“المواقف الإسرائيلية ما بعد حكم الأسد”.. قراءة في التحولات والعقيدة الأمنية

في سياقات التحولات الإقليمية يُعَدّ كتاب “في المواقف الإسرائيلية ما بعد حكم الأسد: سعي للتجزئة وإعادة رسم النفوذ” إضافةً مهمةً للمكتبة العربية المتخصصة في الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية. صدر الكتاب عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في عام 2025 (193 ص)، ويقدّم مجموعةً مختارةً من الدراسات والتحليلات والمقالات التي نُشرت في صحف إسرائيلية في أعقاب الانهيار المفاجئ لنظام الحكم في سورية في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024.

أشرف على تحرير الكتاب كلٌّ من سليم سلامة، الذي تولّى مهام الإعداد، وأنطوان شلحت الذي قدّم له بمقدمةٍ رصينة، وسليم سلامة الذي أعدَّ هذا الكتاب هو باحث وأكاديمي قانوني، أمّا أنطوان شلحت، فهو باحث فلسطيني متخصص في الشؤون الإسرائيلية وناقد أدبي ومترجم عن العبرية، ويُعَدّ من أبرز المختصين في رصد وتحليل المشهد الإسرائيلي، وقد قامت بالتحرير والتدقيق اللغوي للمقالات الأستاذة لميس رضى.

في هذا المقال، نحاول تقديم مراجعة تحليلية لمحتوى الكتاب، تتجاوز حدود التلخيص لتستكشف الأبعاد الاستراتيجية الأعمق التي تُحرّك الفكر الإسرائيلي، في ظل تطورات الساحة السورية ما بعد سقوط الأسد واستلام السلطة الحالية بقيادة أحمد الشرع، في الإجابة حول كيفية سعي “إسرائيل” لاستغلال التحولات في سورية لتعزيز مصالحها الاستراتيجية وإعادة صياغة الواقع الإقليمي، كما يسعى إلى تفكيك الأطروحات الرئيسية التي يعرضها الكتاب، وتحليلها في سياقها الجيوسياسي، وتقييم قيمتها المنهجية وحدودها.

“إسرائيل”.. من مبدأ الردع إلى استراتيجية التفكيك

تتمحور أطروحة الكتاب في كيفية التحوّل الجذري في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، من مبدأ “ردع” محور المقاومة إلى استراتيجية “تفكيكه”. هذا التحوّل لا يمثّل مجرد تغيير في اللغة أو الموقف، بل هو انتقالٌ نوعيٌ من سياسةٍ دفاعيةٍ تهدف إلى منع التصعيد، إلى سياسةٍ هجوميةٍ تسعى لتغيير موازين القوى القائمة بالقوة، ونرى تجلّيات هذه العقلية في الوقت الحالي من خلال حرب الإبادة القائمة على غزة.

لتحليل هذا التحوّل، يستعرض الكتاب سلسلةً من الأحداث المترابطة التي شكّلت خلفيةً استراتيجيةً لسقوط نظام الأسد. بدأت هذه السلسلة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أعقاب عملية السابع من أكتوبر 2023، والتي امتدت لتشمل الاشتباك المباشر مع ما يُسمّى بـ”محور المقاومة”. من منظورٍ إسرائيليّ، تمثّل سورية حلقةً أساسيةً في هذا المحور، وتُعتبر قاعدةً مركزيةً للنفوذ الإيراني ونفوذ حزب الله في المنطقة.

يُظهر الكتاب أن “إسرائيل”، وبعد تقييمها للوضع الإقليمي، قرّرت الانتقال من مبدأ الردع، الذي كان قائمًا على مراقبة قدرات المحور ومنعه من التوسّع، إلى مبدأ التفكيك، حيث بدأت هذه الاستراتيجية الهجومية بسلسلةٍ من “التدخلات الجراحية” التي استندت إلى التفوق العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي.

كان أوّل هذه التدخلات في اغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ثم توجيه ضرباتٍ موجعةٍ أخرى للحزب وصفوفه الأولى الأمنية والعسكرية، وقد تلا ذلك هجومٌ إسرائيليٌّ مباشرٌ على إيران في السادس والعشرين من أكتوبر 2024، أدّى إلى تدمير أنظمة الدفاع الجوي ومرافق عسكرية إيرانية، بما في ذلك مواقع إنتاج الصواريخ والطائرات المسيّرة، فضلًا عن الحرب الأخيرة، في يونيو الماضي، بمساندةٍ أميركيةٍ لضرب المفاعلات النووية واغتيال العلماء والقادة العسكريين.

في ضوء هذه التطورات التي عكست تفوّقًا إسرائيليًا أمام محور المقاومة، يُحلّل الكتاب كيف شنّت عملية “ردع العدوان” بقيادة هيئة تحرير الشام هجومًا واسعًا ومفاجئًا في سورية، انتهى بالإطاحة بنظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر. فالانهيار المباشر للنظام السوري لا يُنظر إليه كحدثٍ سوريٍّ داخليٍّ معزول، بل كنتيجةٍ وتتويجٍ لاستراتيجيةٍ إسرائيليةٍ هجوميةٍ ناجحةٍ في تفكيك المحور وإضعاف النفوذ الإيراني بشكلٍ حاسم. وعليه، تعتبر إسرائيل أن سقوط النظام يمثّل تحولًا استراتيجيًا يعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة لصالحها.

