بين المتدين والمزراحي و”الكاره لذاته”: كيف أعاد الطوفان تعريف “الإسرائيلي الحقيقي”؟

على طول أمد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كان كل من الواقع والمخيال يعزز تمظهرًا واضحًا، نادر الخدش لصورة الإسرائيلي، فهو دائمًا أوروبي، وغالبًا تعود أصوله لأوروبا الشرقية، هُناك حيث تحظى سردية الضحية ومعاداة السامية بمكانتها الراسخة، وهو إضافة لذلك أبيض، وينتمي لطبقة متوسطة، انعكاسًا لطبيعة عمله ومستوى دخله.
هذه الصورة لم تكن إلا الحقيقة، التي عكستها احتجاجات 2022، والاستقطاب الحاد المصاحب لها، لكنها ظهرت بشكلٍ أكثر وضوحًا بالنسبة للداخل الإسرائيلي، والمجتمع العربي، إبان السابع من أكتوبر، حين فرضت لحظة الطوفان مفاضلة قصوى بين إسرائيلي يمكن جدًا أن يموت أو يؤسر، على حساب إسرائيلي آخر يغدو المساس به أمنًا قوميًا مشددًا.
من المنعطف والمفاضلة، تأتي هذه المادة، لتُضاف إلى ملف “فصول الطوفان” حيث نستعرض مفاصل محددة في المجتمع الإسرائيلي، بعضها فاقع، وكثيرٌ منها خفي، عمل السابع من أكتوبر على قلبها رأسًا على عقب، وعلى إعادة برمجتها وفق كلٍ من العقلية الأمنية المضطربة والهوس التوسعي المتزايد، ليعود الكيان وفقًا لها إلى مربعه الأول عام 1948، مجتمعٌ عسكري يعيش عقدتي الخوف والأمن.
تطرح السطور اللاحقة سؤال “الإسرائيلي الحقيقي” ما بعد الطوفان، والتحولات الجغرافية والاجتماعية والسياسية المرتبطة به، وتموقعه وسط اليهود الشرقيين، واليهود المتدينين، والخط الرفيع بينه وبين (اليهودي الكاره لذاته)، وجماعات السلام الآن، داخليًا وحول العالم.
جغرافيا الحرب على وجه الكيان
بعد العقد الأول من نكبة فلسطين، وبالتوازي مع هجرة اليهود من البلاد العربية، بدا أن توطين المهاجرين الجدد لا يمكن أن يكون انسيابيًا في ظل هيمنة المهاجرين الأوائل، الذين يعود أصل معظمهم للبلاد الغربية، فاستحدثت الدولة حينها بلدات تطوير في الجنوب، من حد عسقلان حتى النقب.
وهناك أُسكن المهاجرون الشرقيون/ المزراحيون، أو من يُطلق عليهم “السفارديم” بالمعنى الواسع، الذي جاءوا من مناطق شمال إفريقيا، أو البلاد العربية الشرقية، ومنهم اليهود المغاربة والتونسيون واليمنيون والأكراد والعراقيون وغيرهم، وانغمسوا في مجتمعٍ وجدهم منذ اللحظة الأولى عبئًا عليه، لا سيما وأنهم لم يساهموا في إقامة الدولة بل انتقلوا كرد فعلٍ على قيامها.
في تلك البلدات الهامشية، مثل سديروت وأوفكيم ونتيفوت، بقيت الأوضاع الاقتصادية والتعليمية والصحية في حدها الأدنى، واستثني سُكانها من الخطط الإنمائية التي تركزت في تل أبيب والقدس وحيفا، ما حافظ على وجودهم في أسفل السلم الطبقي الإسرائيلي.
بينما تمتعت الكيبوتسات المحيطة بها، مثل كفار عزة، وبئيري، و ناحال عوز، بدعمٍ سخي من الدولة وبارتباطات مباشرة مع النخب السياسية والعسكرية وبامتيازات في سُلم المشروع الصهيوني بالتوازي مع مكانتهم كطلائعيين، نتيجة الغالبية الأشكنازية فيها، ورغم يساريتها وعلمانيتها الطاغية التي لا تتفق مع الهوية الحقيقية للكيان.
