الحصار التي تفرضها دولة احتلال غنية مع داعميها.

ويشير تحقيق “فري برس” إلى أن عدم التركيز على الظروف الصحية للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية نتيجة الحصار الإسرائيلي، يجعل وسائل الإعلام الغربية التي تستخدم هذه الصور تسيء إلى إسرائيل بشكل غير عادل. لكن التحقيق يتجاهل أن ممارسات الإبادة الجماعية الإسرائيلية هي التي أوصلت هؤلاء الأطفال إلى تلك الحالة. إن طبيعة الإبادة الجماعية تتضمن تدمير الظروف الملائمة للبقاء على قيد الحياة، حيث يؤدي المرض والقتل المباشر إلى إبادة السكان جزئيًا أو كليًا.

وقال متحدث باسم “سي إن إن” لـ “فري برس”، بعد أن أبلغ الموقع الشبكة بأن الطفلة حجاج التي تبلغ من العمر 6 سنوات، وظهرت في أحد تقارير “سي إن إن” عن المجاعة في غزة، لم تكن تعاني من الجوع فحسب، بل كانت تعاني أيضًا من “مشكلة في المريء”: ”هذه المعلومات لا تغير حقيقة أن الأطفال الذين ظهروا في هذا التقرير يعانون من سوء التغذية بسبب الصعوبات التي يواجهونها في الحصول على المساعدات في غزة، كما ورد في التقرير“.

تأسس موقع “فري برس” عام 2021 على يد الكاتبة السابقة في صحيفة “نيويورك تايمز” باري فايس، ويقدم نفسه كمنصة للتفكير “المخالف للتيار السائد“، لكنه كان في الواقع منصة لنشر أفكار التيار المحافظ الأمريكي المناهض للوعي والمتحولين جنسيًا والمؤيد لإسرائيل.

ويقال إن فايس، التي كرست حياتها المهنية لمعاداة الفلسطينيين ودعم إسرائيل، تُجري محادثات مع شركة “سكايدانس”، الشركة الأم الجديدة لشبكة “سي بي إس”، لشراء موقعها الإلكتروني مقابل 250 مليون دولار.

يعمل موقع “فري برس” بنشاط على إنكار الإبادة الجماعية، لكنه ليس أول وسيلة إعلامية تتبع هذا النهج البغيض. ففي أواخر يوليو/ تموز، أضافت صحيفة نيويورك تايمز – بشكل جبان – ملاحظة تحريرية مطولة وتحديثًا على تقرير تضمن صورة للطفل محمد زكريا أيوب المعتوق البالغ من العمر 18 شهرًا، وذكرت أنه كان يعاني من مشاكل صحية أخرى “تؤثر على دماغه وتطور عضلاته”.

حتى لو كان الحصار الإسرائيلي يؤدي فقط إلى وفاة الفلسطينيين الذين يعانون من مشاكل صحية موجودة مسبقًا وإعاقات، فإنه سيظل مذبحة عنصرية لا تُحتمل. يوحي ذلك بأن حياة الأطفال الفلسطينيين المرضى أقل قيمة، ولا حاجة للتذكير بأن استراتيجية الإبادة الجماعية والتطهير العرقي تستهدف جميع الفلسطينيين

يذهب موقع “فري برس” إلى حد الاعتراف بأن “الأمر لا يعني عدم وجود جوع في غزة، بل هناك جوع”. هذا يُعد استخفافًا فادحًا بحجم المشكلة، فوفقاً لما هو موثق ومعترف به على نطاق واسع، فإن إسرائيل تتعمد تجويع سكان غزة. وقد اتضح ذلك جليًا من خلال النية – التي عبّر عنها وزراء الحكومة الإسرائيلية – ومن خلال النتائج التي تتضح في ارتفاع عدد الوفيات الناتجة عن الجوع؛ حيث تم الإبلاغ عن وفاة 266 شخصًا لأسباب تتعلق بسوء التغذية، وهو على الأرجح أقل من الواقع بكثير.

تؤكد التقارير الصادرة عن العاملين في مجال الرعاية الصحية والمنظمات الإنسانية الدولية، والنداءات المباشرة اليائسة من آلاف الفلسطينيين في غزة، والأسعار الباهظة للمواد الغذائية الأساسية التي تتوفر بالكاد، صحة هذه المزاعم. قتلت القوات الإسرائيلية، وربما المتعاقدون الأمنيون الذين توظفهم منظمة الإغاثة المدعومة من إسرائيل، أكثر من 1400 فلسطيني كانوا يحاولون الحصول على الطعام من مواقع المساعدات منذ مايو/ أيار الماضي. ويواصل الفلسطينيون محاولاتهم للوصول إلى هذه المصائد المميتة يوميًا، لمجرد عدم وجود ما يكفي من الطعام في أماكن أخرى، وكل ذلك بتدبير إسرائيلي.

