الخط الأحمر الجديد: ما معنى استهداف قطر مرتين؟

لا يمكن التعامل مع استهداف قطر، مرة من إيران في 23 يونيو/حزيران 2025، وأخرى من الكيان الإسرائيلي في 9 سبتمبر/أيلول من العام نفسه، بوصفه مجرد حدث عابر في سياق التجاذبات الإقليمية، فالأمر يتجاوز الإطار العسكري التقني أو الرسائل التكتيكية التي تبعث بها القوى المعتدية، ليكشف في جوهره عن مؤشر خطير على حجم التشابك في الخريطة الإقليمية، ومكانة الدوحة تحديدًا ضمنها.

هذان الاستهدافان لدولة خليجية في أقل من ثلاثة أشهر أربكا كافة الحسابات، بما فيها تلك التي كان يُعتقد أنها راسخة وثابتة ومستدامة، وأعادا إلى الأضواء مرة أخرى النقاش حول مفهومي الأمن الخليجي والأمن القومي العربي، وجعل الحاجة الماسة لرؤية إقليمية مشتركة للأمن أكثر إلحاحًا مما كانت عليه في أي وقت مضى.

ما شهدته الدوحة من هجوم إسرائيلي عرّى هشاشة الوضع العربي برمته، لا الخليجي فقط، إذ تعيش المنطقة عند تقاطع نزاعات داخلية وتدخلات خارجية، فوق فوهة بركان، بين مشروعين متصارعين: إيران وحلفاؤها من جهة، و”إسرائيل” وحلفاؤها من جهة أخرى.

لسنوات عديدة ارتكزت منطقة الخليج على قاعدة الحماية الأمريكية التي حلت محل الحماية البريطانية، غير أن الاستهدافات الأخيرة قلبت الموازين، ودَفعت الجميع، حتى من تربطهم علاقات وثيقة بواشنطن وتل أبيب، إلى إعادة النظر في فلسفة الأمن الخليجي من أساسها، وهنا يبرز احتمال تغييرات جذرية في خارطة التحالفات، خصوصًا في نقاط التماس مع الولايات المتحدة، التي تعاني مصداقيتها الخليجية من تآكل غير مسبوق.

تطور يخلط كل الأوراق

العدوان الإسرائيلي على قطر لم يكن مجرد واقعة جديدة تضاف إلى سجل الاعتداءات الممتد منذ عام 1948، بل جاء كتطور نوعي في طبيعة الصراع العربي مع الكيان المحتل بوجه عام. صحيح أن “إسرائيل” سبق أن استهدفت دولًا عربية خارج ميادين المواجهة المباشرة، من قصف المفاعل النووي العراقي إلى غزو بيروت واغتيال قيادات فلسطينية في تونس والإمارات، إلا أن استهداف الدوحة هذه المرة يكشف عن أبعاد تتجاوز العمل العسكري التقليدي، ويضع النظام العربي برمته أمام أسئلة مصيرية لا تقبل أنصاف الحلول ولا المواقف الرمادية.

تكمن خطورة الهجوم في كونه أول اعتداء إسرائيلي مباشر على دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي، وهي منطقة تتمتع بحساسية استراتيجية فائقة لكونها مركز إنتاج الطاقة العالمي وعقدة أساسية في طرق الملاحة الدولية، فضلًا عن ارتباطها الأمني الحيوي بالاستراتيجية الأمريكية عبر قواعد عسكرية ضخمة وحضور بحري كثيف. ومن هنا، فإن الضربة لا تستهدف قطر وحدها، بل تمس عمق الأمن الخليجي الجماعي الذي يُفترض أن يقوم على تضامن أشد تماسكًا وصلابة من أي أطر تعاون عربي أخرى.