بمثل هذا التباين، عبثت عملية السابع من أكتوبر، حين هاجمت كُلا من الكيبوتسات، والبلدات التطويرية، فبينما كانت الأولى بؤرة الهجوم وعنوانه، واستحوذت على النسبة الأكبر من الدمار، نتيجة البنى التحتية العسكرية والمدنية الأكثر تطورًا بها، أكد الهجوم على البلدات التطويرية نزعة الانتقام ودعم اليمين الإسرائيلي وسياسته التوسعية.
وهو ما أنتج أثرًا نفسيًا مختلفًا على كلٍ منهما، ففي الأولى اعتُبر الطوفان ضربة للطلائعية الصهيونية والمثقف الزراعي، الذي يمثل رمز المشروع الصهيوني، ما ترك حالة عميقة من الخذلان، وانتكاسًا عن اليسار، وخيبة من إمكانيات الدولة وتفوق الجيش.
بينما وجد سُكان البلدات التطويرية في الحدث رافعةً لهم في مقابل فقدان الكيبوتسات موقعها كحامية للدولة، بدعم مطالبهم بالمزيد من الضوء والسلطة، وتعزيز موقعهم كقاعدة انتخابية لليمين، ما أعاد توزيع القوة الاجتماعية والسياسية لصالح المزراحيم على حساب الأشكناز، جنوبًا.
لا يختلف ذلك عن وضع سُكان الحدود الشمالية، حيث يتواجد المزراحيم في البلدات التطويرية مثل كريات شمونة، بينما يتوزع الأشكناز في الكيبوتسات والموشافات الزراعية مثل المطلة ومسغاف عام وغيرها، وهو ما أوجد “إسرائيليًا جديدًا” يعيش كُلا من الهشاشة والغضب، من خيبة الكيبوتس وانتقام البلدة.
هذه التفاعلات، انتقلت لاحقًا إلى القلب المجتمع، بالتوازي مع دخول المسيرات اليمنية والصواريخ الإيرانية، التي أوقعت مركز البلاد في فرن الصهر ذاته الذي وقع به جنوبها وشمالها، وهي عوامل أخرى، أضافت المزيد من التحول إلى كينونة الإسرائيلي.
بهذا، ووفقًا لدراسات مراكز بحثية متعددة، أضحى “الإسرائيلي الجديد”، يعيش صدمة جماعية أعادت الأمن إلى مقدمة معايير الانتماء لديه، وضخت توجهات متزايدة لديه لدعم الحلول الأمنية العسكرية، بالتوازي مع إسقاط مفاهيم مدنية من وعيه، مثل القانون والعدالة وقضايا الحُكم وإدارة الدولة وغيرها.
كشفت عملية “طـ،ـوفان الأقصى” هشاشة الأمن الإسرائيلي، فأدخلته في حالة رعب، دفعه لإجراء تحوّل جذري في العقيدة العسكرية: من الردع السلبي إلى الدفاع النشط، ومن انتظار التهديد إلى نقله لعمق أراضي الخصم عبر استراتيجية “الحدود متعددة الطبقات”
📍المزيد في هذا التقرير لـ @ahmad_m_tanani… pic.twitter.com/1CWKesSOZh
— نون بوست (@NoonPost) March 28, 2025
يُضاف إلى ذلك، فقدان ثقته بالحكومة والجيش، لا سيما بعد صفقات التبادل التي أظهرت أن الدولة لا تتعامل مع جميع الرهائن بسياسة واحدة، فرهائن المزراحيم مهمشون على حساب رهائن الأشكناز، كما أن استردادهم لم يظهر كأولوية رسمية أو وطنية مشتركة، على خلاف الرهائن الأجانب أو مزدوجي الجنسية الذين حظي ملفهم بضغطٍ دبلوماسي مضاعف من دولهم، ما ساهم بتسريع إطلاق سراحهم.
أما التحول الذي يُمكن اعتباره تأكيدًا للمؤكد، فهو انقسام المجتمع المدني وحراك العائلات “منتدى عائلات الرهائن”، حول قضايا الرهائن والحرب، بين من أراد المفاوضات ومن دعم الحل العسكري، وهي المفاضلة التي أعادت إنتاج “تراتبية الدم” داخل المجتمع.
