الزراعة الإسرائيلية: كيف صارت الحقول ثكنات والعاملون جنودًا؟

بعد عامين على الطوفان، أضحى من المؤكد أن ما جرى حفر دهاليزه عميقًا في وجه الشرق الأوسط، ترك أثره الذي لا يُمحى في الذهنية الإسرائيلية مسيطرًا منذ “السبت الأسود” وحتى اليوم على مفاصل الحياة بأكملها.

في ملف “فصول الطوفان” نستعرض مفاصل محددة في المجتمع الإسرائيلي، بعضها فاقع، وكثيرٌ منها خفي، عمل السابع من أكتوبر على قلبها رأسًا على عقب، وعلى إعادة برمجتها وفق كلٍ من العقلية الأمنية المضطربة والهوس التوسعي المتزايد، ليعود الكيان وفقًا لها إلى مربعه الأول عام 1948، مجتمعٌ عسكري يعيش عقدتي الخوف والأمن.

من بين هذه المفاصل، تعالج السطور التالية تحولات القطاع الزراعي الإسرائيلي، من لحظة الصدمة حتى جماهيرية التعبئة، ثم انتقاله من قطاعٍ اقتصادي إلى مكملٍ للأمن القومي، بالتوازي مع تطور الزراعية الأيديولوجية في الضفة الغربية والشمال، وتقديم العمل الزراعي بصفته جبهة أخرى، يُصنع على حدودها الانتماء، ويحارب العاملون فيها بصمت.

حقول تحت الصدمة

في الساعات الأولى من صباح السابع من أكتوبر، كانت البلدات الزراعية في الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة، ترزح تحت وطأة ضربات المقاومة واجتياحها، لتُحدث شللًا في الغلاف بأكمله، وخاصة في كُلٍ من سيدروت ونيرعام، وكفار عزا، ونيريم، وبيئيري، وإيريز.

الضرر الثاني على سُلم الأولويات الحكومية بعد الاختراق الأمني، كان نابعًا من الأهمية الزراعية التي تمثلها هذه المناطق، بسبب تربتها الرملية الغنية، ومياهها الجوفية، وإنتاجها المرتفع من الخضار الطازجة والحبوب والقطن، إضافة لمد الدفيئات الزراعية الضخمة المخصص لتصدير الإنتاج الزراعي للأسواق الأوروبية، والذي تُقدر نسبته -بحسب وزارة الزراعة- مع دفيئات النقب بـ 60-70% من إنتاج الدفيئات في الكيان.

بعدها بيومين، ومع دخول الجبهة اللبنانية على خط المواجهة، بدأت البلدات الزراعية في الشمال، مثل كريات شمونة والمطلة ونهاريا وكيبوتس سنير وميسغاف عام، تُصاب بشلل الجنوب نفسه، وهي التي تُشتهر بإنتاج الفاكهة من تفاحٍ وكرز، وتضم أراضيها مزارع الألبان الأكبر في البلاد، وتُنتج ما يقدر بـ 30-40% من النبيذ الإسرائيلي، وتُحقق تصدرًا متزايدًا في زراعة الأفوكادو على المستوى العالمي.

ونتيجة لاشتعال الشمال والجنوب، وأوامر الإخلاء الطارئة، واستدعاء أكثر من 300 ألف للجيش من بينهم العاملين في القطاع الزراعي، وعدم قدرة العمال الفلسطينيين على دخول البلاد، وخوف فلسطينيي الداخل من المغامرة خارج البلدات العربية، ومغادرة العمال الأجانب، فقدت الأراضي مزارعيها والحظائر مُلاكها، ما تسبب بضرر وصلت نسبته 30-25% من قدرة الإنتاج الزراعي في الجنوب، بينما توقفت بعض المزارع الحيوانية تمامًا في الشمال، لا سيما مع إخلاء الأيدي العاملة اضطراريًا.

وهكذا أصبح القطاع الزراعي الإسرائيلي تحت كماشة تعطل إمداد السوق الداخلية بالسلح الطازجة، ونقص مباشر في سلة الغذاء اليومية على المدى القصير، واستنزاف لمنتجات مهمة للاقتصاد وحركة الصادرات التجارية على المدى البعيد، خاصة مع انخفاض الإنتاج الزراعي العام بنسبة 35% خلال الحرب.

