شتلة واحدة الآن ومستوطنة متغوّلة لاحقًا

اجتمع بضعة مهاجرين أوروبيين يهود على شاطئ بحيرة طبريا في عام 1909، وقرروا زراعة شتلتين من النخيل والزيتون كإعلان رمزي عن بدء حياة وعهد يهودي جديد على الأرض المقدسة، لتصبح تلك البقعة بعد سنوات تُعرف باسم “ديغانيا”، وتنطلق منها الحركة التعاونية الاستيطانية، أو ما عُرف لاحقًا بالكيبوتسات “نواة الاستيطان”.
تتكرر الملابسات مرة أخرى بتطابق عجيب؛ هنا تُزرع شتلة، وهناك يُشاد سور أو يُقام سد، وفي منطقة أخرى تُجفف المستنقعات، وفي غيرها يُوضَع كرفانٌ ومعزةٌ بيضاء، وفي جميعها النهاية واحدة: بذرة لاستيطان قادم سيتوسع حتى يغدو مستوطنة، فمجمّعًا استيطانيًا، فمجمّعات أكبر وأكثر.
في السطور التالية، نلقي الضوء على الاستيطان الزراعي، تاريخه وتحولاته، وتقاطعاته مع أشكال الاستيطان الأخرى، وعلاقته بالوجه الحكومي الرسمي “الإسرائيلي” والوجه الشعبي الاستيطاني، ومستقبله كمحرّك للتوسع وموحِّد للإسرائيليين خلف بوصلة واحدة.
من المحراث إلى الاستيطان
يُنسب إلى جوزيف ترومبلدور، قائد الفيلق اليهودي (كتيبة بغال صهيون)، قوله: “تمر حدودنا وتقف عند المكان الذي يحرث فيه المحراث اليهودي التلم الأخير”، وقد تحققت كلماته بمعانٍ مختلفة أدرك الصهاينة الأوائل، كما الجيل الحالي منهم، فعاليتها، فبعد المستوطنة التعاونية الأولى في فلسطين (ديغانيا) التي قام وجودها على شتلتين، تكرر سيناريو الاستيطان الزراعي بنسق تاريخي لافت.
عام 1927 حاول المستوطنون اليهود إقامة مزرعة باسم “ميغدال عدر”، لكن المحاولة فشلت، قبل أن تُستأنف بداية الثلاثينات بزرع شجرة سرو إلى جانب بلوط قديمة، وبناء بيت حجري صغير بجوارهما، وسُمّيت المزرعة “كفار عتصيون” نسبة إلى شجرة البلوط الوحيدة هناك.
أثناء حرب النكبة، استطاع جيش الإنقاذ العربي بالتعاون مع المقاومين الفلسطينيين من استعادة الأرض، بعد أن قُتل وأُسر معظم المقاتلين اليهود، غير أن “إسرائيل” استولت عليها مجددًا إبان النكسة، وحولتها إلى تجمع استيطاني مركزي، بينما بقيت شجرة البلوط شاهدًا وحيدًا على عودة الأبناء إلى موطئ الآباء.
خلال النكسة أيضًا، وبالتزامن مع احتلال الجولان، بدأ المستوطنون بزرع شتلة تفاح واحدة، أُحيطت بسلاسل حجرية، ثم أضيفت شتلات أخرى مع عربة مياه وحظيرة أغنام وبيت صغير، حتى نشأت بساتين تفاح واسعة، فيما عُرف لاحقًا بكيبوتس “عين زيفان”، الذي أصبح تفاحه وعنبه جزءًا من الإنتاج الزراعي والسياحي الإسرائيلي، ويُسوّق للعالم بصفته “نبيذ الأرض المقدسة”.
تكرر ذلك في أريئيل بالضفة الغربية عام 1978، حين بدأت المستوطنة كبؤرة زراعية، لتصبح لاحقًا مدينة استيطانية تضم أكثر من 20 ألف مستوطن، وتكرر المشهد في مستوطنات أخرى كثيرة، حتى أن تقديرات عام 2024 تشير إلى أن الاستيطان الزراعي استولى على أكثر من 300 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية خلال العقد الأخير، أي ما يعادل 10% من مساحتها.
