هل صارت كولومبيا رهينة اللوبي الإسرائيلي؟

ترجمة وتحرير: نون بوست

إن اعتماد جامعة كولومبيا لتعريف واسع ومثير للجدل لمعاداة السامية يعرّض حرية الأكاديميين وطلابها اليهود لمخاطر حقيقية.

نُشِر في سنة 2005 “تعريف عملي” لمعاداة السامية على موقع المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية وكراهية الأجانب، وهو معهد أبحاث أسسه الاتحاد الأوروبي. وصف التعريف معاداة السامية بشكل غامض بأنها “تصور معين لليهود، قد يُعبّر عنه بالكراهية تجاههم”. وكانت الأمثلة الإحدى عشرة التي تلت التعريف أقل وضوحًا، وغالبيتها ركّزت على إسرائيل، منها: “إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره بالادعاء أن وجود دولة إسرائيل مشروع عنصري”، و”تطبيق معايير مزدوجة بفرض سلوكيات على إسرائيل غير متوقعة أو مطلوبة من أي دولة ديمقراطية أخرى”.

على مدى العقدين الماضيين، لم يوافق معظم كبار العلماء على هذا التعريف جزئيًا لأنه يطمس الفارق بين النقد المشروع لإسرائيل والعداء تجاه اليهود. أما في المجال السياسي، فقد لقي التعريف استحسانًا واسعًا. ففي سنة 2016، اعتمد التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست – وهو منظمة حكومية دولية – نسخة معدلة قليلًا من التعريف لا تزال تعتمده حتى الآن أكثر من أربعين حكومة وذلك رغم غموضه. ويشير المؤرخ مارك مازوير في كتابه المرتقب “حول معاداة السامية” إلى أن بعض داعمي التعريف رأوا غموضه ميزة وليس عيبًا. وظهر التعريف في وقت كانت فيه الحملات ضد معاداة السامية أداة رئيسية لجمع التبرعات لمنظمات مثل اللجنة اليهودية الأمريكية ورابطة مكافحة التشهير، مع التركيز على “المعاداة الجديدة”، أي تشويه صورة إسرائيل، أكثر من المعاداة التقليدية التي كانت في تراجع بنهاية الحرب الباردة.

كان هذا التحول ليصدم مؤسسي إسرائيل الذين اعتقدوا أن قيام دولة يهودية سيقضي على معاداة السامية. سأل ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، أحد قادة رابطة مكافحة التشهير سنة 1970: “هل ما زلتم مستمرين في إنقاذ اليهود من المعادين للسامية؟”، ملمّحًا إلى أن حل المشكلة يمكن بهجرة اليهود فقط. وكان سيذهل أيضًا منظمو مؤتمر رابطة مكافحة التشهير في نيويورك سنة 1962، الذي ناقش التطرف اليميني دون الإشارة لإسرائيل.

بحلول أوائل الألفية، تغيّرت السياسة حيث انضمت مجموعات يهودية أمريكية كبيرة إلى دعاة مثل ناتان شارانسكي، الوزير الإسرائيلي ورئيس منتدى التنسيق لمكافحة معاداة السامية، لتعبئة الجهود حول القضية وإعادة رسم الخطوط الأيديولوجية للصراع. وكما يلاحظ مازوير، انفصلت معاداة السامية عن النضال ضد أشكال التمييز الأخرى وتحولت من ارتباطها باليمين السياسي إلى اليسار، حيث يتواجد الكثير من منتقدي إسرائيل. ومن ثم، كان التعريف الواسع مفيدًا للضغط على هؤلاء النقاد وإسكاتهم.

لم يستخدم أي سياسي التعريف الدولي لمعاداة السامية أكثر من الرئيس دونالد ترامب. ففي سنة 2019، وقّع أمرًا تنفيذيًا ينص على أن قانون الحقوق المدنية لسنة 1964 يمنع “أشكال التمييز المستندة إلى معاداة السامية” ويوصي الوكالات الفيدرالية بالرجوع للتعريف عند التحقيق في الشكاوى. ومؤخرًا، هدّدت الإدارة ستين جامعة بـ”إجراءات تنفيذية محتملة” إذا فشلت في حماية الطلاب اليهود. وفي 23 يوليو/ تموز، توصلت جامعة كولومبيا إلى تسوية مع الإدارة تطلب منها دفع مئتي مليون دولار على مدى ثلاث سنوات، وتوسيع “التزامها بمكافحة معاداة السامية”، مقابل استعادة مئات الملايين من المنح الفيدرالية. وقبل عشرة أيام، كانت الجامعة قد دمجت التعريف في سياسات مكافحة التمييز وأعمال مكتب المساواة المؤسسية.