يتوازى ذلك مع إعلامٍ ركز بكثافة -محليًا ودوليًا- على قصص رهائن الكيبوتسات، وصورهم كـ “إسرائيليين” طبيعيين، على حساب الرهائن الآخرين الذين تم تهميشهم، وهو ما عزز صورة واحدة للإسرائيلي الحقيقي في المخيال العام، هو؛ الأبيض الأشكنازي، أكان مقاتلًا على الجبهة، أو مزارعًا في الكيبوتس.
على الرغم من ذلك، فإن ظهور “الإسرائيلي الجديد” لم يكن حدثًا أحادي البُعد، ولم يكن نتيجة فورية للطوفان، بل كان ثمرة تراكم تاريخي طويل، وسياسة توطين طبقية وتوزيع إثني في الموارد والارتباطات، وهي المنحنيات التي عمل الطوفان على تسريعها وكشفها.
ليتحول الكيبوتس بعدها من حاملٍ رمزي للمشروع التأسيسي إلى رمزٍ للهشاشة، بينما تصبح البلدات التطويرية -بسكانها- منبر لشرعية يمينية، دون أن يُفقد ذلك الإسرائيلي الأشكنازي الأبيض ذو التعليم الجيد والبنية الجسدية الأوروبية تميزه الإعلامي والسياسي.
الإسرائيلي ما بين السلام الآن والانتقام أكثر
على بُعيد خطوة من الطوفان، دخل المجتمع الإسرائيلي في صدمة وجودية، أساسها فقدانه تفوقه الأمني والاستخباراتي لأول مرة منذ 1973، ما أطلق بداخله انكماشًا جماعيًا، ونزعة انتقامية استبعادية بتحميله الفلسطينيين جميعًا مسؤولية الـ7 من أكتوبر، وفق منظور “لا أبرياء في غزة”.
وفقًا لاستطلاعات معهد الديمقراطية الإسرائيلي 2024-2025، فالإسرائيليون أكثر ميلاً لدعم الحلول العسكرية والإبادة الجماعية، كما أنه دخل حالة عسكرة شاملة من مؤسساته الاجتماعية والإعلامية وحتى التعليمية، باستيراد خطاب “الناجي من المحرقة الثانية”، أعادت إنتاجه بوصفه إما جنديًا دائمًا أو مواطنًا في حالة طوارئ مستمرة.
لا تقتصر تحولات الإسرائيلي على ذاته التي أضحى القلق أبرز صفاتها، بل على علاقته بالعالم، الذي يراه من منظار (العالم كله ضدنا) و(الغرب لم يعد ثابتًا في دعمنا)، وعلى ذواته الأخرى التي تناوئه، مثل جماعات الحوار والسلام الآن.
وهو التحول الذي أصبح منحدرًا وشائعًا بعد السابع من أكتوبر، نتيجة تعميم صفة “اليهودي الكاره لذاته” على الجماعات اليهودية الرافضة للنهج “الإسرائيلي” في القتل والتوسع والسيطرة، بعدما كان نتنياهو قد افتتحه قبل سنوات بوصف اثنين مساعدي الرئيس باراك أوباما بأنها “يهوديان كارهان لنفسيهما”، قبل أن يصف وزير المالية الإسرائيلية شتانتز، القاضي اليهودي ريتشارد غولدستون بأنه “معاد للسامية من النوع الذي يمقت ويكره شعبه”.
“لا تقتلوا باسمنا”.. ماذا تعرف عن منظمة صوت اليهود من أجل السلام؟#غزة_تستغيث#طوفان_القدس pic.twitter.com/h9G2JtQLEn
— نون بوست (@NoonPost) November 6, 2023
بروز هذه الفئة سبب أذىً نفسيًا للمجتمع الإسرائيلي الذي انتُزعت شرعية عسكرته بينما تتضامن منظمات وجماعات يهودية ضد حرب الإبادة التي تشنها حكومته على قطاع غزة، من بينها منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام” المناهضة للصهيونية في نيويورك، و “الصوت اليهودي من أجل السلام”، و “الصوت اليهودي من أجل العمل”، و”الشبكة اليهودية من أجل فلسطين”، و”الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام”، و”ناطوري كارتا” وغيرهم، ممن تظاهروا لدعم الفلسطينيين، مؤكدين أن ما يجري لا يمثلهم و”ليس باسمهم”.
