أوسلو.. حين اختزل التحرر في وظيفة وراتب

منذ توقيع اتفاق أوسلو، لم يتوقف الجدل الفلسطيني حول معنى هذه التسوية السياسية وحدود مكاسبها. وفي الفترة الأخيرة برز عبر منصات التواصل الاجتماعي خطاب يختزل الاتفاق في بوابة الفلسطيني الذي حظي بميزة أكل “الشاورما” أو الحصول على وظيفة لزوجته وابنه، في مقابل تصوير مشروع المقاومة كمصدر للـ”وبال” و”الذل” و”الحرمان حتى من استخدام الحمامات”. هذا الخطاب الذي يحوّل السياسة إلى تفاصيل المعيشة اليومية ليس فريدًا في الحالة الفلسطينية فحسب، بل يتقاطع مع أنماط خطابية مماثلة في دول الجنوب بعد الاستعمار أو التسويات السياسية، حيث تُستبدل شرعية المقاومة أو التحرير بوعود الاستهلاك والوظائف والخدمات.

ففي جنوب أفريقيا، بعد نهاية نظام الفصل العنصري عام 1994، وعلى الرغم من كون مخرجات المشروع التحرري هناك تفوق بمراحل منجزات المشروع الفلسطيني، إلا أن خطاب نيلسون مانديلا قد ركّزعلى تحويل شرعية الدولة الجديدة إلى تحسين حياة المواطنين اليومية. في State of the Nation Address، أعلن مانديلا: “شعبنا اختار الأمل بدل الخوف… وعلينا أن نحول هذا الأمل إلى وظائف ومساكن وكهرباء وحياة أفضل للجميع”، وقد تجسّد ذلك في وثيقة “إعادة الإعمار والتنمية”  (RDP)، التي ركّزت على معالجة الفقر وتحسين السكن وتوفير الخدمات الأساسية، لتصبح الحياة اليومية معيارًا للشرعية السياسية بعد عقود من التمييز والقمع.

وفي الجزائر، بعد نهاية الحرب الأهلية في التسعينيات، شكّلت Charte pour la Paix et la Réconciliation Nationale عام 2005 إطارًا لإرساء السلم والاستقرار. وقد ركّز هذا الميثاق على المصالحة الوطنية وتحسين الأمن والمعيشة، مع تجاهل أو تهميش دور المقاومة المسلحة السابقة ضد الاحتلال الفرنسي. يُظهر هذا المثال كيف أن السلطات بعد مرحلة من العنف الطويل تُحوّل مشروع التحرر الوطني إلى مشروع إدارة الاستقرار، حيث تصبح المعيشة اليومية وأمن المواطن معيارًا للشرعية أكثر من المقاومة.

وفي فيتنام، مع إصلاحات Đổi Mới  التي بدأت في الثمانينيات، ركّزت الدولة على “تحسين حياة الشعب من خلال الانفتاح الاقتصادي”، بينما اختزلت مقاومة الفلاحين والمجتمع المدني التاريخية إلى مجرد متاحف ومؤسسات تعليمية. هنا، أصبح الاقتصاد والتنمية معيارًا للشرعية، حتى لو تم التضحية بمشروع التحرر الشامل الذي قادته المجتمعات المحلية.

وفي كوريا الجنوبية، خلال حكم بارك تشونغ-هي في السبعينات، أُطلقت حملة “القرية الجديدة” التي ركّزت على التنمية الريفية والتحديث الاقتصادي، حيث أصبح خطاب السلطة حول تحسين حياة المواطن اليومية وأمنه الاقتصادي أداة لتثبيت السلطة بعد مرحلة من الاستعمار الياباني والحروب الداخلية.

ونرى ذات المنطق في مصر، حيث استخدم أنور السادات خطاب “السلام من أجل التنمية” لتبرير توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1979، مع التركيز على وعد تحسن المعيشة الاقتصادية للمصريين كركيزة للشرعية، بينما تم تصوير المقاومة الفلسطينية والعربية في ذلك الوقت على أنها معرقلة للسلام والاستقرار.

