غارة الدوحة: رسائل عدوانية تتجاوز حدود غزة

وصل صدى الغارة الإسرائيلية على حي “كتارا” في الدوحة إلى مختلف أنحاء العالم، ليتجاوز الحدث كونه مجرد حلقة جديدة في سجل الجرائم الإسرائيلية الممتد منذ عقود، والمتصاعد بشكل غير مسبوق خلال العامين الأخيرين مع حرب الإبادة في قطاع غزة.
فالاستهداف الذي طاول اجتماعًا قياديًا لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والذي خُصص لمناقشة العرض الأمريكي لإنهاء الحرب، لم يحقق غايته الأساسية المتمثلة في تصفية من حضروا الاجتماع.
ومع ذلك، فقد أنتج ارتدادات سياسية وأمنية عميقة، أعادت طرح تساؤلات حول حدود السلوك الإسرائيلي الذي يُوصف بالبلطجة، وحول حجم التواطؤ الأمريكي الذي يصعب تصور حدوث مثل هذه العملية من دونه، خصوصًا وأنها جرت على أرض دولة تُعد من أوثق الحلفاء الاستراتيجيين لواشنطن.
لحظة وقوع الاستهداف الإسرائيلي لقيادات حمـ.ـاس في العاصمة القطرية الدوحة. pic.twitter.com/N5W82co9lB
— نون بوست (@NoonPost) September 9, 2025
أما المواقف الإسرائيلية والأمريكية اللاحقة، فقد عكست إدراك الطرفين لحساسية ضربة من هذا النوع؛ إذ لا يمكن نسبها إلى “مجهول” كما يحدث في عمليات استخباراتية غامضة، ولا جرت في بلد يُصنف عدوًا، بل جاءت متزامنة مع جولة تفاوضية قُدمت باعتبارها حاسمة ومبنية على عرض أمريكي، وهو ما جعل العملية بمثابة “رصاصة واحدة”؛ فإما أن تصيب وتُسجَّل كإنجاز، أو تخطئ وتتحول إلى مأزق سياسي ودبلوماسي، وهو ما حدث بالفعل.
الموقف الإسرائيلي: من النشوة إلى التخبط
هزّت الانفجارات التي وقعت في العاصمة القطرية الدوحة الأوساط الإقليمية والدولية، وسط ترجيحات شبه مؤكدة منذ اللحظة الأولى بأنها استهدفت قيادة حركة حماس المقيمة هناك.
وعلى غير العادة في العمليات الخارجية، لم ينتظر جيش الاحتلال طويلًا، إذ أعلن مسؤوليته رسميًا ببيان أورد فيه تفاصيل الهجوم الذي استهدف قادة من الحركة الفلسطينية، وعلى رأسهم خليل الحية، رئيس حركة حماس في غزة.
جاء في البيان، الذي نقلته إذاعة الجيش الإسرائيلي، أن “الجيش الإسرائيلي والشاباك هاجما من خلال سلاح الجو بشكل دقيق قيادة حركة حماس”. وأضاف: “القادة الحمساويون الذين استُهدفوا قادوا أنشطة الحركة لسنوات ويتحملون المسؤولية المباشرة عن عملية السابع من أكتوبر وإدارة الحرب ضد إسرائيل”.
إلا أن القراءة المتأنية للبيان تكشف بُعدين لافتين: الأول، أن الناطق باسم الجيش بالعربية أفيخاي أدرعي نسب العملية إلى الجيش والشاباك معًا، في تجاوز للاختصاص الطبيعي لمثل هذه العمليات الذي يعود عادة للموساد، مما يعكس محاولة واضحة لتجنيب الموساد الحرج، خصوصًا وأن رئيسه يرتبط بعلاقات وثيقة مع قطر، وهو ما أكدته القناة 12 العبرية التي أفادت بأن جهاز الموساد عارض العملية ولم يكن شريكًا فيها.
أما البعد الثاني، فيتمثل في استخدام سلاح الجو لتنفيذ الضربة عبر قصف جوي مباشر في وضح النهار، وعلى أرض دولة ليست مصنفة معادية وتحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية خارج الولايات المتحدة، إذ يكشف هذا الخيار أن “إسرائيل” أرادت للعملية أن تكون استعراضية وصادمة، لتعزيز روايتها حول امتلاكها “اليد الطولى” القادرة على الوصول إلى أي هدف في أي مكان. وقد عكس ذلك تغريدة رئيس الكنيست أمير أوحانا، الذي نشر مقطع الاستهداف وعلق بالعربية: “هذه رسالة لكل الشرق الأوسط”.
