هل غيّر الجيش أولوياته.. كردفان قبل دارفور؟

تعرضت قوات تُقاتل مع الجيش لكمين مميت يوم الأربعاء 20 أغسطس/ آب الحالي في بلدة أم قعود قرب الأبيض، التي تُعد أكبر مدن منطقة كردفان الكبرى، وفي اليوم التالي استطاعت قوات متحالفة مع الجيش استعادة المنطقة بعد معارك ضارية.

يمثل تبادل السيطرة على بلدة أو مدينة في كردفان، التي تضم ثلاث ولايات هي شمال وجنوب وغرب، سمة أساسية للحرب في المنطقة، حيث إن المعارك لا تهدف إلى الارتكاز في بلدة مكشوفة بقدر ما تهدف إلى الهيمنة على طرق الإمداد والموارد وكسب ولاء المجتمعات المحلية لضمان السيطرة الكلية بعد إنهاك الخصم وتشتيت شمله.

واستطاعت قوات الدعم السريع، نظرًا إلى امتلاكها القدرة على الالتفاف والإسناد بما يُعرف بالفزع في البيئات المفتوحة التي تملك فيها قواعد شعبية، إحباط جميع التحركات في الأشهر الماضية للتوجه إلى شرق أو شمال دارفور انطلاقًا من مدينة الأبيض بشمال كردفان إلى الخُوي في غرب كردفان، وربما هذا ما دفع الجيش إلى اتخاذ استراتيجية جديدة.

الفزع الأكبر

تتمثل الاستراتيجية في تخلي الجيش عن دارفور في الوقت الحالي على أن يرمي بثقله في فتح طريق الأبيض ــ الدلنج الذي يبلغ طوله نحو 160 كيلومترًا، بما يعني استعادة ثلاث مناطق حيوية تشمل الحمادي والدبيبات وطيبة، إضافة إلى عشرات القرى الصغيرة، لتحقيق أهداف عديدة من بينها إحباط محاولات السيطرة على جنوب كردفان وانفتاح قواته في المناطق الواقعة شرق الطريق.

ودشنت السلطات الحكومية في ولاية شمال كردفان منتصف هذا الشهر متحركًا جديدًا أسمته “متحرك الفزع الأكبر“، الذي يتأسس من قوات الإسناد التي تُقاتل مع الجيش، ليعمل مع “متحرك الصياد” لفتح طريق الأبيض ــ الدلنج.

وسجل رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان في اليوم الثاني من تدشين متحرك الفزع الأكبر زيارة ميدانية إلى موقع عسكري في كردفان، أعقبها زيارة ثانية لمساعده في قيادة الجيش ياسر العطا في اليوم الثالث، كما شُوهد المتحدث الرسمي للجيش في كردفان.

 

 

وبدأت قوات العمل الخاص، التي تخصصت في شن هجمات مفاجئة ذات أثر فعّال، بمهاجمة تمركزات الدعم السريع، لتهيئة الوضع لخوض معارك برية فاصلة بعد استكشاف نقاط الضعف ومواقع تمركز المليشيا.

ورغم أن البرهان قرر إخضاع جميع القوات المتحالفة لقانون وأوامر الجيش، إلا أن الحلفاء لا يزالون يتحركون بصورة منفردة مثلما حدث في بلدة أم قعود، سواء من فليق البراء بن مالك الذي فقد قادة ميدانيين في المعركة، أو قوات درع السودان أو القوة المشتركة للحركات المسلحة.

ويُعتبر التحرك المنفرد أكبر خطأ يمكن أن ترتكبه القوات، حيث يُعرضها لكمائن الدعم السريع، الذي لم يعد قوة متماسكة وإنما مجموعات من أبناء قبائل ومناطق دارفور وكردفان يعرفون التضاريس الجغرافية جيدًا، لكنهم لا يملكون الصمود أمام تحرك منظم.

 

 

عقبات ولكن..

يمثل موسم الأمطار، الذي يتزايد هطوله في أغسطس وسبتمبر، والحشائش حائلًا أمام تحرك القوات في طرق ترابية، فيما تُعرقل طبيعة المنطقة تحريك آليات حربية ثقيلة مثل الدبابات والمدافع، مما يدفع الجيش إلى الاستعانة بحلفائه الذين يجيدون التحرك بسيارات الدفع الرباعي، على أن يدعمهم بالتغطية الجوية عبر الطائرات المسيّرة والطيران الحربي.

وهذا يختلف عن حروب المدن والمساحات القليلة التي خاضها في ولايات سنار والجزيرة والخرطوم، حيث استطاع السيطرة عليها بعد إغلاق منافذ الإمداد وتعطيل عقيدة الدعم السريع المتمثلة في الفزع ومنافذ الإمداد، فيما المعارك هنا مقصود منها الاستنزاف.

ويتطلب إنهاك الخصم عدم وضع اعتبار للوقت والخسائر البشرية، وإنما التركيز على تفكيك تماسك المليشيا بفصلها عن قواعدها الشعبية التي يُطلق عليها محليًا مفردة “الحواضن”، حيث إن تفكيك الغطاء الاجتماعي يجعل مجموعات الدعم السريع تنهار تباعًا.