وليس الحال بعيدا عن أمريكا اللاتينية، حيث شكّل خطاب بينوشيه في تشيلي “إعادة البناء الوطني” مقرونًا بوعود النمو والازدهار، وصوّر أي مقاومة سابقة أو مستقبلية باعتبارها أصل الفوضى والفقر، مع التركيز على استقرار الاقتصاد وجذب الاستثمار. وفي كولومبيا، استخدم أوريبي مفهوم “الأمن الديمقراطي” كشرط لجذب الاستثمار وتوفير الوظائف، مجسّدًا نفس النمط: أي مشروع مقاومة أو تحرر يُختزل في خطاب سلبي، بينما تصبح إدارة الخدمات الاقتصادية معيارًا للشرعية.

أما ليبيا، فقد واجه عمر المختار، قائد المقاومة ضد الاستعمار الإيطالي، حملة تشويه من الصحف الإيطالية التي وصفته بـ”المخرب” و”المتمرد”، بينما كان يقود مشروع مقاومة وطني من أجل حرية شعبه وكرامة وطنه. هذا المثال يوضح كيف أن النخبة الاستعمارية غالبًا ما تصوّر مقاومة التحرر على أنها تهديد للاستقرار، وهو نمط يتكرر في دول الجنوب، تمامًا كما حدث لاحقًا مع السلطة الفلسطينية بعد أوسلو، حيث تحولت الإدارة البيروقراطية والخدمات الاقتصادية إلى أدوات للشرعية على حساب المشروع التحرري.

في هذا الإطار، يأتي دور فانون في نقده لظاهرة “البرجوازية الوطنية” في معذّبو الأرض، إذ وصفها بأنها طبقة وسيطة تتنازل عن المشروع التحرري وتتحوّل إلى شبكة توزيع امتيازات والاستهلاك، متحوِّلة السياسة إلى “اقتسام للفتات” ضمن النظام العالمي. ويرى فانون أن الوعي الاجتماعي الثوري ينبع من تجربة الاستعمار اليومية ويتحول عبر المقاومة إلى وعي بالكرامة والتحرر، لكنه يتشرذم عندما تستولي البرجوازية الوطنية على السلطة وتحوّل الصراع إلى نزاع استهلاكي لا وجودي.

وفي الحالة الفلسطينية، يظهر هذا التوتر بوضوح شديد؛ فقصة “الزيت والزعتر” ليست مجرد رمزية، بل إعلان استعداد فلسطيني للعيش بالحد الأدنى مقابل حرية وسيادة، في مقابل خطاب السلطة الذي اختزل الشرعية في القدرة على دفع الرواتب وتأمين “الشاورما”. إن الوعي الفلسطيني بهذه الثنائية بدأ منذ أمد بعيد وظهرت ملامحه في ثقافة العامة من خلال أغانيهم ونكاتهم وغيرها من أنماط التعبير البسيطة شكلا العميقة مضمونا. وبمقارنة بسيطة بين الأغاني الفلسطينية التي تعكس التباين بين فلسفة المقاومة وفلسفة الركون إلى التنمية الرأسمالية والاعتماد على الرواتب، نجد ذات الرمزيات وذات المصطلحات وذات القضايا التي تؤرق أنصار التيارين المتنازعين. فبينما يردد تيار المقاومة وأبناءهم جيلا بعد جيل كلمات مثل:

“لانصب “خيمة” ع المية وارحل مافيش… لو بعنا ميرامية و”زعتر” بنعيش

ياشعبي هدي شويه وبتيأس ليش… ورصاص البندقيه نازل شلال”

حيث تجسد هذه الأغنية روح الصمود والتضحية، مع قبول بالحرمان المادي كجزء من الكفاح المستمر ضد الاحتلال، وحيث تتحول شظايا الحياة اليومية من الميرامية والزَّعتر إلى رموز مقاومة وصمود، ويبرز بعد المقاومة الوجودية في العبارة الأخيرة “ورصاص البندقية نازل شلال”.

وعلى النقيض، يردد تيار المؤمنين بأن الدولة الفلسطينية قد قامت وما هي إلا رتوش لتكتمل الصورة الجميلة بعد أن انتهينا حقيقة من مشروع التحرير وبدأنا بمشروع البناء والتطوير أغنية “وين الراتب” لتعكس خطاب السلطة والبيروقراطية، حيث يقول المغني:

“البقال بدّو الحساب، صاحب السكن يا أحباب، من الصبح واقف ع الباب، بدّو أجرة هذا العش. وين الراتب فش فش”

هنا تتحول السياسة والمقاومة إلى مسألة اقتصادية بحتة، مع التركيز على الرواتب والإيجارات والحسابات اليومية، ويغيب البعد التحرري أو المقاوم. اللغة تختزل صراع الحرية إلى مجرد انتظار للراتب، وهو انعكاس للخطاب الذي اختزل مشروع أوسلو في إدارة الخدمات والوظائف، وليس في الاستقلال والسيادة.