بينما ارتفعت نسبة انخفاض الإنتاج في مناطق الغلاف إلى 70% مع توقفٍ تام لمعظم المنتجات الزراعية، تعرض قرابة 60% من مزارعي المنطقة الشمالية لأضرار في عملهم، فيما توقف 25% منهم عن الإنتاج تمامًا، وخاصة في مزارع البيض المحلي، التي تسد 73% من الحاجة المحلية.

هذه الصدمة، إلى جانب حصار البحر الأحمر من قبل جماعة أنصار الله الحوثي، ونقص المعدات بسبب تحويلها لصالح الجيش وقوات الأمن (الشاحنات، الجرافات..)، والأضرار التي لحقت بمناطق الحرب، والتباطؤ في الموانئ، وصعوبة نقل البضائع، بسبب نقص القوى العاملة والمعدات، تركت أثرها العميق على بلدٍ يعتاش على الواردات الزراعية.

ليغدو، وفقًا لذلك، الأمن الغذائي هو الآخر تحت التهديد والضرب، تمامًا كما الأمن النفسي، وبشكلٍ أكثر لاحقًا، مع ارتفاع الحاجة للواردات الغذائية لتصل إلى 9.3 مليار دولار، في مقابل قدرة تصديرية للمنتج الزراعي لم تتجاوز 2.7 مليار دولار، ما جعل الأمن الغذائي “الوطني” مسألة استراتيجية ملحة على وقع الحرب.

من اللافت أيضًا، أن التطور التقني في القطاع الزراعي قد انعكس عليه بالسلب خلال الحرب، حيث تم إيقاف المعدات المتقدمة التي تعتمد على تقنيات “GPS” عن العمل في العديد من المزارع في الشمال، نتيجة للتعطيل الإلكتروني الذي بدأه الجيش لتعمية الطائرات المسيرة وصواريخ المقاومة اللبنانية، ما ضاعف الحاجة إلى الأيدي العاملة أو معدات أخرى، لم تكن الحكومة قادرة على توفيرها.

نتج عن ذلك سلسلة من الخسائر؛ من بينها فاقد غذائي وصل إلى 1.6 مليار شيكل حتى يونيو 2024، ارتفاع بأسعار الدواجن وصل إلى 12%، ونقص محلي في المعروض من الطماطم بنسبة 30%،

طعام لتعزيز الجبهة

الهلع الغذائي الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي أنتج وبشكلٍ متسارع تحولًا في القطاع الزراعي خوله لأن يصبح أداة أمن داخلي، وقطاعًا للتعبئة، ولذا ركزت سلطات الزراعة جهدها منذ الأشهر الأولى على إعداد مخزون استراتيجي للغذاء، وتفعيل خطط طوارئ لتأمين المواد الأساسية، وتسريع سلاسل التوريد المحلية عن تعطل الواردات والمعابر، واستحداث سلاسل وخطوط توصيل عبر الحلفاء الإقليميين.

كما استثمرت الحكومة في تعزيز الإنتاج المحلي، فدعمت المزارع المنتجة للسلع الأساسية كأولوية قصوى لتقليل الفاقد في حالات انقطاع الواردات، بالتوازي مع جهد إغاثي ومؤسساتي دفع المجتمع المدني لإنشاء سلاسل توزيع محلية، نُظمت من خلالها حملات تطوع للمساهمة في الزراعة وتوزيع الفاكهة والخضار ومئات الألوف من الوجبات على المتضررين والنازحين.

كان من بين المؤسسات الداعمة غير الحكومية “Leket Israel”، وهو أكبر بنك طعام في الكيان، ممول من قبل اتحاد يهود ميامي، الذي عمل بأقصى طاقته في الأيام الأولى من الحرب، فوزع 500 متطوعًا لقطف المنتجات على 50 مزرعة يوميًا، ووزع 1600 طن من الفاكهة والخضار والوجبات الساخنة، بالتعاون مع شبكة توزيع تضمن أكثر من 260 منظمة موزعة في أنحاء البلاد.