المشهد بتفاصيله المعلنة وقراءاته المختلفة يزيد من خطورة التناقض الواضح في سياسات نتنياهو؛ فبينما يزعم سعيه لتوسيع مظلة التطبيع مع دول الخليج، يعتدي في الوقت نفسه على إحدى هذه الدول، ما يفتح الباب أمام تصعيد شامل يهدد بتحويل الشرق الأوسط كله، وليس منطقة الخليج وحدها، إلى ساحة مواجهة مفتوحة، تشمل دولًا كانت تظن نفسها بمنأى عن الصراع، فإذا بها تجد أن نيران الأزمة تطالها مباشرة في ظل الجنون الإسرائيلي الذي يخلط أوراق الاستقرار الإقليمي.

كل هذا يجعل الخليج والعرب عمومًا أمام لحظة فارقة وحالة استثنائية في تاريخ العلاقات الدولية، حتى في أوقات الصراعات السياسية والعسكرية، فلم يعرف التاريخ أن تُقدم دولة طرف في حرب على استهداف الوسيط الذي يقوم بدور حلقة الوصل بينه وبين الطرف الآخر لتهدئة الوضع وتحقيق ما لم يتحقق بالقوة العسكرية.

لماذا قطر تحديدًا؟

لم يكن اختيار قطر لتُستهدف مرتين في أقل من ثلاثة أشهر اعتباطيًا، بعدما تحولت إلى رمزية معتبرة للوساطة وعاصمة للدبلوماسية التي قد لا تروق للمتعطشين للدماء ومؤيدي استمرار التصعيد في المنطقة، أصحاب الأجندات التوسعية، وهو ما دفع هؤلاء لنقلها قسرًا من خانة الوسيط إلى طرف حرب، وأحيانًا طرف مباشر.

ومن ثم تحولت قطر إلى مسرح كبير للصراع بالوكالة، وساحة رمزية لتبادل الرسائل بين القوى المتصارعة. فحين أرادت طهران توجيه رسالتها التحذيرية لواشنطن، كان استهداف قاعدة العديد بالدوحة رغم تعدد الأهداف العسكرية الأمريكية في البحرين والبحر المتوسط والأحمر، والذي يحمل دلالات رمزية قوية، الأكثر اختيارًا للرسالة.

الأمر نفسه ينطبق على الكيان الإسرائيلي، الذي حين أراد تقليم أظافر حركة حماس وممارسة أقصى الضغوط عليها عبر تصفية قيادات الصف الأول السياسي، اختار الدوحة تحديدًا لتنفيذ هذا المخطط، في رسالة لا تقف عند حدود قطر فقط، بل ربما تصل للقاهرة أيضًا التي تستضيف بين الحين والآخر ذات القيادات.

هذا يعني عمليًا أن قطر لم تعد دولة مراقبة للمشهد الملتهب إقليميًا كما كانت تتصور، ولا وسيطًا محايدًا كما تُصنف نفسها، بل تحولت إلى منصة لإرسال إشارات استراتيجية ورسائل تحذير متبادلة بين إيران وفريقها من جانب، و”إسرائيل” ومحورها من جانب آخر، وهو ما شكل نوعًا من الضغط المزدوج على الدولة القطرية قد يدفعها لإعادة النظر في حساباتها ومقارباتها، داخليًا وخارجيًا.

السياسة الأمنية القطرية.. نحو تموضع جديد

مع الاستهداف الثاني للدوحة في تلك الفترة القصيرة، تفرض نفسها ثلاثة تساؤلات ملحة على ألسنة القطريين. أولها يتعلق بالمنظومة الأمنية القطرية وقدرتها على التصدي لمثل تلك الاعتداءات، خاصة العملية الإسرائيلية الأخيرة، وإن كانت نجحت نسبيًا في التصدي للمسيرات الإيرانية في يونيو/حزيران الماضي.

وينبثق عن السؤال الأول سؤال آخر مُكمل له، يتعلق بالاختراق الاستخباراتي وتوصل الكيان المحتل إلى مكان إقامة وفد حماس في الدوحة وموعد انعقاد الاجتماع المزمع، وهي المعلومات التي تكشف بشكل كبير خللًا في منظومة الاستخبارات، وربما تورطت فيه دول أخرى تدعي أنها حليفة للدولة الخليجية.

