معاناة سائقي الشاحنات في غزة.. رحلات محفوفة بالقتل والجوع

ترجمة وتحرير: نون بوست

لم يكد مازن يقطع مسافة طويلة بشاحنته على الطريق الترابي خارج جنوب غزة حتى سمع صراخًا، وظهرت حشود من الناس في المكان القاحل الذي تملؤه الدبابات وأنقاض المباني، وقد تجمعوا حول قافلة المساعدات التابعة للأمم المتحدة التي كان يقودها.

راقب مازن الناس وهم يفرّغون الإمدادات، وقد صعد بعضهم فوق شاحنته. كان بعضهم قريبًا لدرجة أنه استطاع رؤية وجوههم من نافذته.

قال معلقا على ذلك المشهد: “كانوا مدفوعين بالجوع، وقد نسوا وجود الجيش، ونسوا أنهم في منطقة محظورة شديدة الخطورة، كانوا في غاية اللهفة”.

لكن سرعان ما أدركوا أنهم في المكان الخطأ، عندما بدأ إطلاق النار من القناصة والدبابات الإسرائيلية، وقُتل عدد من الأشخاص، بينما واصل مازن طريقه بناء على أوامر الجيش بعدم التوقف.

مازن هو واحد من عشرات السائقين الفلسطينيين الذين قاموا على مدار ما يقرب من عامين من الحرب برحلات منتظمة محفوفة بالمخاطر من المعابر الحدودية لنقل الشحنات التي ترسلها وكالات الإغاثة، وهي الطريقة الأساسية لدخول الغذاء والخيام والإمدادات الطبية إلى القطاع الذي يقطنه 2.1 مليون نسمة.

فلسطينيون يحاولون تفريغ أكياس دقيق من شاحنة مساعدات في مدينة غزة، يوليو/تموز © سعيد م. م. ت. جرس/أناضول/غيتي إيمجز.

شهد مازن وسائقون آخرون، استخدمت صحيفة “فايننشال تايمز” أسماء مستعارة لحمايتهم، على الكارثة الإنسانية نتيجة القصف والحصار الإسرائيليين على غزة، حيث تسببا بتهجير معظم السكان، ومقتل عشرات الآلاف، وتفشي المجاعة.

ويقول السائقون ومسؤولو النقل والتجار ومسؤولو الإغاثة إن كل رحلة قد تستغرق أيامًا رغم أن المسافة لا تتجاوز بضع عشرات من الكيلومترات، بسبب المخاطر التي يواجهها السائقون.

يدخل السائقون القطاع في خضم الهجمات الإسرائيلية، والحشود الجائعة، وعصابات الجريمة المنظمة. وفقا للأمم المتحدة، قُتل أكثر من 2100 فلسطيني أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات منذ أواخر مايو/ أيار، معظمهم بنيران إسرائيلية.

وهناك أيضًا عقبات بيروقراطية أخرى: فقد يستغرق انتظار الحصول على إذن إسرائيلي للانتقال من نقطة إلى أخرى ساعات أو أيام أو قد لا يأتي أبدًا، مما يحد من عدد القوافل التي يمكن للأمم المتحدة إدخالها، ويؤدي إلى تكدس الإمدادات عند المعابر، وفقًا لمسؤولي الإغاثة الإنسانية.

وقد اتهمت إسرائيل الأمم المتحدة بعدم تجميع الشحنات، وادعت أن لديها نموذجًا أفضل، تموله الولايات المتحدة ويُعرف بـ”مؤسسة غزة الإنسانية”، ويعتمد على إدخال المساعدات بشكل منفصل وتوزيعه في مواقع عسكرية.

وتقول إسرائيل إن هذا النموذج مصمم لمنع سرقة حماس للمساعدات، لكن مسؤولي الأمم المتحدة يقولون إنهم لم يروا أدلة على قيام الحركة بذلك على نطاق واسع.

في أيام العمل، ينطلق مازن – الذي كان عمل سائق شاحنة تجارية لأكثر من عقد قبل اندلاع الحرب عقب هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 – في وقت مبكر من خيمته في منطقة المواصي الساحلية المكتظة جنوب غزة للالتحاق بقافلته.