أما في عام 2025، فقد ارتفعت التقديرات لتصل مساحة الاستيلاء إلى أكثر من 786 ألف دونم من المراعي (14% من مساحة الضفة)، إضافة إلى تهجير ما لا يقل عن 25 تجمعًا بدويًا بشكل نهائي، فيما تتعرض عشرات التجمعات البدوية والزراعية الأخرى لهجمات وترويع مستمرين.
هذا لا يقتصر على الزراعة فحسب، بل يشمل ثلاثة عناصر أساسية للاستيلاء والسيطرة: المياه والينابيع التي تُضفى عليها هالات القدسية التوراتية، والحجارة القديمة التي تُحوَّل فجأة إلى أضرحة لحاخامات يهود، والأشجار الأولى التي تُغرس، ثم تتكاثر حولها المبررات الأمنية والسياسية والاقتصادية. ولا يُعد الاستيطان الزراعي ابتكارًا صهيونيًا خالصًا.
فالاستيطان الزراعي الصهيوني في فلسطين ارتبط بظهوره في مناطق استعمارية أخرى، ما جعله في جوهره نقلاً للتجربة الاستعمارية من مكان إلى آخر؛ كما حدث مع الاستعمار الزراعي الإسباني في شرق المغرب مطلع القرن العشرين، والاستعمار الزراعي الإيطالي في ليبيا، وكلاهما ظهر بالتزامن مع البدايات الاستعمارية الصهيونية.
من جهة أخرى، لم يرتبط الاستيطان الزراعي بطبيعة الأرض الفلسطينية أو بالظروف السياسية القائمة، بقدر ما ارتبط بالتحولات البنيوية داخل المشروع الصهيوني نفسه، فقد بدأ نهاية القرن التاسع عشر بالانسلاخ عن الاستيطان الرأسمالي الممول من الأثرياء اليهود، وعلى رأسهم روتشيلد، بعد فشله في الاستمرار جنوب سوريا وشمال فلسطين نتيجة الرفض العثماني، وجهل المستوطنين اليهود بطبيعة المكان، وانتشار الملاريا، وذلك خلال الفترة الممتدة من عام 1882 وحتى العقد الأول من القرن العشرين.
وهو ما دفعه لاحقًا إلى توزيع إدارة مستعمراته “الموشافوت” بين “شركة الاستعمار اليهودي” التي أسسها ابن عمه البارون موريس دي هيرش، وبين الصندوق القومي اليهودي، لينتهي مع عام 1924 عهد الاستيطان الرأسمالي لصالح الاستيطان الاشتراكي التعاوني، القائم على تمويل اليشوفات والكيبوتسات ذاتيًا من خلال عمل أفرادها في الأرض أو في الرعي.
وهكذا غدا العمل المرتبط بالأرض نمطًا لعلاقة أصلانية يُراد للمستوطن اليهودي أن يكرّسها ويعيد إنتاجها، بهدف تعزيز صلته بالأرض وتأكيد أحقيته فيها، وإبراز وجوده بوصفه “شعبًا عاملًا في أرضه”، وبهذا تحولت الأشجار، وحتى المواشي، إلى مسامير استيطانية كفيلة بإقامة مستوطنة كاملة، ودليل ملكية للمستوطن نفسه.
وجوهٌ متعددة واستيطانٌ واحد
في الأدبيات العربية والفلسطينية يبرز الاستيطان الزراعي بكثافة خلال العقد الأخير، بالتوازي مع تصاعد هجمات “فتيان التلال” على البلدات والقرى الفلسطينية، وتزايد شراستها تحت حماية الجيش الإسرائيلي، لكن المرجعية التاريخية تؤكد أن الاستيطان الزراعي سبق الاستيطان الرسمي الحكومي.
يُعد آهرون ديفيد غوردون (توفي عام 1922) الأب الروحي لفكرة قداسة العمل الزراعي الاستيطاني، فمن خلال إنتاجه الفكري وانتمائه للتيار الصهيوني المتعالي، طرح مقولته الشهيرة: “ليس للشعب اليهودي إلا الأرض التي يفلحها بيديه”، وقد صاغ عبرها مفهوم العلاقة التي يجب أن تربط الصهيوني بالأرض، بعيدًا عن التجارة ومؤسسات الدولة الحديثة والجيش، معتبرًا أن الأرض هي المصدر الوحيد للبعث الوطني.