السؤال الثاني الملح موجَّه من القطريين لقيادتهم الحاكمة: هل ثمن الوساطات والسياسات الخارجية هو تعريض أمن المجتمع للخطر؟ وهو السؤال الأكثر حرجًا، ويتقاطع مع مقاربات الدوحة الإقليمية واستراتيجيات تعزيز النفوذ عبر الدبلوماسية الناعمة، التي نجحت من خلالها الدولة الخليجية الصغيرة في أن تتحول إلى لاعب مهم على خارطة التوازنات الدولية.

وبذات المنطق، ينبثق سؤال فرعي آخر عن هذا السؤال الحرج: ماذا لو نجحت إيران و”إسرائيل” في ضرب أهداف داخل قطر دون ردع جدي؟ وهو سؤال قائم على فرضية حساسة أمنيًا، إذ أن ذلك قد يشجع أطرافًا أخرى، مثل جماعات مسلحة أو تنظيمات متطرفة أو دول مارقة وأخرى ذات أجندات توسعية، على تكرار تلك الاعتداءات، وكأن قطر تحولت إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات.

تلك التساؤلات تضع عبئًا هائلًا على الأجهزة الأمنية القطرية في حماية الداخل، وتدفعها للتساؤل الأهم: ما فائدة القواعد العسكرية الأمريكية داخل الأراضي القطرية؟ فإن لم تحمِ البلاد من هجمات كتلك، التي نفذتها دولة صديقة وحليفة للولايات المتحدة، ولا يمكن أن تُقدم على ما فعلت دون ضوء أخضر أمريكي، فما هي فائدتها؟

هذه التوليفة المرتبكة من التساؤلات حتمًا ستدفع القطريين لإعادة النظر في سياستهم الأمنية الداخلية، والتي من المتوقع أن ترسخ لمنهجية جديدة في توفير الضمانة الذاتية لحماية أمن البلاد بعيدًا عن أي تعويل خارجي، تستند إلى محاور عدة، منها تطوير بنية التحصين في الدوحة، خصوصًا المواقع الحساسة (مجمعات حكومية، مقار عسكرية، بعثات دبلوماسية، المقرات السكنية) التي قد تكون مستهدفة.

كذلك تدشين خطط إخلاء وطوارئ أفضل، وإجراءات استجابة أسرع لحوادث من هذا النوع، بما في ذلك تدريب فرق الأمن الداخلي للتعامل مع المتفجرات والتفكيك، وفرق الطوارئ، ومن المتوقع أن تعزز السلطات القطرية الإجراءات الأمنية، خاصة في الدوحة وضواحيها، ورفع جاهزية الأجهزة الأمنية (الشرطة، الأمن الداخلي، الدفاع المدني) للتعامل مع أي هجمات مفاجئة.

هذا بخلاف وضع خطط وبرامج دقيقة لتعزيز الأمن والحماية للوفود التي تمثل الحركات والجماعات المرتبطة بالصراعات الإقليمية، ومراجعة صلاحيات الجهات الموكلة بحمايتها، مع تحسين قدرات المراقبة والكشف المبكر للهجمات المحتملة، بما في ذلك استخدام تكنولوجيا متقدمة للمراقبة الجوية، الأقمار الصناعية، الطائرات بدون طيار، والمراقبة الإلكترونية.

ولا يُستبعد أن تعيد الدوحة النظر في شراكاتها الأمنية مع حلفائها الإقليميين والدوليين، مع تنويع مصادر التكنولوجيا العسكرية والأمنية المستخدمة، وتفعيل التعاون بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المحلية والخارجية، لضبط أي تحركات محتملة للقوى التي تحاول تصفية حسابات خاصة عبر المسرح القطري، وفي المقدمة منها “إسرائيل” وإيران.

