كيف عسكر الاحتلال ذاكرته بعد طوفان الأقصى؟

بعد عامين على طوفان الأقصى، أضحى من المؤكد أن ما جرى حفر دهاليزه عميقًا في وجه الشرق الأوسط، وبينما لا تزال الإبادة الجماعية تفتك بما بقي من أرواح الفلسطينيين في القطاع، وتُحاك الخطط لمحو وجودهم السياسي والمادي والقانوني، ترك السابع من أكتوبر أثرًا لا يُمحى في الذهنية الإسرائيلية، مسيطرًا منذ “السبت الأسود” وحتى اليوم على مفاصل الحياة بأكملها.
في ملف “فصول الطوفان”، نستعرض تحولات محددة في المجتمع الإسرائيلي، بعضها فاقع وكثير منها خفي، عمل السابع من أكتوبر على قلبها رأسًا على عقب، وإعادة برمجتها وفق كلٍ من العقلية الأمنية المضطربة والهوس التوسعي المتزايد، ليعود الكيان وفقًا لها إلى مربعه الأول عام 1948، مجتمعٌ عسكري يعيش عقدتي الخوف والأمن.
من بين هذه المفاصل، تعالج السطور التالية تحولات قطاعي الدراما والدعاية الإسرائيليَّين، ودور الطوفان في عسكرتهما، وتبلورهما كأداة من أدوات الحرب والصراع تعمل على تعبئة الجمهور باستمرار لمواصلة الحرب والإبادة، ثم تمتد من الدراما إلى الإعلانات، حيث دخلت الحكومة بكامل ثقلها في عسكرة هذا القطاع واستخدامه محليًا ودوليًا على خط التعبئة.
من دراما الصدمة إلى سينما التعبئة
منذ اللحظات الأولى للسابع من أكتوبر، وجدت القطاعات الإسرائيلية نفسها أمام صدمة مجتمعية شاملة طالت مختلف المجالات، فدفعتها إلى توقيف العديد من الإنتاجات الدرامية والسينمائية، ثم تأجيلها بسبب الحالة النفسية المترتبة على الطوفان، والتعبئة العسكرية التي رافقت الحرب.
هكذا وجدت الدراما نفسها مؤجلة بفعل استدعاء الممثلين والفنيين إلى الخدمة الاحتياطية، بينما خلت المسارح الرسمية من جمهورها فألغت عروضها، في حين اتجهت مسارح أخرى مثل “هبيما” و”كاميري” في تل أبيب إلى تحويل مواعيد العروض إلى فعاليات لدعم الرهائن والجنود، كقراءة الأسماء أو جمع التبرعات.
لم يقتصر تموضع المسرح على جداول العروض أو إلغائها، بل شمل أيضًا تحوّل وظيفته من موقع ترفيهي إلى أداة للتفريغ النفسي الجماعي للمجتمع، وموقعٍ للتعبئة الرمزية عبر استعادة لحظة السابع من أكتوبر بوصفها مأساة قومية، وتحويل العروض إلى مساحات للتعبير عن الصدمة، كما حدث في مهرجان حيفا السينمائي.
وكما تداعى المجتمع الإسرائيلي للتعامل السريع مع الحدث، بتلقائية سبقت حكومته، فعل قطاع السينما والدراما الشيء ذاته، إذ شرع في إنتاج أعمال وثائقية عاجلة وقصيرة عن الهجوم، عُرض بعضها على منصات محلية، بينما أبدت منصات غربية مثل “نتفليكس” و”أمازون” اهتمامًا بها.
فقبل انقضاء عام 2023، عُرض فيلم “Bearing Witness”، الذي صوّره مخرجون مستقلون بالتعاون مع الجيش، موثّقًا مشاهد وصورًا من الكيبوتسات ومهرجان نوفا، قبل أن تتبناه نتفليكس لاحقًا، كما ظهر فيلم We Will Dance Again” (2023–2024)” الذي أنتجه ياريف موزر، واستُخدم ضمن الدعاية الإسرائيلية الرسمية للتركيز على “فظائع الهجوم”، حيث عُرض على منصة “باراماونت”، وأثار اهتمام منصات عالمية مثل نتفليكس، بينما وصفته صحيفة The New York Times بأنه يوثّق صدمة السابع من أكتوبر، ويعيد توجيه الذاكرة الفنية للجمهور بربطها بالحدث وتحويل أثره إلى تجربة مرئية لا يمكن تجاوزها.