يدرّس مازوير في الجامعة منذ سنة 2004، ولم يُستشر حول اعتماد التعريف، ولم يُستشر كينيث ستيرن، المؤلف الرئيسي له. وفي السنوات الأخيرة، أعرب ستيرن، المحامي وخبير معاداة السامية السابق لدى اللجنة اليهودية الأمريكية، عن استيائه من أن الجماعات المؤيدة لإسرائيل استغلت التعريف لتهديد الجامعات بدعاوى قضائية بسبب تقديم دورات حول مواضيع مثل احتلال إسرائيل، معتبرًا ذلك انتهاكًا لحرية الأكاديميين وتحريفًا لغرض التعريف. وفي كتابه “الصراع حول الصراع“، الذي يتناول كيفية تجسيد الجدل حول إسرائيل وفلسطين في التعليم العالي، يؤكد أن التعريف أُنشئ أصلاً لمساعدة جامعي البيانات على جمع إحصاءات حول معاداة السامية، وأن استخدامه لقمع الخطاب السياسي “يشكّل أحد أكبر التهديدات التي تواجه الجامعات اليوم”.

عندما بدأت التظاهرات ضد الحرب في غزّة تهزّ الحرم الجامعي منذ سنتين، استعانت العديد من الجامعات بستيرن لتقديم المشورة حول كيفية التعامل مع هذه الاضطرابات. وكانت جامعة كولومبيا إحدى هذه الجامعات، حيث ألقى عرضًا حول الموضوع في مكتبة باتلر. وأكد ستيرن مؤخرًا خلال حديثه على أهمية حماية حرية الأكاديميين: “قلت لهم، إذا كنتم ستتخذون قرارًا، اسألوا أنفسكم سؤالًا واحدًا: هل سيعزز هذا القرار حرية الأكاديميين، أم سيضر بها، أم سيكون محايدًا؟ إذا ساعد، سينال قبول هيئة التدريس، وإذا أضرّ، سينقلب ضدكم”. وعندما علم بتسوية جامعة كولومبيا مع إدارة ترامب، خلص إلى أن نصائحه لم تُؤخذ بعين الاعتبار. وأضاف: “لا أرى أي خير من هذا الاتفاق”، معتبرًا أنه سيجعل من المستحيل “قيام هيئة التدريس بواجباتها”.

أكدت جامعة كولومبيا أن التسوية وُضعت “لحماية القيم التي تحدد هويتنا”. في مقال حديث بصحيفة “كولومبيا سبيكتيتور”، اختلف عالما الاجتماع جيل إيال وبيتر بيرمان مع هذا الرأي، مشيرين إلى أن الباحثين في الدراسات المقارنة حول الإبادة الجماعية قد يُتهمون بمعاداة السامية لمجرد إدراج حالة حملة إسرائيل الحالية في غزّة. ووفق تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، فإن “المقارنة بين سياسات إسرائيل المعاصرة وسياسات النازيين” تُعدّ معاداة للسامية. وبدون هذه المقارنات، سيكون من الصعب حتى مناقشة ما إذا كانت الحرب في غزّة تشكل إبادة جماعية، كما أشار الباحثان.

قبل أيام من نشر مقالهما، نشر رشيد خالدي، مؤلف كتاب “مئة عام من الحرب على فلسطين” وأستاذ الدراسات العربية الحديثة المتقاعد، رسالة مفتوحة في صحيفة “الغارديان” موجهة إلى رئيسة جامعة كولومبيا بالإنابة، كلير شيبمان، أعلن فيها أنه لن يقدّم مقررًا حول الشرق الأوسط هذا الخريف بسبب اعتماد الجامعة لتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست. وكتب خالدي: “سيكون من المستحيل في مقرر تاريخ الشرق الأوسط وصف الطبيعة التمييزية لقانون الدولة القومية الإسرائيلي لسنة 2018 – الذي يمنح الشعب اليهودي فقط حق تقرير المصير في إسرائيل، بينما نصف سكانها فلسطينيون – أو وصف طبيعة الفصل العنصري في سيطرتها على ملايين الفلسطينيين تحت الاحتلال العسكري منذ 58 سنة، وفق تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست”.