لا أحد في مأمن.. الرسالة الأبرز

واهم من يظن أن الدوحة وحدها كانت الهدف، وأن قادة حماس هم الباعث الأول والأخير على تنفيذ هذا العمل، فالعملية تحمل الكثير من الرسائل والرمزيات والدلالات المقدمة للجميع بلا استثناء.

الرسالة الأولى هي أنه لا أحد في مأمن من الاستهداف الإسرائيلي، مهما كانت المقاربات والحسابات، وأن العربدة الإسرائيلية لا تعرف خطوطًا حمراء، وأن كل من يفكر في التحرك بعيدًا عن رؤية الكيان التوسعية فسيكون مصيره القصف، أيًا كانت النتائج، وهو ما أكده رئيس البرلمان الإسرائيلي أمير أوحانا في مقطع فيديو حذر فيه من أن الشرق الأوسط بأكمله معرض للضربات إذا لم يمتثل للخط الإسرائيلي.

الرسالة الثانية تشير إلى أن التحالف مع الأمريكيين ليس ضمانة مستمرة أو ثابتة ضد أي تهديدات أمنية، فقطر، التي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، تم استهدافها بهذه الطريقة، وهو ما يعيد ملف تقاطع المصالح بين العلاقات الأمريكية الإسرائيلية من جهة، والعلاقات الأمريكية الخليجية من جهة أخرى، إلى الواجهة مجددًا، وهو تقاطع يميل غالبًا نحو مصالح “إسرائيل” في المقام الأول.

الرسالة الثالثة تبرهن قولا وفعلاً على أنه لا رادع للكيان المحتل، ولا خطوط حمراء لسياسات نتنياهو وجنرالاته، فهو مثل الذئب الأهوج المتعطش للدماء الذي لا يرى أمامه حليفًا أو صديقًا، فالكل أمامه فرائس طالما أن نهمه لم يُشبع بعد، وهي رسالة إنذار موجهة للجميع، بما فيهم من يظنون أنهم في حماية الأمريكيين أو اتفاقات أبراهام

اختبار حساس لأمن الخليج

منذ سبعينيات القرن الماضي، ورثت الولايات المتحدة من بريطانيا مهمة الحفاظ على أمن الخليج، وهي المهمة التي ازدادت أهميتها اللوجستية عقب اكتشاف النفط وتحول دول الخليج إلى كيانات معترف بها دوليًا. وقد اعتمدت هذه الدول على ركيزتين أساسيتين: التحالفات الاستراتيجية مع الغرب، والإنفاق العسكري الضخم، فيما ظل التحالف مع واشنطن يمثل حجر الزاوية في المنظومة الأمنية الخليجية، رغم ما يشوبه أحيانًا من تباينات واضحة وتضخيم متعمد للتهديدات الإقليمية، وعلى رأسها إيران.

تنتشر في الشرق الأوسط نحو 27 قاعدة عسكرية أمريكية، أبرزها وأهمها تلك المتواجدة في منطقة الخليج، والتي اعتُبرت ضمانة موثوقة لحماية أمن دول المنطقة. إلا أن التطورات الأخيرة، وعلى رأسها استهداف الدوحة، أظهرت أن هذا النظام الأمني الخليجي الأمريكي يواجه اختبارًا حقيقيًا، وإذا لم يثبت فعاليته فقد يفتح الباب أمام بروز معادلات أمنية جديدة في الخليج.

تجدر الإشارة إلى أن قطر ليست الدولة الوحيدة التي فشلت أمريكا بمظلتها الأمنية في حمايتها من الاستهداف، فهناك سجل حافل بالحوادث المماثلة التي عجزت الولايات المتحدة خلالها عن القيام بدورها كراعية لأمن المنطقة، أبرزها الهجمات على منشآت نفطية تابعة لشركة أرامكو السعودية في عام 2019، والتي مثلت الصفعة الأولى للكبرياء الأمريكي في الشرق الأوسط منذ وقت طويل، ودفعت المملكة وقتها لتقييم مدى إمكانية الاعتماد على الأمريكيين.