في نهاية الشهر الثاني من الحرب، شهدت الدراما والسينما الإسرائيليتان اندماجًا حادًا في الأجواء الحربية السائدة، حيث تصدّرت الأعمال التي استلهمت السابع من أكتوبر بوصفه حدثًا تأسيسيًا المشهد الفني، مسلّطة الضوء على قصص الرهائن، والمقاتلين الأوائل، ومشاهد الكيبوتسات، بما يعكس انغماسًا جماعيًا في رواية الحرب وتكريسها.
من بين هذه الأعمال، برز فيلم “Of Dogs and Men” الذي صُوِّر داخل كيبوتس “نير عوز” بعد السابع من أكتوبر، وتناول قصة فتاة مراهقة تُدعى “دار” تعود إلى الكيبوتس بعد الهجوم لتكتشف فقدان كلبها واختطاف والدتها، حيث ركّز المخرج داني روزنبرغ على إدماج شهادات حقيقية ولقطات مرتجلة في الفيلم، مانحًا العمل واقعية مكثفة.
أما مسلسل “One Day in October (Red Dawn)”، الذي أُنتج بالشراكة بين منتجين إسرائيليين وأمريكيين وتولت شبكة “فوكس” توزيعه، فقدّم سلسلة من القصص القصيرة المستوحاة من أحداث السابع من أكتوبر، مثل قصة سائق إسعاف تطوّع في الساعات الأولى من الهجوم، وراكب دراجة في كيبوتس “بيئري”، وصديقين احتميا بخزانة في نادٍ ليلي. عُرض المسلسل للمرة الأولى في الذكرى السنوية الأولى للطوفان.
كما ظهرت أعمال درامية ومسرحية هدفت إلى تعزيز الجبهة الداخلية وتكريس حالة الطوارئ بوصفها “تضحية ضرورية من أجل البقاء”، مثل فيلم “The Safe Room”، والعرض المسرحي “Theatre and War”، وهو عمل مكوّن من تسع مسرحيات قصيرة تدور أحداثها في ملجأ عام يجتمع فيه إسرائيليون من خلفيات ثقافية متعددة بعد سماع صفارات الإنذار، يحكي كلٌّ منهم ظروف حياته اليومية وتفاعله مع واقع الحرب المستمرة.
في المقابل، جرى إعادة إنتاج أعمال سابقة لتتماهى مع المزاج الحربي الجديد وتعكس روح الانتقام والعنف الممنهج، من بينها مسلسل “فوضى” (Fauda)، الذي يحكي قصة وحدات استخبارات وعملٍ تجسسي إسرائيلي في مواجهة ما يصفه بـ”الإرهابيين الفلسطينيين”. فبعد السابع من أكتوبر، أُوقِف تصوير موسمه الخامس مؤقتًا، وأُعيدت كتابة السيناريوهات لتتلاءم مع المرحلة الجديدة وتخدم خطاب الحرب والإبادة.
عن ذلك، تحدث الممثل الإسرائيلي وبطل مسلسل فوضى ليور راز قائلًا: “لقد غيّرنا مخطط الموسم بسبب السابع من أكتوبر، لأنه من المستحيل أن نروي القصة كما كنا نعتقد أننا قادرون على ذلك. لم يعد يهمّنا إظهار الحياة الشخصية لأولئك الموجودين على الجانب الآخر بعد مذبحة حماس، المسلسل الذي سنبثّه سيكون أكثر صرامة، وأكثر طابعًا عسكريًا”.
لا يتغير الفن والدراما تلقائيًا، بل يتزامن ذلك مع تدخل حكومي واسع في القطاع، من خلال منح عاجلة للفنانين، وتعاون مع شركات إنتاج كبرى، وتخصيص وزارة الثقافة دعمًا مباشرًا للأعمال التي تتبنى خطاب التعبئة في مواجهة “الإرهاب”. في المقابل، شُنّت حملات إسكات ضد فنانين ومثقفين دعاة للسلام، وسُحب التمويل من مبادراتهم المسرحية والسينمائية بذريعة “خيانة المجتمع”.