بمجرد حصولها على الموافقة من الجيش الإسرائيلي، تتجه القوافل – التي قد تضم أكثر من 50 شاحنة – نحو معبر كرم أبو سالم عبر طرق تحددها القوات الإسرائيلية، وغالبًا ما تتوقف لساعات في نقاط التفتيش الإسرائيلية.

وعند الوصول، يتعين عليهم الانتظار حتى تفتيش الشحنات القادمة من الشاحنات الإسرائيلية، ثم تحميلها على الشاحنات الفلسطينية.

وفي بعض الأحيان، يحلّ الليل قبل أن تسمح لهم إسرائيل بالمغادرة. وعندها، يجهز مازن الشاي مع سائقين آخرين، ثم يستلقي تحت شاحنته، آملاً أن تساعده نسائم الصحراء على النوم.

للحصول على الموافقة على مثل هذه المهام، يجب على وكالات الإغاثة تقديم طلب مفصل إلى الجيش الإسرائيلي، وغالبًا ما يتم رفضه، حسب أولغا تشيريفكو من مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في غزة.

وفقاً للأمم المتحدة، دخلت حوالي 120 شاحنة مساعدات إنسانية يوميًا في أغسطس/ آب، مقارنة بحوالي 600 شاحنة خلال الهدنة القصيرة بين يناير/ كانون الثاني ومارس/ آذار.

لم تعد إسرائيل تسمح إلا لعدد محدود من المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة بتسليم المساعدات عند المعبر. تقول الأمم المتحدة إن ما يقرب من ثلث الموافقات استغرقت أكثر من شهر، كما أن عمليات التسليم أصبحت مقتصرة على معبرين فقط: كرم أبو سالم جنوبًا وزيكيم شمالًا.

تتعاقد هذه المنظمات مع شركات نقل داخل غزة، والتي توظف بدورها سائقين مثل مازن.

تقول تشيريفكو إن الرحلة بأكملها، بما في ذلك تحميل الشحنات، يُفترض أن تستغرق خمس ساعات فقط، لكنها غالبًا ما تستغرق من 12 إلى أكثر من 24 ساعة.

وتضيف: “كنا نرسل عدة قوافل يوميًا خلال الهدنة، أما الآن فهذا غير ممكن على الإطلاق”.

وصف الصورة: سائق يجلس في شاحنة تحمل مساعدات أثناء الانتظار على الجانب المصري من معبر رفح الحدودي في مارس/ آذار.

وقالت الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن الشؤون الإنسانية في غزة “كوغات”، إن إسرائيل لا تمنع دخول المساعدات إلى غزة ولا تحدّ من عدد شاحنات المساعدات، مشيرة إلى أن نحو 300 شاحنة تدخل غزة يوميًا.

وأضافت أنها تنسّق حركة الشاحنات “لضمان أمن القوافل”، وأنها تطبق إجراءات تسجيل “شفافة وواضحة” تهدف إلى منع حماس من السيطرة على المساعدات. واتهمت الهيئة بعض المنظمات الدولية بعدم تقديم المعلومات المطلوبة للحصول على الموافقة لدخول القطاع.

غالبًا ما تبدأ الحشود الجائعة بالظهور عندما تمر الشاحنات عبر محافظة رفح، التي كانت ذات يوم منطقة مزدحمة، لكنها أصبحت الآن أرضًا مهجورة بعد أن أفرغتها إسرائيل من سكانها.

وقال عمر، وهو سائق آخر، إن الحشود بدأت بالظهور في مايو/ أيار بعد تراجع حدة الحصار الإسرائيلي الذي استمر قرابة ثلاثة أشهر، وأضاف أن ما حدث لم يكن سرقة، بل “توزيع ذاتي” من أشخاص “لم يحصلوا على ما يكفيهم من الطعام منذ شهور”.

وقال عمر، وهو تاجر جملة تحول إلى سائق ضمن قوافل المساعدات خلال الحرب، إن التعابير التي رآها على وجوه الناس تشبه الفرحة في عيون أطفاله عندما عاد إلى المنزل بكيس من الطحين بعد إحدى المهام.

