مصر: كيف تحولت الموافقات الأمنية إلى أداة ابتزاز للفلسطينيين؟

“حين ذهبت من القاهرة لأداء فريضة العمر قبل شهرين فوجئت وأنا في مطار الأمير محمد بن عبدالعزيز الدولي بالمدينة المنورة بالسعودية استعدادًا للعودة مرة أخرى إلى الأراضي المصرية التي أحمل أوراق إقامة مؤقتة بها، أني لا يمكنني صعود الطائرة قبل الحصول على موافقة أمنية مصرية، وبسؤالي عن المدة المطلوبة للحصول عليها أخبروني أنها قد تستغرق أسبوعًا أو أكثر”.. هكذا استعرضت “أسماء” رحلتها من المملكة إلى مصر عقب أدائها فريضة العمر.
تضيف السيدة الفلسطينية الأربعينية في حديثها لـ “نون بوست” أن أحد الأشخاص الذي عرف نفسه بأنه فلسطيني له علاقات قوية بالأمن المصري، أكد أنه على استعداد لاختصار وقت استخراج الموافقة الأمنية لساعات قليلة شرط دفع مبلغ 1000 دولار، لافتًا إلى أن هذا أقل سعر يمكن تقديمه، مراعاة لكونها سيدة وتعاني من بعض الأمراض، وإلا ستضطر للبقاء في السعودية أيامًا لا يمكن تحديدها.
لم تتوقع “أسماء” ما حدث، فالأمر بالنسبة لها كان مفاجئًا، مضيفة: “شعرت بالإهانة والابتزاز الدنيء”، إذ لم تنس ما حدث معها حين دخلت مصر بعد 6 أشهر من الحرب، حيث أجبرت على دفع قرابة 10 آلاف دولار هي وزوجها لشركة “هلا” المملوكة لرجل الأعمال المقرب إبراهيم العرجاني، من أجل وضع اسمها ضمن قوائم العابرين من رفح إلى الأراضي المصرية.
تعد الموافقات الأمنية أحدث حلقات مسلسل ابتزاز الفلسطينيين الراغبين في دخول مصر هربًا من جحيم حرب الإبادة، فيما يبدو وكأنه إصرار ممنهج على المضي قدمًا في مسار استثمار معاناة الشعب الفلسطيني وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب على وقع الأزمة الإنسانية التي يواجهها منذ قرابة عامين، وسط صمت رسمي ونفي دبلوماسي لا يُزيل رائحة الفضيحة التي زكمت أنوف عشرات الآلاف ممن سقطوا ضحية رخيصة لهذا الابتزاز.
1500 دولار ثمن الموافقة
منذ عام تقريبًا فرضت الحكومة المصرية قيودًا على دخول الوافدين من بعض الدول التي تشهد صراعات أو اضطرابات أمنية أو سياسية، كان من بينها سوريا والسودان واليمن وفلسطين، وكانت تشترط الحصول على موافقة أمنية كشرط لدخول أراضيها، كأحد الإجراءات الأمنية المتعارف عليها عالميًا.
ووفق المتعارف عليه يُفترض أن تُمنح تلك الموافقة مجانًا بعد تقديم البيانات المطلوبة ضمن إجراءات الحصول على التأشيرة في السفارات المصرية بالخارج، غير أنها قد تستغرق وقتًا طويلًا ربما يصل إلى ثلاثة أشهر، وهي المدة التي يراها فلسطينيون طويلة للغاية، وعليه كان البحث عن وسائل وأدوات لتقليل تلك المدة.
كان الحصول على تلك الموافقات محصورًا على من هم بين 18 – 40 عامًا من الذكور، لكن مع تطور الأحداث في القطاع وإطالة أمد الحرب، باتت تشمل الجميع: النساء والرجال، الأطفال والكبار، المرضى والأصحاء، وهو ما زاد من الوضع المتأزم وعمّق معاناة الفلسطينيين الفارين بحياتهم من ويلات الحرب.
في تلك الأجواء الملبدة، سعت بعض المكاتب والوسطاء، فلسطينيين ومصريين، لاستغلال تلك القيود ذات الشق الأمني البحت، لفرض رسوم على الفلسطينيين، بالتنسيق مع بعض الجهات الأمنية السيادية، لترتفع رسوم تلك الموافقات من 200 دولار قبل الحرب إلى نحو 1500 دولار اليوم، فيما تزيد عن ذلك في بعض الحالات.