في هذا السياق، أنتج قطاع السينما نماذج درامية متكررة تمحورت حول رموز الحرب والبطولة من قبيل “الجنود الأبطال”، و”العائلة الممزقة” بعد فقد أحد أفرادها أو أسره، و”الكيبوتس المهدد”، و”النور الذي يحارب الظلام”، وجميعها شخصيات تعكس أن السينما الإسرائيلية باتت ساحة حرب موازية، تعمل على تثبيت السردية الرسمية وشرعنة الإبادة تحت غطاء البطولة والتضحية.
يعبّر الكاتب إتغار كيريت عن هذا التحول بقوله إن الفن الإسرائيلي “سيبقى موسومًا بذاكرة السابع من أكتوبر لسنوات قادمة”، مؤكدًا أن تجاوز الحدث فنيًا وسينمائيًا لن يكون ممكنًا إلا إذا جرى تجاوزه عسكريًا ومجتمعيًا في الوقت ذاته.
أما كريغ ديرشويتز، الرئيس التنفيذي لمنظمة “فنانون من أجل إسرائيل” (Artists for Israel)، فرأى أن السابع من أكتوبر أطلق موجة جديدة من الأعمال الفنية، جاءت كرد فعل على الصدمة، وتعبيرًا عن الحزن، ورغبة في التوثيق، واصفًا إياها بأنها “فن الحرب”. وأشار إلى اتساع مشاركة الفنانين والمنظمات المحلية والدولية في دعم هذه الموجة وتمويلها، خصوصًا في ظل تصاعد ما وصفه بـ”معاداة السامية” عالميًا.
الإعلان والدعاية: تصفيات على خط الحرب
ككل شيء آخر، صمتت الدعايات والإعلانات عبر الإذاعة والتلفاز الإسرائيلي عن الظهور يوم السابع من أكتوبر، وأصبحت الحياة اليومية متوقفة، وخلال الشهر الأول شهدت منصات الإعلان تباطؤًا في الإنفاق على الإعلانات، بالتزامن مع تعليق بعض الشركات لحملاتها مؤقتًا أو تعديلها بضبط الكلمات بعناية للحفاظ على إمكانية ظهورها ما بين المحتوى الإخباري، مثل Osem وTnuva وUnilever Israel.
كما استخدمت المنتجات المحلية لتعزيز التضامن مع الرهائن، حين أطلق فنانون “إسرائيليون” حملة “Kidnapped from Israel”، تضمنت ملصقات للرهائن تُوضع على عبوات الحليب، مشابهة للملصقات التي في الولايات المتحدة، وقد نُشرت ملصقاتها بـ 22 لغة حول العالم.
من بين التغيرات التي لامست القطاع الإعلاني، هو استجابته الفورية للأحداث، من بنوك إلى مؤسسات فمشغلو اتصالات، الذين أوقفوا إعلاناتهم العادية، وانزلقوا من التسويق التجاري الصرف إلى التضامن ودعم الصمود وتقديم خدمات مفيدة للظرف “الوطني” بدل عرضٍ اعتيادي للمنتجات، بينما بعض العلامات التجارية اكتفت بنشر عبارات مثل “معًا ننتصر” أو “قلبنا مع الجنود والعائلات” بدل الحملات التجارية.
كما أن بعض السلاسل (مثل McDonald’s Israel و7-Eleven) قدّمت وجبات أو خصومات للجنود، وحوّلت ذلك إلى أداة تسويقية غير مباشرة، وبينما تراجعت الإعلانات اليومية عن الظهور، ازداد زخم الإعلانات الممولة ذات الطابع السياسي، خاصة بعد تدافع الحكومة الإسرائيلية والحكومات الغربية المنسجمة معها لاستغلال المنصات الرقمية لتمرير سردية الحرق والحرب والانتقام.
وهو ما أفقد بعض العلامات التجارية الغذائية مساحتها الإعلانية التي اعتادت عليها لصالح دعاية الحرب، حيث بلغ إنفاق وكالة الإعلان الحكومية الإسرائيلية (LAPAM) خلال عام 2023، قرابة 104 مليون دولار، ثم ارتفع بنسبة 15.3% في عام 2024 ليصل إلى 120 مليون دولار، وخلال الأشهر الستة الأولى من العام 2025 نشرت الوكالة أكثر من 6 آلاف إعلان على منصات غوغل ويوتيوب، جميعها أثرت على النسق المعتاد لقطاع الإعلان الإسرائيلي.