 

 

وتفكيك الولاءات المحلية لا يحدث بالسلاح وإنما بالإقناع وبناء الثقة مع قادة القبائل مع ضمان منح أبنائهم المقاتلين في صفوف المليشيا حصانة من الملاحقة القضائية، وهذا أمر فطن له الجيش مبكرًا، حيث عمل على تخفيف الهجوم الإعلامي والتخوين واستقطاب بعض قادة العشائر والقبائل.

ودرج هؤلاء القادة منذ عقود على التصالح مع أي حكومة أو قوات تحكم مناطقهم بالقوة، بمعنى أنهم يوالون ما يُفرض عليهم بالقوة في سبيل الحفاظ على المجتمعات المحلية، وهذا ما حدث في تعاملهم مع الدعم السريع، الذي وفروا له المقاتلين، لكنها سرعان ما تتخلى عنه حال مالت الكفة إلى الجيش.

ولهذا، تعد الحمادي، وهي أول منطقة تُقابلها متحركات الجيش المتجهة من الأبيض صوب الدلنج، أول عقبة، إذ تقطنها قبيلة الحوازمة الموالية للدعم السريع، حيث سيطرت عليها القوات المسلحة في 13 مايو/ أيار الماضي وتقدمت حتى وصلت إلى الدبيبات، لكنها سرعان ما تراجعت إلى الأبيض.

تبديل المنهج، قد ينجح!

يحتاج الجيش إلى السيطرة على الحمادي والدبيبات وطيبة ليحكم سيطرته على طريق الأبيض ــ الدلنج، وبما أنه وصل سابقًا إلى الحمادي والدبيبات، فإن العقبة الكبرى هي طيبة، التي تكمن أهميتها في كونها نقطة وصل لثلاثة طرق حيوية تشمل الدبيبات والدلنج وأبو زبد.

وتتمثل خطورتها بالنسبة إلى الجيش في كونها طريق إمداد للمليشيا من أبو زبد أو من الحركة الشعبية ــ شمال في لقاوة، لذلك نشطت القوات المسلحة في إسقاط عتاد ومعدات وأموال إلى قاعدتها في الدلنج لتسهيل انفتاحها إلى طيبة وقطع طريق إمداد الدعم السريع.

إن عدم تحرك القوات من الدلنج إلى طيبة أدى إلى فشل محاولة فتح الطريق بعد أن استعادت المليشيا مدينة الدبيبات وسرعان ما بدأت في إفراغها من سكانها، الذين ينتمي معظمهم إلى قبيلة كنانة، وهي قبيلة لا تواليها وتُعد الأقرب إلى الاصطفاف بجانب الجيش.

 

لماذا يحتاج الجيش إلى السيطرة على الطريق؟

إن سيطرة الجيش على طريق الأبيض ــ الدلنج تعني؛ أولًا ربط قواته المنتشرة في المدن الواقعة شرق الطريق مثل دلامي وأبو جبيهة وأبو كوشولا ورشاد مع قواعده في الأبيض، لضمان وصول الإمدادات إليها وتضييق الخناق على تواجد المليشيا والحركة الشعبية في المناطق الواقعة غرب الطريق مثل أبو زبد والفولة وبقية مناطق غرب كردفان.

ويتمثل الهدف الثاني في إضعاف التنسيق العسكري بين المليشيا والحركة الشعبية ــ شمال في مدينة هبيلة ومحاصرتهم فيها وقطع الإمداد الذي يصلهم من مناطق غرب الطريق قبل اجتياحها لاحقًا.

وإذا نجح الجيش في السيطرة على الطريق وربط قواته، يستطيع التحرك إلى غرب كردفان حال نجحت قواته في مدينة بابنوسة بالانفتاح، وبالتالي الوصول إلى شرق دارفور بسهولة، خاصة أن ولاء عشائر وقبائل غرب كردفان، بما في ذلك على مستوى القبيلة مثل المسيرية، ينقسم بين الجيش والدعم السريع.

ولا تنفصل الأوضاع الإنسانية في الدلنج وكادقلي، التي وصلت إلى مستوى اعتماد معظم السكان على الحشائش من أجل البقاء على قيد الحياة في ظل ندرة المحاصيل وانعدام بعض السلع والأدوية، عن تحركات الجيش، حيث إن فتح الطريق يعني وصول السلع والأدوية من الأبيض برًا.

وتسعى الحركة الشعبية إلى إضعاف الجيش في الدلنج وكادقلي عبر الحصار وقطع طرق الإمداد، لتسهيل الانقضاض عليهما من مواقع تمركزها حول المدينتين، ويبدو أنها تعتمد على عامل الزمن في حدوث انهيار في صفوف القوات المسلحة وحلفائها قبل الهجوم.

ولا يستطيع الجيش إحباط هذا الأمر إلا بالإسراع في السيطرة على طريق الأبيض ــ الدلنج، بما يضمن تحكمه الكامل في معظم أنحاء جنوب كردفان باستثناء معاقل الحركة الشعبية التي تُسيطر عليها منذ سنوات طويلة مثل كادوا.

تؤكد المؤشرات الحالية قدرة الجيش على السيطرة على الطريق وربط قواته في شمال كردفان بجنوبها تمهيدًا لاجتياح غرب المنطقة، لكنه يحتاج قبل كل شيء إلى حل تعقيدات التحالفات المحلية ليتمكن من الانطلاق إلى شرق دارفور.