وبحسب ما نشرته صفحة “متصدقش” على فيسبوك، وهي صفحة متخصصة في التحقيقات الاستقصائية، فإن متوسط كلفة الموافقة الأمنية وصل رسميًا إلى نحو 1500 دولار، وأنها تحولت من مجرد إجراء إداري أمني إلى “سبوبة” لتحقيق الأرباح وجني المكاسب من جيوب الفلسطينيين، دون أي مراعاة لظروفهم الإنسانية الكارثية.
واستندت المنصة إلى تلك النتيجة من خلال شهادات ضحايا تلك الموافقات من أبناء الشعب الفلسطيني. فهذا إيهاب عبدالعزيز أحمد، المواطن الفلسطيني المقيم في تركيا والذي توفي والده في مصر في يوليو/تموز الماضي، وحين أراد السفر للقاهرة لتوديعه وحضور جنازته فوجئ بضرورة الحصول على موافقة أمنية، غالبًا ما تُستخرج عبر وسطاء في غضون أيام قليلة مقابل مبالغ تصل إلى 1500 دولار، بينما تستغرق الطريقة الرسمية أشهرًا طويلة.
يقول إيهاب: “وجدت أن تكلفة التنسيق مع تكاليف السفر ستتجاوز ألفي دولار، وهو مبلغ لا أستطيع تحمّله. كان مؤلمًا جدًا ألا أحضر جنازة والدي، وألا أراه منذ غادر غزة إلى مصر”.
سماسرة الأزمة.. شراكة مصرية فلسطينية
العديد من الشركات والوسطاء يدّعون قدرتهم على توفير تلك الخدمات، أبرزها شركة “هلا” المملوكة لـ”العرجاني”، وشركة “حنيف للحج والعمرة” بالقاهرة، بالإضافة لشركات فلسطينية أخرى مثل شركة “مشتهي للسياحة والسفر”، التي لديها مقرات في غزة وتركيا، وشركة “رويال ستار” في القطاع.
شركة “هلا” رفعت أسعار خدمات الموافقات الأمنية من 200 دولار قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 800 دولار مع بداية الحرب، وفي أغسطس/آب الماضي أوقفت السلطات المصرية إصدار الموافقات بشكل كامل، ما أدى إلى منع دخول جميع الفلسطينيين الذكور من 18 إلى 40 عامًا. لكنها عادت مجددًا بعد 20 يومًا، لكن بأسعار مضاعفة وصلت إلى 1500 دولار.
شركة “رويال ستار” بغزة تقول إنها تستخرج الموافقة الأمنية من خلال التنسيق مع جهاز الأمن الوطني. وعن أسباب قفزات أسعار التنسيق، والتوقف ثم العودة، قالوا إن الجانب المصري هو من يحدد السعر وما هم إلا وسيط، فيما لم تحدد نسبة ما يحصلون عليه كوسيط لاستخراج الموافقة الأمنية، وما تحصل عليه الجهة التي ينسقون معها، مكتفين بالقول إن “الجانب المصري يحدد تكلفته”.
شركة “حنيف للحج والعمرة” بالقاهرة أوضحت في أحد مقاطعها الترويجية أنها قادرة على استخراج الموافقة في غضون 72 ساعة فقط، وذلك من خلال علاقاتها القوية مع بعض الجهات، لكنها اشترطت ألا يقل المبلغ عن 1500 دولار، ولها تجارب عدة في توفير تلك الموافقات لفلسطينيين مقيمين في بلدان الخليج.
شركة “مشتهي للسياحة والسفر” التي لها مكاتب في غزة وتركيا في أحد مقاطعها الترويجية، أوضحت آلية عملها: “يُرسل المتقدم بياناته الشخصية عبر نظام الشركة المعتمد، لتُنقل بعد ذلك إلى الجهات المختصة في مصر”، وخلال 72 ساعة تصل إليه برقية عبر “واتسآب” موثقة وجاهزة للاستخدام في السفر.