كشف موقع “دروب سايت نيوز” أن شركة “جوجل” أبرمت اتفاقًا بقيمة 45 مليون دولار، مع مكتب رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو لتضخيم الدعاية الإعلامية الإسرائيلية على منصاتها. pic.twitter.com/BMTDvwECub
— نون بوست (@NoonPost) September 5, 2025
امتد تداخل الإعلان الحكومي الرسمي حتى منصات الألعاب وفيديوهات الأطفال، مثل لعبة “Angry Birds”، فيما قللت شركات المنتجات اليومية (الطعام، الملابس، مستحضرات التجميل، الأدوات الرياضية) من ظهورها الإعلاني، وانتقلت من النمط المعتاد إلى ظهورها عبر حملات التضامن الشعبية مع الجنود والعائلات في الكيبوتسات والرهائن.
لا سيما مع تحول وكالات الإعلانات والعاملين فيها لإنتاج فيديوهات حول الحدث وتقديم تغطيات حربية عاجلة له، لبناء سردية داعمة للحكومة، على حساب الاهتمام بالإعلان اليومي، وهو ما شجع الأفراد على استخدام منصات التواصل العادية في حملات التمويل والدعم.
حيث أنشئت مجموعات عبر انستغرام وميتا وغيرها، تطلب من الجمهور وداعمي “إسرائيل” تمويل شراء معدات عسكرية مثل الطائرات بدون طيار، والخوذ العسكرية، والعتاد القتالي، والطعام اليومي للجنود، وهنا تشابك دور الأفراد والمجموعات مع الشركات التجارية في عسكرة قطاع الإعلان بعيدًا عن التسويق التقليدي.
نتيجة لذلك، ارتفع متوسط تكلفة النقرة للإعلانات الإسرائيلية عالميًا بنسبة 155.3% منذ السابع من أكتوبر، وتحولت قيمتها من 0.094 إلى 0.24 دولار، كما شهد قطاع الإعلانات محليًا زيادة في الكلفة بنسبة 12%، نتيجة محدودية المساحة الإعلانية، والظروف الاقتصادية الداخلية.
في الواقع، فإن كثيرًا من التغيرات التي أصابت الشركات والوكالات الإعلانية لم تكن مرتبطة بتوجيه حكومي أو رسمي، بل جاءت في سياق رقابة ذاتية، دفعت العديد من الشركات لالتزام الصمت الإعلاني، خوفًا من تعرضها لمقاطعة داخلية، أو تشكيك في وطنيتها.
ورغم أن كثيرًا من الإعلانات التي عادت للظهور لاحقًا لم تتحول إلى دعايات عسكرية بالكامل، إلا أنها عُرضت كجزء من دعم استمرارية الحياة، وتحويل شراء المنتج المحلي إلى فعل وطني. فيما وظف جزء كبير من الشركات منتجاته وأرباحه في دعم الفئات الأقرب لمنتجاته، من الجنود والعائلات، إلى نازحي الجنوب والشمال، فعائلات المفقودين والقتلى، فالقطاع الصحي والتكنولوجي.
بالمحصلة، يُثبت رد فعل كل من قطاعي السينما والإعلان أن جزءًا كبيرًا من ثبات اللحظة الأولى كان مردّه القطاع الخاص، وأن البعد الوطني كان حاضرًا كمظلة، فرضت أبعاده وشروطه بالإجماع، ودون سياسة مكتوبة أو موجهة، ما أتاح للقطاع الحكومي التصرف بأريحية في ميادين أخرى، بينما تولى القطاع الخاص تأمين وتعبئة الجبهة الداخلية بدلًا عنه.
ما العبرة هنا؟
الجبهة الداخلية أولًا وثانيًا وأخيرًا، والمعركة الحقيقية تُدار في الداخل بقدر ما تُدار على الجبهات. تُدار في الحفاظ على الجبهة الداخلية متماسكة، متعاطفة، ومنخرطة حتى عبر استهلاكها اليومي. هذه العبرة لنا، علّنا نُصغي.