مصر والخليج وإيران: تحالفات متناقضة تحت ضغط الأزمات

في التاسع من سبتمبر/أيلول الجاري، رعت القاهرة لقاءً أفضى إلى اتفاق بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن استئناف العمل في الملف النووي الإيراني، بما يفتح الباب أمام إعادة ترميم العلاقة بين الولايات المتحدة و”الترويكا” الأوروبية، ويقدّم مسارًا بديلًا عن خيار الحرب.

لقد كان أكثر ما يلفت النظر في ذلك الحدث هو استضافة القاهرة لاتفاق مصيري يتعلق بدولة لم تكن، حتى العام الماضي، تمتلك سفارة في القاهرة، ولا كانت للقاهرة سفارة في طهران. وإن كان لهذا أن يحدث، فلا بد أن وراءه حدثًا جللًا بحجم “السابع من أكتوبر”، الذي ترك ما بعده أثرًا عالميًا واسعًا.

ومن بين انعكاساته المباشرة ما ظهر على السياسة الخارجية لمصر في منطقة الخليج، التي باتت تتحرك بوتيرة أسرع من ذي قبل، وفي الوقت ذاته، ولكن هنا يثار التساؤل: هل جعلها هذا التسارع تسير على خيط رفيع قابل للانقطاع في أي لحظة، بالنظر إلى حجم التناقضات التي تجد القاهرة نفسها مضطرة للقفز فوقها أو تجاهلها في علاقاتها مع دول الخليج؟

صراع في اليمن، وعناق في كل لقاء

لقد ظلت قضية اليمن مرآةً تكشف نقاط الخلاف بين السعودية ومصر، فمنذ العام 2015، حينما أعلنت مصر اشتراكها في عملية “عاصفة الحزم” مع التحالف العربي الهادف للقضاء على جماعة “أنصار الله الحوثي”، أعلن الرئيس أن المشاركة المصرية ستقتصر على مشاركة جوية وبحرية بهدف تأمين مسارات التجارة في قناة السويس ومضيق باب المندب، وقد أكد الرئيس السيسي أنه في حال إرسال أية قوات أخرى “سيتم الإعلان عن ذلك”.

كانت مشاركة مصر بقوة برية على مدار السنوات الماضية هي نقطة الخلاف الدائم بين السعودية ومصر، حيث ظلت مصر دائمًا ما ترفض أن تزجّ بجنودها برِّيًّا في اليمن، تفاديًا لتكرار حرب الستينيات المريرة، وكانت السعودية تقابل ذلك بتململٍ يظهر في بعض الأحيان على شكل ما حدث مثلًا في عام 2017، حين أوقفت شركة أرامكو إرسال مشتقاتها النفطية التي اعتادت أن ترسلها لمصر، وظهر ذلك مرةً أخرى في مطلع عام 2023 في شكل تصريحات فاترة وحرب إعلامية ناعمة بين البلدين بسبب الموقف في اليمن مجددًا، كان أبرزها تصريح وزير المالية السعودي بأن بلاده غيّرت سياستها في تقديم المنح والمساعدات لدول الجوار، وأن ذلك سيخضع لشروط ومحددات جديدة.

ورغم ذلك، لم يتغيّر الموقف المصري من الدخول في حرب ضد الحوثيين في اليمن، بل وحتى في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، وبعد سنتين من تضرر الاقتصاد المصري بسبب الحرب في البحر الأحمر، ما زال النظام مصرًّا على أن جيشه لن يخوض حروبًا خارج حدود الوطن.

من ناحيةٍ أخرى، لم تكن تلك القضية بين مصر والسعودية سوى زوبعةٍ في فنجان، فلم تمنع السيسي من الارتماء في أحضان الملك سلمان في كل مقابلة، فلقد أثبتت السعودية حضورها كحليفٍ مُنقذٍ لنظام السيسي الذي يترنح بسبب الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فمن حيث الاستثمارات السعودية، فهي لم تنقطع، بل وصلت في عام 2023 ذاته إلى 2.4 مليار دولار، بزيادة 390% عن العام السابق له، بالإضافة إلى أن السعودية تُنعش خزينة المركزي المصري بودائع تصل إلى 11 مليار دولار، ما زالت تُحافظ للاقتصاد المصري على اتزانه.