جميع تلك الشركات نسقت فيما بينها على أن يكون المبلغ 1500 دولار، وأن يتم تحويل المبلغ قبل التنفيذ، مع شرط أساسي بضرورة حجز تذكرة ذهاب وعودة على خطوط مصر للطيران، وإلا فلن يُسمح بدخول مطار القاهرة.
العرجاني.. فكرة لا تنتهي
يبدو أن العرجاني فكرة لا تموت، ومنهج لا يتوقف، واستراتيجية طويلة الأمد، مهما كان حجم الانتقادات ومستوى الهجوم. فبينما تتعالى الأصوات بالالتزام بالحد الأدنى من الإنسانية في تجنب استثمار معاناة الفلسطينيين لتحقيق الأرباح، إذ بالأمور تسير في ذات الاتجاه وربما بخطوات أسرع.
منذ اندلاع الحرب على غزة برز اسم شركة “هلا”، المملوكة لرجل الأعمال المصري العرجاني المعروف بلقب “سمسار المعبر”، بوصفها الجهة الأبرز التي احتكرت عملية عبور الفلسطينيين من معبر رفح إلى الأراضي المصرية. فقد فرضت الشركة مبالغ طائلة على كل من يسعى للنجاة بنفسه من أهوال حرب وُصفت على نطاق واسع بأنها إبادة جماعية، حصدت تعاطف الشعوب حول العالم، بينما غابت الأنظمة العربية وأذرعها عن هذا الموقف الإنساني.
خلال شهر واحد فقط حصلت شركة العرجاني على 88 مليون دولار من أهالي #غزة مقابل عمليات التهريب حسب صحيفة التايمز.
📌 يذكر أن شركة “هلا” التي يديرها العرجاني تحتكر عملية نقل الفلسطينيين من غزة إلى #مصر عبر معبر رفح تتقاضى 5000 دولار عن كل شخص بالغ و2500 دولار عن كل طفل تحت سن السادسة… pic.twitter.com/LFtoD6UuaJ
— نون بوست (@NoonPost) April 29, 2024
في مايو/أيار 2024، نشر موقع “ميدل إيست آي” تقريرًا كشف فيه أن الرسوم التي فرضها العرجاني على الفلسطينيين الراغبين في الخروج من غزة بلغت أكثر من 5 آلاف دولار للشخص البالغ، و2500 دولار للأطفال دون سن السادسة عشرة. وأوضح التقرير أن شركة “هلا” حققت خلال ثلاثة أشهر فقط (فبراير/شباط، مارس/آذار، أبريل/نيسان 2024) ما يقارب 118 مليون دولار، استنادًا إلى تحليل قوائم المسافرين التي نشرتها الشركة، والتي تضمنت أسماء حوالي 10,136 بالغًا و2,910 أطفال.
ووفقًا للتقرير ذاته، فقد بلغ متوسط إيرادات الشركة اليومية من قوائم “التنسيق” خلال أبريل حوالي مليوني دولار يوميًا، أي ما يعادل ضعف ما كانت تجنيه في مارس. وإذا استمر هذا المعدل حتى نهاية العام، فمن المتوقع أن تتجاوز أرباح “هلا” نصف مليار دولار.
كما أشار الموقع إلى أن عملية تنسيق الخروج لم تكن في البداية مركزية، إذ شارك فيها وسطاء كثر، ما رفع المبالغ التي كان الفلسطينيون يُجبرون على دفعها قبل فبراير/شباط إلى نحو 11 ألف دولار للشخص الواحد. لكن مع احتكار “هلا” للنشاط، توحدت الأسعار عند مستويات أقل، وإن بقيت باهظة.
وتجدر الإشارة إلى أن رسوم العبور عبر الشركة المصرية قبل الحرب لم تتجاوز 350 دولارًا للفرد. غير أن الأسعار قفزت بشكل حاد مع اندلاع الحرب، حتى وصلت إلى نحو 14 ضعفًا. واستنادًا إلى 23 قائمة مسافرين، قُدّرت أرباح “هلا” من الفلسطينيين بـ 21 مليون دولار في فبراير، 38.5 مليون دولار في مارس، و58 مليون دولار في أبريل.