بالتوازي مع ذلك أطلق المجتمع المحلي مجموعات تواصل عبر الواتس آب، استجاب لها مئات الأشخاص من جميع أنحاء العالم، تحت عنوان “مساندة المزارع الإسرائيلي في محنته”، ليتم تنظيم بعثات تضامن متنوعة، منها المرتبطة بالحاخامات اليهود حول العالم، ومنها المرتبطة بالطلبة اليهود.

من بينها بعثة إبريل 2024 التي ضمت أكثر من 800 مشارك ومبتعث من الولايات المتحدة وحدها، تم توزيعهم على مزارع الأفوكادو والعنب والخضروات، في عسقلان والجليل، بالإضافة للتنسيق مع المدارس لجعل العمل الزراعي جزءًا من الاستجابة الوطنية، وهو ما خفف كثيرًا من العبء الحكومي المتعلق بالقطاع الزراعي وحصره بتعبئة 500 جندي غير قتالي يوميًا، وخلق شبكة احتياطية اجتماعية لتوفير الطعام للواجهة الداخلية.

من التحولات أيضًا توجه المزارعين لتغيير المواسم، عبر استخدام دفيئات أكبر وأقوى، مدعومة بدوْامات آمنة وثقيلة، ونقل المواشي والدواجن إلى مناطق أكثر أمنًا، بينما توجهت الحكومة لخطط تخزين غذاء إقليمي لتخفيف الضغط على القطاع الزراعي، تقوم من خلالها بإنشاء مساحات تخزين حكومية إقليمية لضمان التوريد المحلي بسلاسة.

إضافة لتوقيع اتفاقيات “Fast track supply agreements”، مع كلٍ من قبرص واليونان والإمارات (المعلنة أما المخفي فأعظم) لتأمين الأمن الغذائي الوطني في حالات الطوارئ، بالتوازي مع مسارات بحرية وبحرية لتأمين التوريد السريع والعاجل.

بالتزامن مع سلسلة برامج دعم وإعانات وإعادة توجيه إنفاق لتحفيز المزارعين، وتعزيز إنتاجهم، وإعادته إلى مستوياته ما قبل الحرب، وتأهيله بما يضمن زيادة كمية المخزون الاستراتيجي وتحديث كمية المواد المخزنة استعدادًا لاستمرار الحرب، وتقليلًا لحالة الجزّر التي تصف الاقتصاد الإسرائيلي وقطاعه الزراعي.

المزارع الإسرائيلي.. محاربٌ صامت

يقول أوري دورمان، رئيس اتحاد المزارعين في “إسرائيل”: “في أوقات السلم، يقف المزارع مكان الجيش، ليس أن الزراعة تحل محل الدبابات، لكن في أوقات لا تحتاج فيها الدبابات، فإن الحدود محمية بيد المزارعين”.

عام 2007 أسس يوئيل زيليرمان منظمة إسرائيلية غير ربحية، تجند متطوعين للعمل في الأرض كحُراس أمن وعمال مزارعين، حملت اسم هاشومير هاحداش “الحارس الجديد”، بميزانية سنوية لا تقل عن 33 مليون دولار، وبنفوذٍ يطال إدارة ست مدارس داخلية زراعية وأكثر من 22 ألف عضو، وبدعمٍ من أثرياء يهود منهم شيلدون أديلسون (مالك تايمز أوف إسرائيل)، ومن التيار اليميني الصهيوني.

لم تكن منظمة الحارس الجديد ابتكارًا في العقل الصهيوني، بل تكرارًا لحركة استعمارية سابقة، نشأت عام 1909، محققة مزيجًا من الزراعة والقوة العسكرية اليهودية، لتأكيد سيطرة اليهودي على الأرض الفلسطينية، وتحريره من الاعتماد على الحراس العرب أو الحماية الأجنبية، ثم تطورت المنظمة لاحقًا حتى أصبحت “هاشومير” (الحارس) نواة العصابات الصهيونية الأولى، ومن ثم لبنة جيش “الدفاع الإسرائيلي”.

أما المنظمة الجديدة، فخلال سنوات استطاعت المنظمة تشكيل ما يشبه جيش شبه عسكري قادر على شن هجمات على الفلسطينيين، تحت مُسمى “التشبث بأرض إسرائيل”، حتى السابع من أكتوبر حين تدفق عليها سيل من التمويل من منظماتٍ يهودية خارج الكيان، كان من بينها 300 ألف دولار من منظمة يهود أمريكا الشمالية.