ومنذ بداية عام 2025، كان هناك العديد من الاجتماعات بين مصر ورجال أعمال سعوديين للاستثمار في المجال الزراعي، وتوقيع اتفاقية لحماية الاستثمار بين البلدين قد تُسفر عن 15 مليار دولار من الاستثمارات.

محمد بن سلمان والسيسي في لقاء ودي بباريس

سفارة إيرانية في القاهرة

تجدّدت العلاقات المصرية الإيرانية بدايةً من عام 2021، على شكل اجتماعات سرية جمعت بين أجهزة مخابرات البلدين، وكان هناك لقاءٌ آخر في عام 2022 على هامش زيارة الرئيس السيسي إلى عمّان، التي حملت مهمة الوساطة مع العراق في إعادة العلاقة بين مصر وإيران إلى طبيعتها، وأكدت فيه القاهرة أنها لن تكون طرفًا في أي تحالفات تنشأ ضد إيران.

وبعد أن كانت القاهرة تخطو ببطء نحو إيران في السابق، سرّعت وتيرتها عقب الاتفاق السعودي الإيراني في بكين عام 2023، متجهةً نحو علاقة أكثر دفئًا وطبيعية مع طهران، حيث عُقدت لقاءات متكررة في بغداد بين مسؤولين من الجانبين لوضع أطر واضحة للعلاقة ورسم مساحات المصالح المشتركة وتسوية نقاط الخلاف، وقد ثمّن المرشد الإيراني علي خامنئي تلك الجهود، مرحّبًا بعودة العلاقات إلى طبيعتها مع مصر.

في الآونة الأخيرة بدا أن ما يجمع مصر وإيران يفوق ما يفرّقهما، إذ أصبحت العلاقة مع السعودية أكثر انفتاحًا وتفاهمًا من أي وقت مضى. وكان أبرز تجليات ذلك زيارة وزير الدفاع السعودي خالد بن سلطان إلى طهران في أبريل/نيسان الماضي، حاملًا رسالة من الملك سلمان إلى المرشد الأعلى علي خامنئي. تضمنت الرسالة قضايا مشتركة تتعلق بفلسطين، ودعوة إيران إلى المساهمة في تهدئة الأوضاع في البحر الأحمر عبر نفوذها على الحوثيين، إضافة إلى تأكيد دعم السعودية للمفاوضات الإيرانية الأمريكية بشأن الملف النووي، وهو تحول جوهري يناقض الموقف السعودي عام 2015، حين دفعت ضغوط الرياض إدارة أوباما إلى الاصطفاف على الأرض ذاتها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

من ناحيةٍ أخرى، تتمتع إيران بعلاقة قوية مع الصين وروسيا، وهما حليفان شديدا الأهمية لنظام السيسي، وقد زاد تقاربه معهما منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا ثم في غزة. وقد بدا واضحًا المدى الذي وصلت له العلاقة بين مصر وروسيا في اشتراك الجيش المصري في عرض يوم النصر، الذي حضره السيسي في موسكو في الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، ورفض مصر إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا منذ بداية الحرب، بل وقد ظهرت بعض التقارير تُفيد بوجود علاقة تجارية في مجال السلاح بين البلدين تجعل من مصر طرفًا غير مُحايد في الحرب الأوكرانية.

ومن ناحية أخرى، ليس خافيًا أن العلاقات المصرية الصينية بلغت ذروتها في عهد السيسي، وانعكست بشكل واضح في مجالات الاقتصاد والتعاون العسكري، وقد تجلّت حميمية هذه العلاقة في مشاركة وزير الصناعة المصري، كامل الوزير، في احتفالية الذكرى الثمانين لانتصار حرب المقاومة الشعبية الصينية، وكذلك في حضور رئيس الوزراء المصري القمة الأخيرة لمنظمة شنغهاي.