لكن هذا التباهي لم يدم طويلًا؛ فمع انقشاع دخان الغارة بدأ يتضح أن العملية التي صُممت لتكون نجاحًا مضمونًا انتهت إلى فشل ذريع في تصفية القيادة المستهدفة. ورغم إصرار الرواية الإسرائيلية الأولى على تحقيق “نجاح محقق”، إلا أن تصريح نتنياهو بأن “العملية كانت إسرائيلية مستقلة بالكامل، بادرت إليها ونفذتها وتتحمل مسؤوليتها”، كشف حجم المأزق السياسي الذي بدأ يتشكل.
تدريجيًا، انقلب المزاج السياسي والإعلامي في “إسرائيل”. فبعد الترحيب الواسع بالهجوم من وزراء الحكومة وبعض المعارضين، عادت وسائل الإعلام العبرية لتؤكد أن القرار لم يحظَ بإجماع داخل المستويات السياسية والأمنية. فقد ذكرت القناة 12 وهيئة البث أن رئيس الأركان إيال زامير، ورئيس الموساد، ورئيس الاستخبارات العسكرية تحفظوا على العملية. وفي السياق ذاته، نقلت القناة 13 عن مسؤولين سياسيين وعسكريين أنهم كانوا يفضلون استنفاد المفاوضات أولًا، خاصة في ظل وجود مقترح أمريكي على الطاولة.
وبذلك، لم تقتصر الخسارة على الفشل العملياتي، بل امتدت إلى أزمة سياسية ودبلوماسية في لحظة حساسة، حيث أهدرت “إسرائيل” “رصاصة وحيدة” كان يُفترض أن تغيّر قواعد اللعبة، وما بدا فرصة استثنائية قد لا تتكرر في المستقبل، سرعان ما تحولت إلى مأزق من المبكر حصر حدوده.
المعادلات القطرية والخليجية: تجاوز نوعي
جاء الموقف القطري سريعًا وحاسمًا، بلهجة تصعيدية واضحة عكست إدراك الدوحة لخطورة الانتهاك الإسرائيلي؛ فالعملية لم تُسجل مجرد مساس بالسيادة الوطنية، بل استهدفت الركائز السياسية التي بنت عليها قطر دورها الدبلوماسي لعقود، وخصوصًا مكانتها كوسيط رئيسي في أزمات دولية حساسة. ومن هذا المنظور، رأت قطر في الغارة تهديدًا مباشرًا لقدرتها على أن تكون أرضًا آمنة تُمارس منها دور الوساطة وتعزز حضورها السياسي العالمي.
ويزيد من خطورة الأمر أن نجاح “إسرائيل” في تنفيذ الضربة على الرغم من استضافة قطر لقاعدتين عسكريتين أمريكيتين من الأكبر في العالم، يعني عمليًا إفراغ هذه الترتيبات الدفاعية من مضمونها، وهو ما دفع رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى وصف الهجوم بالغادر، معتبرًا إياه “إرهاب دولة” ورسالة بأن هناك لاعبًا مارقًا يعيث في المنطقة لزعزعة أمنها واستقرارها، مؤكدًا أن قطر لن تتهاون في حماية سيادتها وتحتفظ بحق الرد.
عرض هذا المنشور على Instagram
الموقف الأمريكي جاء على لسان الرئيس دونالد ترامب الذي سارع إلى الاتصال بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، مؤكدًا إدانته للاعتداء على السيادة القطرية ومشددًا على أن الدوحة تبقى حليفًا استراتيجيًا موثوقًا لواشنطن، لكن ما لفت الأنظار هو الإجماع الخليجي النادر في إدانة الضربة، فقد أكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وقوف المملكة “التام مع قطر” ووضع جميع الإمكانات لمساندتها، فيما شدد وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد والمستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي أنور قرقاش على أن “أمن الخليج لا يتجزأ” وأعلنا تضامن بلادهما الكامل مع الدوحة. كما وصف وزير الخارجية الكويتي عبد الله اليحيا الهجوم بأنه “اعتداء مباشر على الأمن الخليجي المشترك ووحدة المصير”، وهو الموقف ذاته الذي عبر عنه الأمين العام لمجلس التعاون جاسم محمد البديوي.