تكرر الأمر مجددًا في يناير/كانون الثاني 2022 حين استهدف الحوثيون، عبر صواريخ باليستية ومسيرات، أهدافًا حساسة في كل من أبوظبي ودبي، دون أن يكون للأمريكان دور أو حضور، ثم أعيد مرة أخرى في يونيو/حزيران حين استهدف الإيرانيون قاعدة العديد الأمريكية نفسها، وهو ما كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير ودفع الخليج برمته لإعادة النظر في الضمانة الأمريكية بشكل كامل.

من الأخطاء التي قد لا تُغتفر أن يتم التعامل الخليجي أو العربي مع القصف الإسرائيلي على أنه مسألة تخص قطر وحدها، فالكيان الإسرائيلي يراهن تاريخيًا على تفكك الصف العربي وضعف المواقف المشتركة، والاستفراد بالدول العربية واحدة تلو الأخرى. قد تكون البداية بالدول الخصوم أو التي تتقاطع مع المصالح الإسرائيلية، لكن في النهاية سيطال هذا التمدد جميع الدول، بما فيها تلك المطبعة والمتوهمة أنها في مأمن، في ظل تجديد العهد بين الحين والآخر على لسان أقطاب السياسة والأمن والدين في الكيان بتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”.

في ظل المشهد الراهن وما يفرضه من تحديات وجودية، لم تعد هذه الوقائع تخفى على أحد، فالأحداث قد تسهم في تعزيز منظومة الردع الخليجية، وأن تستثمر قطر تلك الحادثة – التي فشلت تل أبيب في تحقيق أهدافها – للدفع دبلوماسيًا نحو إعادة تفعيل منظومة الدفاع المشترك، خاصة في ضوء الهجمات السابقة التي طالت الأراضي الخليجية من الحوثيين.

وعليه، يرى الخبراء أن هذا الهجوم قد يدفع نحو مزيد من التقارب بين دول الخليج، وتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك المجمدة، بل وربما بين دول المنطقة عمومًا، مع احتمالات تدشين تحالفات أخرى مع المعسكر الشرقي، وهو التحرك الذي سيؤدي إلى تعزيز عزلة “إسرائيل” دوليًا، وإجبار واشنطن على الدخول على الخط، عندها يمكن للعرب والخليج على وجه التحديد فرض معادلات قوى وتوازنات إقليمية مختلفة.

أزمة ثقة.. تآكل مظلة الحماية الأميركية

كشفت تفاصيل الضربة الإسرائيلية عن أزمة ثقة معمقة – وإن لم تظهر للعلن – بين الولايات المتحدة ودول الخليج، فالانحياز الأمريكي الواضح والصريح لتل أبيب حين وفرت لها الغطاء السياسي والاستخباراتي والعسكري لتنفيذ الاعتداء على السيادة القطرية، كان علامة فارقة في اتساع الهوة بين الحليفين الاستراتيجيين.

ورغم محاولات واشنطن المرتبكة في التنصل من هذا التواطؤ عبر لغة دبلوماسية مراوغة، تؤكد كافة المؤشرات أن “إسرائيل” ما كانت لتجرؤ على تلك الحماقة لولا حصولها على ضوء أخضر أمريكي مباشر، الذي يضمن لها – بجانب الدعم العسكري – الإفلات من المحاسبة والعقاب.

وتثبت الأحداث تلو الأخرى خلال السنوات الست الأخيرة أن الخذلان الأمريكي لمنطقة الخليج لم يعد استثناء، بل بات ظاهرة متكررة، مع الاستهدافات المتكررة للدول الخليجية واحدة تلو الأخرى، وهو ما عمّق أزمة الثقة، التي لا يمكن استعادتها عبر خطاب مدغدغ للمشاعر، مستندًا إلى وعود جوفاء بعدم التكرار، دون موقف حازم تجاه العدوان الإسرائيلي.