لا يقف الانشقاق عند حدود التظاهرات، بل يتفق مع توجه بين يهود الشتات للنأي بأنفسهم عن سياسة دولة الاحتلال ومجتمعها، حيث أشارت مسوح المعهد الانتخابي اليهودي إلى أن 25% من اليهود في أمريكا، يعتقدون أن “إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين”، بينما 25% يرونها دولة فصل عنصري.
وفقًا للباحث جوزيف مسعد، فإن الشعور العام المترتب على نمو الحركات اليهودية المعارضة لـ”إسرائيل”، هو الفزع، خاصة وأن منهم أساتذة وحاخامات وفاعلين في ميدان السياسة، معتبرًا أن مرد ذلك هو دعمهم لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.
بالنسبة لمسعد، فـ”المد انقلب بالفعل”، إذ لم تعد تكتيكات “إسرائيل” القذرة أو تكتيكات أنصارها في الولايات المتحدة – بما في ذلك التشهير، والاتهام بمعاداة السامية أو كراهية الذات تخفيف المنظمات الصهيونية الأمريكية، بل على العكس من ذلك فقد أصبح جيل الشباب هو المعارض لـ “إسرائيل” بوصفها مستعمرة استيطانية يهودية.
من ناحية ثانية، يمكن اعتبار هذه الحركات وجهًا من وجوه شرعنة وجود “إسرائيل” دوليًا بكونها “صوت نقدي داخلي”، لا سيما مع وجود ملموس لليسار داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، لكن 7 أكتوبر أسهم في انكسار هذا الصوت من قبل المجتمع نفسه، وإقصائه لصالح “الإسرائيلي المنتقم” الذي وجد في “السلام الآن” خيانة وكراهية للذات.
📍أظهر استطلاع جديد أجرته وزارة إسرائيلية، أن أكثر من ثلث المراهقين الأمريكيين اليهود الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و18 سنة يتعاطفون مع حمـ.ـاس.
📍وجاء في نتائج الاستطلاع الذي نشرته “وزارة شؤون الشتات الإسرائيلية”، أن %36.7 من المراهقين إمّا “اتفقوا” أو “اتفقوا بشدة” مع عبارة “أنا… pic.twitter.com/VZhpBHon3l
— نون بوست (@NoonPost) November 23, 2024
بهذا لم يعد “الإسرائيلي الجديد” منتقمًا من الفلسطيني، بل مطيحًا بالتعددية الداخلية بين صفوفه -حتى لو كانت محدودة-، في مقابل تجانس قومي عسكري، بما يكسر الجسور الواصلة بينه وبين ذاته الأخرى، الناقدة والمنقذة له.
يعكس ذلك أيضًا اضطرابًا في علاقة الإسرائيلي بشتاته، وهو المدى الذي لا يقل أهمية عن مركزه، فمعظم يهود العالم يتوزعون خارج الكيان لا في قلبه، هذا الاضطراب يأخذ منحًا عالميًا في ازدواجية أزمة الهوية الإسرائيلية، فبينما يزداد الانغلاق داخليًا، وتختفي ملامح النقد، وتغدو الصبغة العسكرية هي الطاغية، يزداد الحضور والشرعية التمثيلية ليهود الشتات، بازدياد قناعة جزء معتبر من يهود العالم أن “إسرائيل” لم تعد تمثلهم، ولم تعد قادرة على احتكار تمثيل اليهودية عالميًا، بل أصبحت تشوه يهوديتهم.
ينفجر ذلك، بل ويتشظى اليوم، ما بين تآكل معسكر السلام، وعسكرة الداخل، وصعود اليمين الديني والقومي، وتآكل علاقة “إسرائيل” بيهود الشتات، وانقطاع علاقة الإشكناز بالمزراحيم، ثم يتبلور في شخصية جماعية جديدة، تُحارب كل ما يختلف معها، وتعيش قلقها وتوجسها، بين اعتبار وجودها هي، أو وجودها على الأرض التي تحتلها، آخر معقلٍ من معاقل البقاء.