وحسب ما أشار إليه المؤرخ آدم توز في نشرة إخبارية حديثة، فإن التجويع المتعمد في غزة حالة استثنائية. هناك 11 منطقة في العالم حاليًا يواجه فيها السكان خطر الجوع الشديد بأعداد أكبر من غزة، بما في ذلك اليمن والسودان، لكن توز يشير إلى أن المجاعة في غزة تعد حالة فريدة لأنها “نتيجة لسياسة متعمدة تطبقها دولة قوية، تُعتبر عادة جزءًا من نادي “الاقتصادات المتقدمة”، لذلك فإن المجاعة الجماعية في غزة في صيف 2025 تختلف تمامًا عن أي مكان آخر في العالم”.

يضيف توز أنه بينما يواجه حوالي نصف سكان اليمن والسودان وجنوب السودان وهايتي خطر المجاعة، فإن 100 بالمائة من الفلسطينيين في غزة معرضون للخطر. وكتب توز موضحا أن “خطر المجاعة في غزة شامل”.

إذا كان بإمكان شخص ما، بعد ما يقرب من عامين من الإبادة، أن يرى المشاهد والشهادات من غزة – والتي تمثل صور هؤلاء الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية جزءًا صغيرًا منها – ويستخلص أن المشكلة الرئيسية هي أن الرأي العام يجب أن يعرف على نطاق أوسع أن بعض الفئات الأكثر ضعفًا في خضم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل تعاني من مشاكل صحية موجودة مسبقًا، فإننا لا نتحدث من منظور الإنسانية المشتركة.

أستطيع القول بثقة تامة أن كل معاناة الفلسطينيين لا يمكن أن تغير نظرة هذا الشخص للعالم في هذه المرحلة، لأنه لا ينظر أساسا للفلسطينيين كبشر.

إن عدم إدراك كتاب وناشري تقرير “فري برس” أن ادعاءهم يُعادل القول بأن فرانك ماتت أساسًا بسبب حمى التيفوس، يُظهر جليًا أنهم لا ينظرون إلى الفلسطينيين كبشر. إنها عدسة عنصرية مُتحيزة وعرقية، لا تستحق الاحتقار فحسب، بل إنها أيضًا لا تستحق النقاش.

إن النظرة العالمية التي ترى بأن إسرائيل تخوض حروبا عادلة، مازالت ثابتة حتى في ظل انتشار صور الأطفال والرضع الذين يتعرضون للتجويع والذبح بشكل ممنهج. في نهاية المطاف، اضطرت الدعاية الصهيونية أن تبرر منذ عقود تشويه الأطفال وسجنهم وقتلهم، ولم تبدأ صور الأطفال والرضع الفلسطينيين القتلى بالانتشار في هذه المرحلة تحديدا، بل هي موجودة منذ زمن طويل.

قبل عقد من الزمن، كتب تشارلز كراوثامر – وهو كاتب عمود صهيوني سابق في صحيفة واشنطن بوست – مقالًا بعنوان “الوضوح الأخلاقي في غزة”، أشاد فيه بأفعال إسرائيل خلال هجومها على غزة في عام 2014، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 2000 فلسطيني، بما في ذلك أكثر من 500 طفل. انتشرت حينها صور الفظائع، بما في ذلك صور أربعة أطفال فلسطينيين قُتلوا على شاطئ غزة بصواريخ إسرائيلية.

قال كراوثامر إنه تم تصوير الأطفال القتلى “بطريقة تلفزيونية”، وهي عبارة استخدمها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه ليلقي باللوم على حماس. يعترف نتنياهو بأن ضحايا إسرائيل غالبًا ما يجذبون الأنظار، وخاصة الأطفال، لكنه يعتمد على تجريد الفلسطينيين من الإنسانية إلى درجة أن أسوأ مشاهد المجازر والجوع يمكن أن تنتشر عالميا دون أن تدفع إلى اتخاذ إجراءات فورية ضد إسرائيل بسبب ارتكابها إبادة جماعية.

إن ما يُطلق عليه موقع “فري برس” تصحيحا للمعلومات، هو تذكير مروع بأن المشكلة ليست في عدم كفاية الأدلة، وليست في الإلمام بالوقائع، بل في من يسمح باستمرار هذه الإبادة الجماعية بالدعم السياسي والمالي.

المصدر: ذي انترسبت