أشارت ماريان هيرش، الباحثة في الإبادة الجماعية وابنة ناجين من المحرقة، إلى أنها تفكر في التوقف عن التدريس، لأنها غير متأكدة من قدرتها على الاستمرار في تكليف الطلاب بقراءة نصوص مثل كتاب “أيشمان في القدس” لهانا أرندت، الناقدة للصهيونية التي تُعد واحدة من أبرز المفكرين اليهود في القرن العشرين.

يتضمن تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست بعض التحفظات، مؤكدًا أن الأمثلة التي يسردها “يمكن أن تُعتبر، مع مراعاة السياق العام، معاداة للسامية” بدلًا من التأكيد على كونها كذلك تلقائيًا. لكن في مناخ متصاعد من الخوف والريبة، ما مقدار الاطمئنان الذي يمكن أن يشعر به أعضاء هيئة التدريس وهم يشاهدون قيادات الجامعة تتنازل عن استقلاليتها لإدارة حاولت طرد طلاب لكتابتهم مقالات نقدية عن إسرائيل وأظهرت ازدراءها لحرية الأكاديميين؟

وبموجب تسوية جامعة كولومبيا مع إدارة ترامب، وافقت الجامعة على منح الحكومة الوصول إلى جميع “الموظفين والعاملين والمرافق والوثائق والبيانات المتعلقة بالاتفاقية”، ومنحت سلطة لمراقب خارجي لمراجعة مدى التزام الجامعة بشروط الاتفاقية، كما سمحت “لأي عضو في مجتمع كولومبيا” بالإبلاغ عن “ادعاءات عدم الالتزام”. وفي تقييم نُشر في الرابع من أغسطس/ آب، حذّر قادة معهد نايت للتعديل الأول في الجامعة، الذي أُنشئ لحماية حرية التعبير في العصر الرقمي، من أن هذه الأحكام ستؤدي إلى إقامة “نظام مراقبة مكثف” سيردع “أعضاء هيئة التدريس والطلاب عن ممارسة الحريات المحمية دستوريًا”.

قال جميل جعفر، المدير التنفيذي للمعهد: “التسوية تتطلب عمليًا من كولومبيا كبت الخطاب الذي يتمتع بحماية دستورية بلا جدال”. وأضاف أن استخدام تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست يشكل “جزءًا من جهد أوسع لقمع الخطاب النقدي لإسرائيل، ضمن جهد أكبر لإخضاع الجامعات”.

تعد القدرة على تهديد الجامعات واستغلالها أحد أسباب تبني إدارة ترامب للتعريف، فيما يتمثل سبب آخر في تصوير معاداة السامية على أنها مشكلة يسارية بالأساس تزدهر في الحرم الجامعي المليء بالشباب الذين غُرست فيهم أفكارًا معادية لإسرائيل على يد أساتذة متطرفين. ومن قراءة العناوين الأخيرة، قد يبدو أن الأدلة تدعم هذه الصورة، لكن الواقع مختلف. ففي سنة 2022، نشر العالمان السياسيان إيتان هيرش ولورا رويدن دراسة حول المواقف المعادية لليهود عبر الطيف الأيديولوجي، ووجدا أن التحيز ضد اليهود أكثر انتشارًا بين الشباب الأمريكي مقارنة بكبار السن، إلا أن المعتقدات المعادية للسامية، مثل اعتقاد أن اليهود غير موالين أو لديهم قوة مفرطة، “أكثر شيوعًا بكثير” على اليمين مقارنة باليسار.