صورة جماعية للزعماء والمشاركين في قمة شنغهاي (رويترز)

من خلال جمع كل هذه المعطيات، يمكن فهم دوافع القاهرة في تسريع خطواتها نحو توطيد العلاقة مع طهران، فقد بدا أن النظام المصري يتبنى، بشكل متزايد، ما خرجت به قمة شنغهاي من دعوات إلى قيام نظام عالمي جديد ينهي أحادية القطبية ويحدّ من هيمنة الفيتو على قرارات الأمم المتحدة، وهو موقف انعكس في خطابات المندوب المصري أمام المنظمة الدولية أكثر من مرة. وربما يراهن النظام حاليًا على أن صياغة علاقة أوثق مع “الثالوث”؛ إيران والصين وروسيا، ستعود عليه بفوائد أكبر على مستويات متعددة، مقارنةً بعلاقاته مع الولايات المتحدة وإسرائيل التي كثيرًا ما تضعه في مواقف حرجة.

أما اقتصاديًا، فإن للتقارب المصري الإيراني وجوهًا براغماتية لا يمكن إغفالها، فمصر تحتاج إلى علاقة طبيعية مع إيران لأسباب استراتيجية ترتبط بقناة السويس ومضيق باب المندب، بوصفهما شريانين رئيسيين للتجارة البحرية العالمية، كما تبحث القاهرة، في الآونة الأخيرة، عن منافذ بديلة للحصول على الغاز، بعدما تحوّل الغاز الإسرائيلي إلى أداة ابتزاز وضغط سياسي عليها، تُوّجت مؤخرًا بتجميد نتنياهو صفقة الغاز مع مصر. وقد ظهر هذا التوجه بوضوح في الاتفاقيات التي أبرمتها القاهرة مع تركيا وقطر في مايو/أيار الماضي، ومن غير المستبعد أن تسعى مصر إلى إدراج إيران ضمن هذه المعادلة مستقبلًا، في إطار محاولتها إعادة تشكيل خريطتها الطاقية بعيدًا عن الضغوط الإسرائيلية.

تحالف غير قابل للكسر؟

تبدو العلاقة بين الإمارات ومصر مثاليةً على الدوام، بل إن البعض يُبالغ أحيانًا بوصف السيسي بأنه “تابعًا لابن زايد”، وأن مصر أضحت “مستعمرةً” إماراتية في عهده. ولكن هناك أمورًا تُكدّر صفو العلاقة بين البلدين بالتأكيد.

لقد مرّت العلاقة بين مصر والإمارات، منذ بداية عهد الرئيس السيسي، بمحطاتٍ خلافية. لا شك أن القاهرة دومًا ما نظرت بأعين الريبة تجاه الموقف الإماراتي من سد النهضة الإثيوبي، حيث تُعدّ الإمارات واحدةً من أكبر المستثمرين في السد، الذي افتتحته الحكومة الإثيوبية مؤخرًا، ويعتبره المصريون ونظام السيسي خطرًا رئيسيًا يُهدد الأمن المائي لمصر. ولكن، رغم خيبات أمل القاهرة في حليفها الوثيق بسبب بياناته الهزيلة في أزمة سد النهضة، التي تجلّت عام 2021، ظلّت العلاقة مستمرةً إلى جوار أزمة سد النهضة حتى الآن.

من لقاء جمع السيسي وولى عهد أبوظبي بقصر الوطن في مصر

لم تكن إثيوبيا وحدها نقطة المواجهة بين الإمارات ومصر، فمنذ أن اندلعت الحرب في السودان في أبريل/ نيسان من عام 2023، أصبح على نظام السيسي أن يواجه طموحات صديقه ابن زايد، الذي يدعم بشكلٍ صريح “الدعم السريع” بقيادة المتمرد حميدتي. في المقابل، اختارت مصر دعم الجيش وقائده “البرهان” دبلوماسيًا، وإذا أخذنا بكلمات حميدتي ذاته، فيبدو أن مصر قد دعمت البرهان عسكريًا كذلك، فلقد ادعى حميدتي أن الجيش المصري أمدّ الجيش السوداني بطائراتٍ صينية، وأن سلاح الطيران المصري ذاته قام بقصف العديد من المواقع لقوات الدعم السريع.