إساءة وترسيخ للتناقض
الإصرار المصري على هذا المسار يطرح العديد من التساؤلات الحرجة التي تُسيء للدولة المصرية، ما بين رهن أمنها القومي نظير حفنة من الدولارات أو استغلال معاناة الفلسطينيين في تحقيق الأرباح والمكاسب عبر الابتزاز المخزي ما بين الدفع أو تعريض حياتهم للخطر داخل القطاع.
السؤال الأول: إذا كانت هناك علامات استفهام أو تخوفات على أسماء معينة من ارتكاب أي نشاط غير قانوني في مصر، فهل دفع مبلغ 1500 دولار هو المبرر لمنح تلك الشخصيات الموافقة الأمنية عبر الوسطاء واستغلال علاقاتهم بالجهات السيادية؟ هل ترهن الدولة المصرية أمنها القومي مقابل هذا الرقم الهزيل من الدولارات؟
السؤال الثاني: إن لم تكن هناك أي علامات استفهام، وأن الشخص الساعي للدخول إلى الأراضي المصرية مستوفٍ لكل الشروط الأمنية والإدارية، وكل ما يرنو إليه لم شمل الأسر أو العلاج أو حضور جنازة قريب أو الإقامة المؤقتة في مصر، فهل من الأخلاق فرض كل تلك الرسوم عليه في هذه الظروف الإنسانية الكارثية التي يعانيها؟
احتكار بوابة #غزة الوحيدة.. شركات إبراهيم #العرجاني المقرب من #السيسي تفرض إتاوات على المساعدات pic.twitter.com/jxLIl2nYEY
— نون بوست (@NoonPost) February 16, 2025
ما يحدث من سماسرة المعبر وتجار الموافقات الأمنية منذ بداية الحرب يضع الدولة المصرية في مرمى الإدانة الأخلاقية قبل الإنسانية والسياسية. وإن لم تكن الدولة مشاركة بشكل مباشر في تلك الفضيحة، فإن تركها لحفنة من رجال الأعمال ومسؤولي الأمن في الجهات النافذة لتدوير تلك المنظومة بهذا الشكل يجعلها شريكة في الجرم.
ومنذ اليوم الأول للحرب ترفع القاهرة شعارات الدعم للشعب الفلسطيني في تلك الحرب، وتقديم كل ما يمكن تقديمه لإنهاء معاناتهم، غير أن ما يُمارس على أرض الواقع يتناقض شكلًا ومضمونًا مع تلك التصريحات الرنانة التي تحولها تلك الممارسات إلى خطاب شعبوي مسكّن يُداري خلفه تواطؤًا مخزيًا، ليبقى هذا الملف – ابتزاز الفلسطينيين ماديًا – وصمة عار على كل من تورط فيه مهما كان موقعه أو نفوذه.
في المحصلة، تتكشف أمامنا صورة قاتمة لشبكة معقدة من السماسرة والوسطاء، المحليين والإقليميين، الذين حوّلوا معاناة الفلسطينيين إلى تجارة رابحة تحت لافتة “الموافقات الأمنية”. هذه الشبكة لم تكتفِ باستغلال جراح الهاربين من أتون الحرب، بل نجحت في ترسيخ آلية ابتزاز رسمية ـ غير معلنة ـ تضع حياة الناس وكرامتهم رهينة لأرقام بالدولار، بما يعكس خللًا أخلاقيًا عميقًا ويضع الدولة المصرية في موقع لا تُحسد عليه أمام الرأي العام العربي والدولي.
إن استمرار هذا النهج لا يهدد فقط صورة مصر ودورها التاريخي في القضية الفلسطينية، بل يكرّس ازدواجية فاضحة بين الخطاب الرسمي المتباهي بالدعم والمساندة، والواقع الميداني الملوث بالجباية والاستغلال. ولئن كان الفلسطينيون قد اعتادوا مواجهة الاحتلال وما يرافقه من حصار وقهر، فإن سقوطهم ضحية لاستغلال الأشقاء يضيف جرحًا آخر، ربما يكون أشد إيلامًا لأنه يأتي ممن يُفترض أنهم سند وعون. وفي النهاية، سيظل هذا الملف وصمة عار تطارد كل من ساهم في تحويل مآسي الأبرياء إلى “سبوبة” ومصدر ربح، مهما حاول التبرير أو التغطية.