تكشف هذه المواقف عن إدراك خليجي أوسع لخطورة الحدث، يتجاوز الموقف من قطر إلى رؤية الانفلات الإسرائيلي باعتباره تهديدًا جماعيًا، فالهجوم لم يعد يقتصر على دول الطوق أو خصوم “إسرائيل” التقليديين، بل امتد إلى دولة تُعتبر شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة وتستضيف قواتها، الأمر الذي جعل دول الخليج تدرك أن سياسة “النأي بالنفس” والاكتفاء بالتصريحات الخطابية تجاه الاعتداءات الإسرائيلية لم تعد مجدية.
كما تعي هذه الدول أن وجود مكتب لحركة حماس في الدوحة، شأنه شأن قنوات الاتصال مع قوى وفصائل أخرى، لم يكن سرًا ولا خارج السياق الدولي، بل جزءًا من دور معترف به للوساطة السياسية، غالبًا بتنسيق مع واشنطن نفسها. ومع ذلك، لم يمنع هذا “إسرائيل” من شن هجوم يكرس صورتها كقوة مارقة تمارس العربدة العسكرية دون حساب، مستندة إلى الغطاء الأمريكي كلما احتاجت إليه.
النفاق الأمريكي: التنصل من الفشل
لا يمكن قراءة الضربة الإسرائيلية ضد وفد حركة حماس المفاوض في الدوحة بمعزل عن العرض الأمريكي وسياقات تقديمه، خاصة وأنه جاء في ظل خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أحاط العرض الجديد -والمجحف في نظر المقاومة الفلسطينية- بسلسلة تهديدات مباشرة لدفعها إلى القبول.
من هنا، بدا واضحًا منذ البداية أن الحديث عن “مسار تفاوضي” جديد لم يكن إلا جزءًا من نمط خداعي مألوف في سياسة الإدارة الأمريكية الحالية، شبيهًا بما مارسه ترامب سابقًا في ملف المفاوضات مع إيران والذي ترافق مع ضوء أخضر لشن ضربات إسرائيلية على منشآتها النووية وبنيتها الأمنية والعسكرية.
بالنسبة للحسابات القطرية، فإن تورط واشنطن في دفع الوفد الحمساوي المفاوض للاجتماع بكامل هيئته لمناقشة العرض الأمريكي، قبل أن يتعرض الموقع ذاته لهجوم إسرائيلي، شكّل مؤشرًا خطيرًا؛ فذلك كشف أن الأراضي القطرية لم تعد بمنأى عن الاستخدام السياسي والأمني السلبي، سواء عبر غض الطرف الأمريكي عن الهجوم أو عبر تقديم تسهيلات غير مباشرة لكشف الوفد المستهدف.
وإزاء هذا الاتهام الضمني، حاولت “إسرائيل” من خلال تصريحاتها اللاحقة الإيحاء بأن الضربة جاءت ردًا على عمليات المقاومة في غزة والقدس، وليست مرتبطة بالمسار التفاوضي، سعيًا لخدمة السردية الأمريكية للتنصل من الضربة.
إعلام الاحتلال الإسرائيلي يتحدث عن الغارات التي استهدفت العاصمة القطرية الدوحة وعن التسيق مع الولايات المتحدة بشأنها. pic.twitter.com/vCeaIy2rzT
— نون بوست (@NoonPost) September 9, 2025
لكن القراءة الأولية للحدث أوضحت أن واشنطن رأت في نجاح الضربة فرصة ذهبية: القضاء على المجلس القيادي لحماس ووفدها السياسي والأمني دفعة واحدة، ليُضاف ذلك إلى رصيد ترامب في “فعالية تهديداته”، مع إمكانية نسب الإنجاز إليه شخصيًا. أما في حال الفشل، كما حدث، فقد كان الخيار الأمريكي هو الصمت، وترك “إسرائيل” تتحمل المسؤولية منفردة.
وهذا ما تجسد فعليًا، إذ ساد الصمت الأمريكي ساعات طويلة، ثم خرج ترامب لاحقًا ليتبنى الرواية الإسرائيلية ذاتها بأن “القرار كان إسرائيليًا مستقلًا”، مؤكدًا أن الأمر “لن يتكرر على أرض قطر مجددًا”.