لاحقًا، ومع توسع الاستيطان، عمل ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، على ربط الكيبوتسات والموشافات بالمشروع السياسي الاستيطاني، محولًا إياها إلى شبكة حماية أمنية واقتصادية وجغرافية، لا سيما أنها كانت بمثابة قواعد عسكرية للعصابات الصهيونية خلال النكبة، كما أسهم الاستيطان الزراعي في طمس القرى العربية ومحوها.
في هذه المرحلة اندمج الاستيطان الزراعي مع أنماط أخرى، مثل الاستيطان العسكري الأمني في التلال والحدود، والاستيطان الحضري الذي ابتلع مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية لتوسعة تجمعات ومدن استيطانية مثل أريئيل وموديعين، والاستيطان الديني الذي تصاعد بعد احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967، خاصة مع ظهور حركة “غوش إيمونيم”، ليبلغ ذروته في مرحلة اتفاقية أوسلو.
وفقًا للباحث خالد عودة الله، فإن اتفاقية أوسلو أسهمت في انتعاش الحركة الاستيطانية وظهور فتيان التلال، بفعل عاملين؛ أولهما تخلّي منظمة التحرير عن جزء من الأرض الفلسطينية وفق تقسيمات (أ، ب، ج)، ما منح الحركات الدينية الاستيطانية شعورًا متجددًا بأحقيتها في الأرض. أما العامل الثاني فهو الخوف من تسليم جزء منها إلى الفلسطينيين، بما يعني الاعتراف بأحقيتهم فيها، وهو ما يخالف عقيدتهم حول “الأرض المقدسة” التي تنحصر ملكيتها بالشعب اليهودي وحده، وهذا الخوف بالذات هو ما يجعل العنف السمة البارزة لفتيان التلال.
فتيان التلال هم تجمع لشبان تتراوح أعمارهم بين 15 و35 عامًا، يعيشون في تلال الضفة الغربية، ويسعون إلى فرض وقائع على الأرض عبر بناء البؤر الاستيطانية، وممارسة العنف والحرق، بهدف تجاوز نتائج أوسلو، والدفاع عن “الحق” الديني والتاريخي بالاستيطان اليهودي في “يهودا والسامرة” (المسمى التوراتي للضفة الغربية).
תיעוד: קבוצת משפחות חצתה את הגבול לסוריה בניסיון להקים יישוב בשם “נווה הבשן”
https://t.co/h1P1oZ4zQm pic.twitter.com/8lI075o6ee
— ערוץ 7 (@arutz7heb) August 18, 2025
وهم يرون أنفسهم امتدادًا عابرًا للزمن للرواد الأوائل للحركة الصهيونية “الحلوتسيم”، ففي بؤرهم الاستيطانية التي تقوم على المعزة والكرفان، يقدّمون وجهًا آخر لمستوطنات “البرج والسور” (حوما ومفدال) التي أُسست خلال ثورة 1936، وحتى في هجماتهم على الفلسطينيين فإنهم يعيدون الاستيطان إلى جذوره، باعتباره مهمة “الخلاص القومي”، ويخرجون بذلك من علمانية ورأسمالية المجتمع الإسرائيلي الرسمي.
هكذا، لم يعودوا مجرد مجموعة خارجة عن الأطر الاجتماعية والسياسية، بل غدوا خلال السنوات الأخيرة الممثل الحقيقي للاستيطان الشعبي، والمحرك الخفي للاستيطان الرسمي، فقد وُصفوا بالرواد الجدد، واعتُبروا تجسيدًا لليهودي الأصلاني، كما طوروا لغة ومفاهيم خاصة بهم، تجمع بين العنف والدين والاستيطان.
وبالنظر إلى دعم جيش الاحتلال لتحركاتهم، وتحول أفعالهم إلى ظاهرة ذات امتداد روحي ولغوي وبصري وسياسي في المجتمع الإسرائيلي، فقد تمدد نشاطهم من الضفة إلى الجليل الأعلى، ثم الجولان، وما بعده، مستنبطين مخيالًا دينيًا ذي نفس شعبي عنوانه “العودة إلى صهيون”، وهدفه تكريس أصالة المستوطن.