هذا الموقف يضع الأمن الخليجي والعربي أمام تحدٍ خطير، ويفرض مراجعة جادة للعلاقة مع الولايات المتحدة، التي تجد نفسها أمام معضلة حساسة في الشرق الأوسط، بين دورها كحامي للكيان الإسرائيلي، في الوقت الذي تحرص فيه على علاقات جيدة مع الخليج، وهما خطان يصعب الموازنة بينهما بحسب التطورات الأخيرة.

وتضع هذه الأجواء الإدارة الأمريكية أمام لحظة حرج شديدة، ففي الوقت الذي يهرول فيه ترامب لتوقيع المزيد من الاتفاقيات الإبراهيمية مع بعض الدول الخليجية كالسعودية، تتعرض إحدى تلك الدول لهجوم إسرائيلي غادر، وهو الهجوم الذي قد يكون نقطة تحول في العلاقات الخليجيةالأمريكية، ويُجبر الجميع على إدخال مسار التطبيع في ثلاجة التجميد مؤقتًا على أقل تقدير.

وربما تعكس ردود الفعل الخليجية تجاه هذه العملية حالة من التململ والغموض المحتمل في مستقبل العلاقات الأمريكية الخليجية، فالخطاب السياسي لولي العهد السعودي، الذي تبنى لهجة حاسمة غير معهودة في وصف الكيان المحتل، تجاوز الكثير من الخطوط الحمراء التي وضعتها الرياض استنادًا لمقارباتها الإقليمية، كذلك زيارة رئيس الإمارات – الدولة الحليفة لـ”إسرائيل” – للدوحة بعد أقل من 24 ساعة من الاستهداف، حملت رسالة مباشرة وواضحة للجميع بأن ما حدث سيكون نقطة محورية في مسار اتفاقيات أبراهام المزعوم.

تجد الدول العربية نفسها اليوم أمام مفصل تاريخي محوري، ونقطة فارقة سيكون لها تبعاتها على مستقبل الحضور العربي على خارطة التوازنات والقوى. ولعل القمة العربية الإسلامية الطارئة المزمع عقدها في العاصمة القطرية الأحد والاثنين 14 و15 سبتمبر/أيلول الجاري، والمتوقع أن تحظى بمشاركة واسعة، ستبحث الرد على الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف قطر، وستحمل مخرجاتها إجابات عن الأسئلة الحرجة التي تشغل الرأي العام العربي والدولي.

في الأخير…

تثبت الضربات المتتالية التي طالت الدوحة أن الخليج لم يعد بمنأى عن صراع المشاريع المتناحرة في المنطقة، وأن معادلة “الأمن المستورد” عبر المظلة الأمريكية لم تعد كافية ولا قادرة على ردع التهديدات المباشرة. كما أن استهداف قطر تحديدًا – بما تحمله من رمزية كوسيط دبلوماسي وقوة ناعمة – يشي بأن القوى المتصارعة لم تعد تفرق بين طرف مشارك في النزاع وآخر يسعى إلى الوساطة، الأمر الذي يرفع منسوب المخاطر على الأمن الخليجي والعربي، ويؤكد أن الحاجة إلى مراجعة شاملة للفلسفة الأمنية باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

وعليه، فإن ما جرى لا ينبغي أن يُقرأ كحدث يخص قطر وحدها، بل كجرس إنذار للمنطقة بأسرها، فـ”إسرائيل” وإيران على حد سواء وجهتا رسائل مباشرة بأن الجميع عرضة للاستهداف متى ما تعارضت مصالحه مع مشاريعهما التوسعية. أمام هذا الواقع، يصبح بناء موقف عربي وخليجي موحد، يعيد الاعتبار لمفهوم الأمن القومي المشترك، الخيار الوحيد لتفادي مزيد من الانكشاف الاستراتيجي، ولإرسال إشارة واضحة للعالم أن العرب لم يعودوا يقبلون باستفراد أي طرف منهم أو العبث بسيادتهم الجماعية