وبالمقارنة، فإن الأغنية الثورية تحافظ على أفق سياسي وإيديولوجي، بينما أغنية السلطة تسلط الضوء على العجز المؤسسي والاعتماد على الرواتب والخدمات، ما يعكس الفرق بين وعي اجتماعي ثوري كما وصفه فانون، وبين وعي اجتماعي وسطي/بيروقراطي يعتمد على الوعود الاقتصادية بدل الحقوق الوطنية والسياسية.

وما بين تلك الأغنية الشعبية التي انتشرت بين أنصار السلطة بعد أزمة الرواتب عام 2006 “وين الراتب فش فش… حكومتنا الرشيدة خلتنا ع الحديدة”، والسخرية العميقة على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم “لولا أوسلو ما أكلتوا شاورما”، تعكسان هذا التنافر. أضف إلى ذلك تصريح رئيس الوزراء الأسبق محمد اشتية في مقر غرفة تجارة وصناعة رام الله بتاريخ 19 سبتمبر 2019: “بدكم وطن أكثر ولا مصاري أكثر؟”، الذي يلخص هذا التوتر ويجسد الانحراف من مشروع التحرر إلى إدارة المشاريع الاقتصادية اليومية.

ومن المفارقة العجيبة في مثل هذه الظروف أن المبررات التي أسست شرعية السلطة من رواتب، ووظائف، وخدمات، وأمن، قد تحولت اليوم إلى مبررات لتفكيكها: فالعجز عن دفع الرواتب، والفشل في توفير الأمن للمواطن الذي بات يُضرب بالحجارة في منزله من قبل المستوطن، بعدما كان هو صاحب الحجارة في الانتفاضتين الأولى والثانية، كشف أن الدولة دون سيادة مجرد كيان هش. إن عجز السلطة عن الوفاء بما تغنّت به هو سبب متزايد لدعوات العودة إلى الاحتلال المباشر، ليتمكن الشعب الفلسطيني من إعادة بناء أدواته المقاومة التي لم يعجز عنها رغم الحرمان، حين كان يأكل “الزيت والزعتر” بدلًا من “الشاورما”.

في النهاية، تبدو سرديات “الشاورما” و”الراتب” سخيفة وهشة، لأنها تنتفع بفتات المعيشة تحت احتلال مستمر، في حين أن خطاب المقاومة يُمسك بخيط التاريخ من “الزيت والزعتر” إلى الحرية والكرامة. أما أوسلو، فإن خطيئتها الكبرى تكمن في تجريد الفلاح الفلسطيني من أرضه، وتحويله إلى موظف بيروقراطي مُقيَّد بالديون؛ وربط الاقتصاد الفلسطيني وتقييده بالاحتلال، وتلميع النمط الاستهلاكي باسم “التنمية”، فكانت الخيانة الأهم: تحويل مشروع “التحرر الكلي” إلى مشروع “الرعاية المؤقتة”. كل هذا تم بأيد فلسطينية صاحبة مشروع وطني، لكن تلك النخبة سرعان ما انسلخت عن عوام الفلسطينيين وأسست نخبة اقتصادية ونفعية ذاقت لذة التخمة وعرفت شهوة السيطرة. فأصبحت حرفيا تمثل البرجوازية الوطنية بالمفهوم الفانوني. وليس هناك عذر لما آلت إليه الأمور في فلسطين، لا قديما ولا حديثا، ليس هناك عذر للنخب الفلسطينية فيما آلت إليه الأمور. بل كما قال إبراهيم طوقان:

قد يعذرون لو أن الجوع أرغمهم… والله ما عطشوا يوما ولا جاعوا.

فهؤلاء الذين يروجون لسردية الحياة الهانئة في ظل أوسلو هم المنتفعون منها والنخبة المتسلقة التي أتخمها الثراء، وبتنا نسمع أولادهم يصيحون بالصوت العالي “هاي البلد إلنا“!