“إسرائيل” وسورية الجديدة: استراتيجيات التجزئة وإعادة التموضع

يتناول القسم الأول من الكتاب، والذي يضم ستة عشر مقالًا لكتّاب وباحثين إسرائيليين بارزين، كيفية استثمار “إسرائيل” للوضع الجديد في سورية، فيما يتّضح أن التفكير الإسرائيلي لا يكتفي بالاحتفاء بسقوط النظام، بل ينتقل مباشرةً إلى وضع خططٍ استراتيجيةٍ لضمان مصالح “إسرائيل” في “سورية الجديدة”.

من بين الأفكار الرئيسية التي يطرحها هذا القسم، الدعوة إلى السيطرة الكاملة على جبل الشيخ وعدم الانسحاب منه، وذلك بهدف تعزيز الأمن على الجبهة الشمالية (الجنوبية السورية)، كما يُنظر إلى هذه السيطرة، ليس فقط كهدفٍ تكتيكيٍّ، بل كجزءٍ من استراتيجيةٍ أوسع لتأمين الحدود الشمالية الإسرائيلية في ظل غياب سلطةٍ مركزيةٍ سوريةٍ قويةٍ تتحكّم في المشهد كلّيةً.

وفي بعض المقالات الإسرائيلية، منها مقال رامي سيمني، بعنوان “مصلحة إسرائيل هي تقسيم سوريا” (ص 43)، وفيه دعوةٌ واضحةٌ إلى تقسيم سورية إلى “خمسة كانتونات طائفية”، لإضعاف الدولة المركزية، وهو ما يهدف بدوره إلى تعزيز الأمن الإسرائيلي على المدى الطويل. يُضاف إلى ذلك تناول استراتيجياتٍ لتعزيز النفوذ الإسرائيلي في الجنوب والشمال، للحد من النفوذ الإقليمي الإيراني المحتمل رجوعه، فيما يبدو أن هذا المنطق يُفسّر كيف أن التفكير الإسرائيلي يرى في التجزئة وسيلةً لتحقيق الأمن على المدى الطويل.

كما يتناول الصراع المحتمل بين تركيا و”إسرائيل” في سورية بعد تراجع النفوذ الإيراني، ما يعكس أن الأجندة الإسرائيلية لا تقتصر على “محور المقاومة”، بل تشمل أيضًا إدارة التنافس مع قوى إقليميةٍ أخرى تسعى لملء الفراغ الذي خلّفه سقوط النظام السوري، وخصوصًا مع تركيا، وهي من الدول القوية في المشهد الإقليمي، وفي سوريا تحديدًا.

تفكيك المحور: تداعيات على المقاومة وإيران

يضم القسم الثاني من الكتاب خمسة مقالاتٍ (ص 87–111) تركّز على خطط “إسرائيل” لتفكيك حزب الله، وكيفية استغلال نتائج سقوط نظام الأسد لإحداث تغييرٍ استراتيجيٍّ في الشرق الأوسط، إذ يُقدّم هذا القسم رؤيةً إسرائيليةً للطموح الأكبر، وهو إلغاء التهديد نهائيًا على المدى البعيد، ما يشير إلى وجود رغبةٍ واستراتيجيةٍ إسرائيليةٍ في إنهاء التحدي الأمني الذي يُشكّله المحور بشكلٍ كامل، وليس فقط ردّه أو احتواؤه.

هذا لأن التفكير الإسرائيلي “المُتجدّد” يرى في سقوط النظام السوري ضربةً مباشرةً وموجعةً لكلٍّ من إيران وحزب الله. والسبب في ذلك، هو أن سورية كانت بمثابة “قاعدةٍ مركزيةٍ” ضروريةٍ لعملياتهما الإقليمية، فسوريا كانت تمثّل جسر الإمداد الإيراني لحزب الله، وانهيار هذه الحلقة الرئيسية يُضعف بشكلٍ كبيرٍ قدرة المحور على العمل والتنسيق.

أيضًا، تذهب الرؤى الاستراتيجية إلى ما هو أبعد من مجرد أهدافٍ أمنيةٍ محدودة، فمن وجهة النظر الإسرائيلية، في مقال الباحث يعقوب عميدرور (ص 105)، توجد فرصةٌ تاريخيةٌ لإعادة رسم المشهد الإقليمي ككل، ليس فقط في سورية ولبنان، بل في مواجهة النفوذ الإيراني على نطاقٍ أوسع. فإنّ انهيار القاعدة المركزية للمحور يفتح الباب أمام استراتيجياتٍ هجوميةٍ لـ”تفكيك” القوى التي كانت تعتمد عليها. هذا الطرح يوضّح أن “إسرائيل” لا تنظر إلى الحدث السوري كقضيةٍ محليةٍ، بل كفرصةٍ لتغيير موازين القوى في المنطقة بأكملها.