كما تزامن ذلك مع ارتفاعٍ سريع في عدد أعضائها وصل إلى 120 ألف عضو، ومع دورٍ أكبر لها نتيجة تفويض وزارة الاستيطان والبعثات الوطنية لها، وتقديم منحة لها بقيمة 50 مليون شيكل، بهدف تعزيز حضور أفرادها في المناطق المفتوحة، وصمود الإسرائيليين في البلاد.

بناءً على هذا التفويض، تحول “الحارس الجديد” إلى “محارب صامت”، من خلال تنفيذ المنظمة 15 ألف مناوبة حراسة، يُعبر عن هذا الدور يوئيل زيليرمان مؤسس المنظمة، في مؤتمر عن الأمن الغذائي بُعيد الطوفان بالقول: “في إسرائيل، الزراعة هي أسباب أمن الدولة، يوم 7 أكتوبر، انهار مفهوم الجدار الحديدي للجيش الذي سيحمينا، وظهر مجددًا أن حماية الأرض يجب أن تكون عن طريق سكانها الزراعيين”.

ووفقًا لمجلة 972+ فإن هؤلاء المحاربين اضطلعوا بتدريب المجتمعات الزراعية على أساليب القتال وحمل السلاح إلى جانب “الشرطة الإسرائيلية”، وفق ما تُعرفه بـ “الجريمة الزراعية”.

نتيجة لهذا الدور، تُعرف المنظمة باعتبارها “منقذة للزراعة الإسرائيلية” لا سيما وأنها قدمت قروضًا للمزارعين الإسرائيليين في المناطق القريبة من غزة والحدود اللبنانية، بتمويلٍ من تبرعات الجالية اليهودية، كما استجابت بسرعة للأزمة الزراعية التي تفاقمت بسبب الحرب، وأعادت تكريس الزراعة الأيديولوجية لمواجهة التهجير في صفوف المستوطنين الناشئ عن الحرب.

بهذا الدور، الذي تُشاركها فيه منظماتٌ أخرى، مثل “هاشومير يوش”، و”Brothers and Sisters for Israel“، وغيرها من المنظمات، أصبحت الزراعة ميدانًا لصناعة الانتماء الإسرائيلي وتجديده بُعيد السابع من أكتوبر.

وهو ما أكده مسح من اتحاد المزارعين في “إسرائيل”، الذي أشار إلى أن 82% من الإسرائيليين يعتبرون أن الزراعة جزء من أمن البلاد واستقرارها، و75% يعتبرون الحفاظ عليها وتطويرها ضرورية لحماية البلاد، و77% يدعمون التعليم الزراعي، و 78% يؤيدون تأسيس المزيد من المدارس الزراعية المهنية، وهو ما يثبت أن الجمهور الإسرائيلي يرى الزراعة كدعامة أمنية وليست نشاطًا اقتصاديًا فقط، وأن التحولات منسجمة تمامًا مع عقليته الأمنية المهيمنة.

بالمحصلة، يخطو قطاع الزراعة الإسرائيلية بعيدًا عن مجرد اعتباره قطاعًا اقتصاديًا داعمًا محليًا ومكملًا للتجارة الخارجية والتصدير، ليغدو جزءًا من استراتيجية أمنية عسكرية شاملة، يُحاك بها مستقبل كيانٍ لا يمكن خدشه ولا حصاره، ويغدو استغراق جمهوره في المزيد من الاستيطان تطورًا طبيعيًا وإلزاميًا لتطبيق هذه الاستراتيجية.

مرة أخرى هُنا، نكتشف أن اللحظة التي كادت فيها “إسرائيل” أن تختفي، تكاتف الشرق والغرب لإعادتها إلى مسارها، وأنها تحظى بأكثر من حلفاء إقليميين، وتفوق عسكري وتكنولوجي، وعلاقة متينة مع ملايين المتعاطفين والخاضعين لسرديتها في العالم، تكفل إحيائها من جديد.

لكن، لماذا لم يحظ الفلسطينيون، برغم وجودهم في محيطٍ عربي إسلامي، وبرغم عدالة قضيتهم، وإنسانية تضحياتهم، بشبكة حماية وتكاتف، تكفل حمايتهم من الفناء؟ سؤال معلق برسم الإجابة.