مسؤول في البيت الأبيض للجزيرة: نؤكد أنه تم إبلاغ واشنطن بالعملية الخاصة باستهداف مسؤولي حماس في قطر. pic.twitter.com/IxbkNNM8yH
— نون بوست (@NoonPost) September 9, 2025
وفي منشور على منصة “تروث سوشيال”، أعلن أنه تحدث مع أمير قطر ورئيس وزرائها، معبرًا عن حزنه للقرار الإسرائيلي، مشددًا على أن الهجوم الأحادي لا يخدم مصالح “إسرائيل” ولا الولايات المتحدة. وأضاف أنه وجّه وزير خارجيته ماركو روبيو لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية التعاون الدفاعي مع قطر، فيما أوكل مبعوثه ستيف ويتكوف مهمة إبلاغ الدوحة بالهجوم، لكن “بعد فوات الأوان”.
عكست هذه التصريحات محاولات أمريكية متسارعة لاحتواء آثار الفشل الإسرائيلي وحصر تداعياته بعيدًا عن العلاقات الاستراتيجية مع قطر، التي لا تقتصر على الاستضافة العسكرية بل تشمل شراكات اقتصادية وتجارية ضخمة، فحجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين يبلغ نحو 200 مليار دولار، إضافة إلى اتفاقية جديدة وقعها ترامب في مايو/أيار الماضي لتعزيز التبادل بما لا يقل عن 1.2 تريليون دولار.
ومع ذلك، يبقى إدراك المنطقة، والدوحة على وجه الخصوص، أن مثل هذه الضربة لم تكن لتقع دون ضوء أخضر أمريكي ومعرفة مسبقة بتفاصيلها. وهو ما يجعل الموقف الأمريكي المعلن أقرب إلى محاولة التدارك لما بعد الفشل، أكثر من كونه موقفًا حقيقيًا. وبالتالي، فإن واشنطن أمام استحقاق القيام بخطوات عملية لإعادة بناء الثقة مع قطر، بما يتجاوز التصريحات ويعالج جذور الأزمة التي كشفتها هذه الحادثة.
ختامًا، وبغض النظر عن تأثير العملية المباشر على مسار التفاوض بشأن مستقبل الحرب في غزة، وفي لحظة مفصلية تشهد فيها المدينة تدميرًا شبه كامل ونزوحًا قسريًا لمليون فلسطيني نحو جنوب القطاع، فإن الغارة الإسرائيلية في قلب الدوحة تجاوزت حدود الميدان الفلسطيني وأطلقت صفارات إنذار في عموم المنطقة.
عرض هذا المنشور على Instagram
فقد بدا واضحًا أن طموحات التوسع الإسرائيلية، كما يحلم بها نتنياهو واليمين الصهيوني تحت شعار “إسرائيل الكبرى”، لم تعد محصورة في استهداف الفلسطينيين أو دول الطوق التقليدية، بل باتت تهدد كل من يلوح في الأفق كعائق أمام هذه الأطماع.
وبالتالي فإن صدى العملية لم يتوقف عند حدود قطر، بل امتد ليصيب عمق الأمن الخليجي المشترك؛ إذ أدركت العواصم الخليجية أن الانفلات الإسرائيلي تجاوز خطوطه التقليدية نحو تهديد المجال الحيوي لدول ترتبط بتحالفات استراتيجية مع الولايات المتحدة وتستضيف قواعدها العسكرية. ومن ثمّ، فإن مرور هذه الجريمة مرور الكرام لن يعني إلا فتح الباب أمام اعتداءات أكبر قد تطال أي دولة خليجية أخرى، بما يجعل من الاستقرار الإقليمي كله رهينة لشهوة العدوان الإسرائيلية.
ومن هنا، فإن ما بعد هذه الجريمة لن يكون كما قبلها؛ إذ إن مرورها دون رد حاسم سيُفسَّر إسرائيليًا على أنه تفويض مفتوح لمزيد من الانفلات والعدوان، وتجربة نتنياهو الطويلة تؤكد أن كل جريمة تمر بلا حساب لا تؤدي إلا إلى شهوة أكبر لارتكاب جريمة أعنف وطموحات أوسع، وهو ما إعادة تنبيه المنطقة بأسرها أنها أمام تحدٍ استراتيجي لا يمكن تجاهله.