رسم المشهد الإقليمي الجديد: تركيا، روسيا، والعالم العربي

أمّا القسم الثالث والأخير من الكتاب، الذي يحتوي على خمسة عشر مقالًا، فيُناقش التداعيات الإقليمية الأوسع لسقوط النظام السوري. يُظهر هذا القسم كيف أن الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي يرى في سورية ساحةَ صراعٍ متعددةَ الأطراف، لا تقتصر على “إسرائيل” والقوى الإقليمية، بل تتضمّن أيضًا قوى دولية مثل روسيا والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وتتناول قضايا اقتصاديةً حيويةً مثل ممرات الطاقة.

فتُسلّط المقالات، كما في مقال الكاتب علاي ريتيج بعنوان “الخطط التركية لإنشاء ممرات جديدة للطاقة في سورية: كيف ستؤثّر في طموحات إسرائيل الإقليمية؟” (ص 157)، الضوء على أن الصراع في سورية لا يقتصر على الأبعاد الأمنية والسياسية التقليدية، بل يمتدّ ليشمل أبعادًا اقتصاديةً واستراتيجيةً أوسع، خصوصًا فيما يتعلّق بالسيطرة على ممرات الطاقة.

إنّ تركيز الكتاب على هذا الجانب يوضّح أن “إسرائيل” لا تسعى فقط لتأمين حدودها، بل تطمح أيضًا لتأمين دورها كلاعبٍ محوريٍّ في مستقبل المنطقة السياسي والاقتصادي، فالاهتمام بممرات الطاقة يؤكّد أن الأهداف الإسرائيلية لا تقتصر على الأبعاد العسكرية والأمنية، بل تتضمّن طموحاتٍ اقتصاديةً وجيوسياسيةً أوسع تسعى “إسرائيل” لنَيلِ حصةٍ منها وسط صراعات القوى الإقليمية والدولية.

قراءة نقدية

يُقدّم كتاب “في المواقف الإسرائيلية ما بعد حكم الأسد” قيمةً بحثيةً ومنهجيةً فريدةً من نوعها، فَكونه تجميعًا لمجموعةٍ من المقالات والدراسات الإسرائيلية المُترجمة مباشرةً إلى اللغة العربية، فإنّه يُوفّر للقارئ العربي فرصةً نادرةً للاطّلاع على مصادر أصلية تعكس الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي. هذه المنهجية تتجاوز التحليل الذي يُجريه طرفٌ ثالث، ممّا يسمح للقارئ بالتعرّف مباشرةً على الأفكار والفرضيات التي يطرحها المحلّلون وصنّاع القرار في “إسرائيل”.

أمّا أهم الأطروحات التي يعرضها الكتاب، والتي تتطلّب قراءةً نقديةً معمّقةً، بل وتركيزًا شديدًا من الإدارة الجديدة في سوريا، فهي فكرة “حلّ القضية الفلسطينية من البوابة السورية”، كما يُقدّمها الكاتب بوعاز ليبرمان في مقالته بعنوان “هل سورية هي الحل للمشكلة الفلسطينية في الشرق الأوسط؟” (ص 175).

هذا الطرح ربط، بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ، بين الأزمة السورية والقضية الفلسطينية، وهو ربطٌ استراتيجيٌّ لا يمكن تجاهله. يرى بعض المفكرين الإسرائيليين، كما يعرض الكتاب، أن تفكيك سورية يمكن أن يُوفّر فرصةً لإعادة صياغة المشكلة الديموغرافية على أرض فلسطين، غزة تحديدًا، عبر طرح فكرة استقبال سورية للاجئين الفلسطينيين أو المُحتمل تهجيرهم على أراضيها.

هذه الرؤية تكشف عن بُعدٍ استراتيجيٍّ عميقٍ، يرى في أزمات الدول العربية فُرَصًا لتحقيق أهدافٍ إسرائيليةٍ طويلةِ الأمد في صراعاتٍ تبدو في ظاهرها بعيدةَ كلّ البعد عن القضية الفلسطينية، كما يُثبت أن قضية التهجير لا تزال في صُلب التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي الجديد، حتى عندما يبدو أن الأولوية هي للملفات الأخرى. إنّ هذا الربط الجدلي يكشف عن قدرة الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي على استغلال الأزمات الإقليمية لتحقيق أهدافٍ غير معلنة.

وعلى الرغم من قيمته، فإنّ الكتاب يُثير أيضًا تساؤلاتٍ منهجيةً حول طبيعة المواد المُترجمة، فهو يُمثّل “ترجماتٍ لمجموعةٍ من الدراسات والتحليلات”، فإنّه يطرح سؤالًا بالغ الأهمية، وهو: هل هذه المقالات تعكس كلّ الأطياف الفكرية في “إسرائيل”، أم أنّها تمثّل تيّارًا فكريًا محدّدًا يرى أن سقوط نظام الأسد فرصةٌ استراتيجيةٌ يجب استغلالها؟.