في كتابه “حول معاداة السامية”، يستشهد مازوير بهذه الدراسة وأخرى توصلت إلى نتائج مشابهة، مشددًا على ضرورة توضيح العلاقة بين التحيز ضد اليهود والخطاب السياسي حول إسرائيل “بتمييز وحذر وحياد”، وتجنب الانخداع بالسياسيين “الذين يسعون لاستخدام معاداة السامية لقمع المعارضة ومهاجمة الحريات المدنية”. وهذا، بالطبع، الهدف الحقيقي لإدارة ترامب التي لم تكتفِ بعدم إدانة معاداة السامية على اليمين، بل ساعدت على تأجيجها. ففي ميونيخ في وقت سابق من هذه السنة، أذهل نائب الرئيس جيه دي فانس العديد من اليهود الألمان بلقائه زعيم حزب اليمين المتطرف “البديل من أجل ألمانيا” وانتقاده للقادة الأوروبيين لتجنبهم الحزب، بينما وصف ترامب المتفوقين البيض الذين رددوا في سنة 2017 في شارلوتسفيل بفيرجينيا “اليهود لن يحلّوا محلنا!” بأنهم “أشخاص رائعون”، وتناول الطعام مع منكرين للمحرقة في مار إيه لاغو.

قد لا يهم النفاق الصارخ أولئك الذين يعتقدون أن النقد الموجه للصهيونية وإسرائيل غالبًا ما يخفي معاداة السامية، وأن سلامة الطلاب اليهود في الجامعات على المحك. لهذا السبب، أشادت منظمات مثل رابطة مكافحة التشهير وشخصيات مثل ديبورا ليبستادت، المؤرخة التي شغلت منصب المبعوثة الخاصة لوزارة الخارجية لمراقبة ومكافحة معاداة السامية في عهد الرئيس السابق جو بايدن، بحملة إدارة ترامب على الجامعات. لكن هل ستعزز هذه السياسة فعلاً سلامة الطلاب اليهود؟ يخشى ستيرن أن يكون لها تأثير معاكس، لا سيما من خلال خلق الانطباع بأن اليهود يُمنحون امتيازات خاصة.

حتى مع تهديد الإدارة بقطع التمويل عن الجامعات التي تُخصص “مساحات آمنة” للطلاب من عرق أو أصل محدد، ضمن حملة ترامب ضد برامج التنوع والمساواة والشمول، تفرض الإدارة في الوقت نفسه تعزيز الحماية للطلاب اليهود. فالتسوية مع جامعة كولومبيا، على سبيل المثال، تتضمن بندًا يلزم الجامعة بتعيين شخص للتواصل مع الطلاب اليهود بشأن معاداة السامية وتقديم توصيات لقيادات الجامعة “لدعم الحياة اليهودية ورفاهية الطلاب اليهود”. وظهرت نمطية مماثلة في تسوية الإدارة الأخيرة مع جامعة براون، مما دفع الصحفي آرنو روزنفيلد من صحيفة فوروارد إلى نشر تقرير بعنوان: “كيف تحظر إدارة ترامب برامج التنوع في الجامعات—باستثناء اليهود”.

تقييد حرية الأكاديميين، وترحيل الطلاب الأجانب، وحظر التظاهرات كل هذا يتم تحت ذريعة حماية اليهود، الذين يُمنحون حماية لا تحظى بها مجموعات أخرى. ومن الصعب تخيل وسيلة أكثر فاعلية لإذكاء العداء لليهود. وهناك خطر آخر حدده المؤرخ توني جودت في مقال نشر قبل نحو عقدين، حين ظهر تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست. فقد لاحظ جودت أن “عادة وضع أي نقد خارجي في خانة معاداة السامية” عززت فكرة أنه إذا لم يعجبك ما تفعله الحكومة الإسرائيلية، مثل انتهاك القانون الدولي أو بناء مستوطنات غير قانونية، فليس بسبب قيمك أو سياساتك، بل لـ “كُرهك لليهود”. وأكد أن تكرار هذا التصور قد يتحول إلى “ادعاء متحقق ذاتيًا”، فيتحول “الاحتلال الإسرائيلي” إلى “احتلال يهودي”، مما يشجع الآخرين على “النظر إلى اليهود في كل مكان كمساهمين فعليين في سوء تصرف إسرائيل”.

وفي الواقع، هناك العديد من اليهود الذين يرون أن صهيونية الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية مشروع عنصري، وينتقدون إسرائيل بطرق قد تتعارض مع تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، كما يتضح من العدد الكبير من الطلاب اليهود المشاركين في الاحتجاجات ضد حرب غزّة في جامعات مثل كولومبيا. ومساواة التعبير عن هذه الآراء بمعاداة السامية ليس خطأً فحسب؛ بل، كما حذر جودت، قد يعرّض الطلاب اليهود لمخاطر أكبر.

المصدر: نيويوركر