بهذا المعنى، لا يُمكن فصل فتيان التلال عن تاريخ الاستيطان الزراعي؛ فهم وجهه الجديد الأكثر صراحة، حيث تعود القداسة الزراعية الصهيونية إلى جذورها العنيفة، وتُترجم الأرض لا كحيز اقتصادي بل كحيز توراتي مسيَّج بالقوة.
ما بعد التلال
تتبع دور فتيان التلال يشي بأهميتهم البالغة في تنفيذ الأجندة غير الرسمية للحكومات الإسرائيلية، ابتداءً من ممارسات العنف غير المقيد عقب الانتفاضة الثانية، مرورًا بسياسة الردع والإرهاب الدائم للفلسطينيين في مناطق التماس، وانتهاءً بدورهم كمقاتلين بالوكالة.
يتجلى ذلك في سلسلة أدوارهم خلال هبّة السكاكين وحرب “سيف القدس” 2021، إذ منحتهم المستويات العسكرية مطلق الحرية في استباحة القرى والتجمعات العربية، سواء في الداخل المحتل خلال هبّة أيار 2021 أو قبلها، لينفذوا عمليات حرق واعتداء ومصادرة حملت توقيع جماعة “تدفيع الثمن”.
بهذا استطاع المستوى الرسمي تقليل كلفة المواجهات على الطبقات الوسطى والبرجوازية الأكثر إنتاجًا واتصالًا بالعالم الغربي، والأوفر حظًا في تمثيل وجه الكيان، فيما نقل عبء الموت إلى الفئات المستعدة لتحمله؛ مستوطني الضفة، وشبيبة التلال، وجماعات “تدفيع الثمن”.
واليوم يتكرر جزء كبير من هذا النمط في جنوب سوريا، وقبله في لبنان، عبر دخول جماعات غير رسمية وإقدامها على غرس وجودها بشجرة، أو صلاة، أو جلسة تأمل في موقع ما، فيما يقف الجيش محيطًا بهم وحارسًا لهم.، حيث يترك لهم مهمة الابتلاع الأولي، ثم يتولى من بعدهم السيطرة، ليتحول وجودهم المتكرر إلى أداة ضم تستفيد منها الدولة، وتتملص منها دوليًا متى أرادت.
يفسر الباحث ياسين عز الدين ما يجري بأنه مسار استيطاني متدرج، يبدأ بدخول المستوطنين إلى المناطق المحتلة، وإطلاق تسمية توراتية على الموقع – كما حدث في سوريا حيث أُطلق على البؤرة الاستيطانية اسم “نفيه هباشان” – ثم يتدخل الجيش لإخلائهم، ليكرروا الأمر مرارًا حتى يعتاد السكان الأصليون على المشهد ويطمئنوا، معتقدين أن الجيش سيخليهم في كل مرة.
بعدها تزداد مدة بقاء البؤرة من أيام قليلة إلى عدة أشهر، ثم يصبح وجودها شبه دائم، يتم دعمه بمد شبكات الكهرباء والماء، قبل أن تُشرعن ويُصادق عليها، فتتحول إلى مستوطنة رسمية يُبنى فيها بشكل علني.
وبحسب عز الدين، فإن الاستيطان الزراعي أو الرعوي ليس عشوائيًا، بل هو منظم وتحت أنظار الحكومة، بل إنه يتيح للاحتلال الاستيلاء على مساحات شاسعة بأقل عدد من المستوطنين، ويعوض ضعف الحافز لدى الإسرائيليين على الانخراط المباشر في الاستيطان بالضفة، كما يخفف عن الجيش عبء الطرد المتكرر للبدو والمزارعين، وهدم منازلهم، حيث تتولى جماعات المستوطنين مهمة الاعتداء والسرقة والتخريب والطرد.
بالمحصلة، لا تشير بوصلة الاستيطان الزراعي إلى اتجاه واحد، ولا تخضع لإلحاح الوقت، ولا تنحصر في منفعة واحدة، فهي إعادة إنتاج لسردية تحويل الأرض البور إلى “أرض اللبن والعسل”، وهي خطاب إعلامي يقول: “من يزرع يملك”، وهي ردع عسكري متجسد في أحزمة أمنية من الغابات والأشجار، وهي تسويق دولي على هيئة تفاحٍ وعنبٍ ونبيذ، وهي، في النهاية، “إسرائيل الكبرى” التي تبدأ بمحراث وتنتهي بشجرة.