يقول السائقون إن القوات الإسرائيلية تستهدف تلك الحشود الجائعة بشكل متكرر. وفقًا للأمم المتحدة، قُتل 1011 فلسطينيًا أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات على طرق القوافل بين أواخر مايو/ أيار وأوائل سبتمبر/ أيلول.

وقالت الأمم المتحدة إن 1135 شخصًا قُتلوا بالقرب من مواقع مؤسسة غزة الإنسانية خلال الفترة ذاتها.

يقول الجيش الإسرائيلي إنه يحقق في هذه الهجمات، مضيفًا أنه أقام حواجز ولافتات على الطرق المؤدية إلى مواقع مؤسسة غزة الإنسانية لتقليل “الاحتكاك” بين سكان غزة وقواته.

يتعرض السائقون أيضًا لهجمات من لصوص مسلحين. أفاد السائقون بأن هؤلاء اللصوص أطلقوا النار على إطارات شاحناتهم، وسحبوا الوقود والبطاريات.

يسرق بعض اللصوص شاحنات بأكملها. وقد قال العديد من السائقين إن عصابة مسلحة تابعة لياسر أبو شباب استولت على مركباتهم مؤخرًا.

ويزعم أبو شباب – الذي تشتهر عصابته بين الفلسطينيين والمسؤولين بنهب المساعدات –  أنه سيطر على جزء من رفح بالقرب من المعبر في المنطقة العسكرية الإسرائيلية. وقد صرح مسؤولون إسرائيليون في وقت سابق أنهم يسلحون العشائر الغزاوية المعارضة لحماس.

ويروي عمر أن ثلاث سيارات جيب توقفت بجانب شاحنته أثناء انتظاره عند حاجز تفتيش إسرائيلي مع قافلة تابعة لبرنامج الأغذية العالمي في يوليو/ تموز الماضي، وطلب منه رجل – عرف أنه أبو شباب – النزول من شاحنته.

يقول عمر: “سألني: ما نوع الشاحنة، أوتوماتيكية أم عادية؟ قلت له إنها أوتوماتيكية، فطلب مني تشغيلها. أدخلت الرمز وشغلت السيارة، ثم صعد أحد سائقيه وقاد الشاحنة بعيدًا”. لم يرد أبو شباب على طلب التعليق على الحادث.

أكدت الأمم المتحدة أن أقل من خُمس الشاحنات وصلت إلى وجهتها في غزة هذا الصيف، بينما تم اعتراض البقية، إما سلميًا من قبل حشود جائعة، أو بالقوة على يد جهات مسلحة. يقول مسؤولو الإغاثة إن معظم عمليات الاعتراض تتم حاليا من قبل الجائعين.

في ظل هذه المخاطر، لم يبقَ في الميدان سوى عدد قليل من سائقي الشاحنات في غزة، حسب مسؤول في اتحاد النقل.

قُتل وأُصيب العشرات من السائقين بنيران إسرائيلية أو على يد مسلحين، واعتقلت إسرائيل عددا منهم، بينما فضّل البعض عدم المجازفة، وفقًا للاتحاد.

ووفقًا للمسؤول في اتحاد النقل، فإن ما يزيد قليلاً عن ثلث الشاحنات التي كانت تعمل في غزة، والتي يزيد عددها عن 1200 شاحنة، ما زالت صالحة للعمل. وأضاف: “البقية إما احترقت أو دُمرت، أو تم تفكيكها لتصليح شاحنات أخرى”.

أدى نقص قطع الغيار بسبب عدم سماح إسرائيل بدخولها إلى القطاع إلى ارتفاع الأسعار إلى مستويات خيالية، وفقًا لما للسائقين ومسؤولي النقل. ارتفع سعر الإطار من حوالي 300 دولار إلى 5000 دولار، إذا أمكن العثور عليه.

عندما تصل القافلة المتهالكة إلى وسط غزة، غالبًا ما تكون الحمولة قد نفدت تقريبًا، بينما تتزايد المخاطر مع كل مهمة جديدة.

يقول مازن: “الحشود تزداد، والمشاكل على الطريق تتفاقم، وهناك مزيد من اللصوص وعمليات إطلاق النار”. ويضيف: “ليس هناك ما يضمن أننا سنعود”.

المصدر: فاينانشال تايمز