وفي الشهور الأخيرة، ظهر ذلك الصراع بين الإمارات وحكومة الجيش في السودان على السطح أخيرًا، حينما أعلنت السودان أنها تعتبر الإمارات دولةً معادية، وأعلنت الإمارات أنها لا تعترف بحكومة البرهان. وفي ذلك الموقف، كانت القاهرة تواجه معضلة أن دولتين صديقتين وحليفتين من أوثق الحلفاء لها، هما في نفس الوقت معاديتان لبعضهما البعض. ولكن السيسي اختار عدم التصعيد، وواصل السير على حبل سياسته الخارجية الرفيع، فلم يتراجع عن دعم البرهان، حيث يعتبر السودان حليفًا أساسيًا في قضية سد النهضة ضد إثيوبيا، وفي نفس الوقت لم تُعلّق مصر على الموقف الإماراتي، ولم تبدأ أي مساعٍ للوساطة في تسوية الخلاف بين البلدين.

وعلى جبهةٍ أخرى لا تبعد كثيرًا عن السودان، تحتاج الإمارات إلى الموقف المصري الداعم لحكومة خليفة حفتر في ليبيا. وحينما تجدّد الصراع في ليبيا مجددًا في مطلع شهر مايو/ أيار الماضي، أشار تقريرٌ مسرّبٌ إلى دور الإمارات في إذكاء الصراع المسلح مجددًا، وأن الإمارات أضمرت في نفسها موقف مصر في السودان، من أجل موقفهما الحليف الداعم لخليفة حفتر في ليبيا.

في خضم كل ذلك، يُطرح تساؤل مشروع: هل فقد الحليفان ثقتهما ببعضهما؟ عند التمعّن في المشهد الاقتصادي المصري، يظهر بوضوح أنه بمثابة “الصمغ” الذي يربط أطراف الصورة معًا، ما يجعل العلاقة بين الطرفين عصيّة على الكسر.

فالدعم الإماراتي للنظام المصري، خوفًا من بديلٍ إسلامي، لم يتوقف منذ عام 2013، ودون الخوض في أرقام وتفاصيل كثيرة، يبدو أن هناك موقفين مؤخرًا هما الأهم في هذا الصدد، فبينما زادت الضغوط الداخلية على نظام السيسي، تدخلت الإمارات في مطلع العام 2024 باستثماراتٍ في منطقة رأس الحكمة تصل إلى 150 مليار دولار، منها 35 مليارًا في شكل استثمار مباشر للحكومة المصرية، ما زالت تُبقي الاقتصاد المصري واقفًا على قدميه رغم أزمات الحروب والدولار حتى الآن.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by نون بوست | NoonPost (@noonpost)

وفي ذروة التباعد الحاصل بين موقف البلدين في السودان، عقد البلدان في مطلع مايو/ أيار 2025 صفقةً لموانئ أبو ظبي في منطقة قناة السويس، حيث حصلت على 20 مليون مترٍ مربع كحق انتفاع لمدة 50 عامًا، تحصل منهم الحكومة على نسبة 15% من الأرباح بشكلٍ سنوي. وفي مطلع سبتمبر/ أيلول الجاري، استحوذت الإمارات — ذات النسبة الأكبر، وشريكتها السعودية — على مساحاتٍ شاسعة تصل إلى 10 ملايين مترٍ مربع من أجل إقامة مشروع “مراسي ريد”، بصفقةٍ حصلت الحكومة المصرية في مقابلها على ما يقارب 20 مليار دولار، لا شك أنها في أمسّ الحاجة إليها.

ومن ناحيةٍ أخرى، لا يتوانى النظام المصري عن خوض حربٍ يومية بإمكانها أن تُقلقل أوضاعه داخليًا لتأثيراتها على المجتمع المصري، من أجل إرضاء شركائه المستثمرين في الخليج، ففي جزيرة الوراق، منذ خمسة أعوام، تقوم قوات وزارة الداخلية بشكلٍ يومي تقريبًا بأفعالٍ ومساعٍ تصل أحيانًا إلى حد الاشتباك العنيف بالرصاص المطاطي والقنابل المسيّلة، مع أهالي الجزيرة، من أجل إخلاء الجزيرة لصالح مستثمرين إماراتيين.

أهو مسار ناجع لمستقبل مصر؟

تُنسب إلى رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل مقولة شهيرة: “في السياسة، ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة”. على ضوء هذه المقولة، يمكننا أن نفهم بعضًا من تعقيدات علاقة مصر بجيرانها في الخليج؛ السعودية والإمارات، ومعها إيران التي دخلت مؤخرًا على الخط، فالنظام المصري يبدو وكأنه يتحرك برؤية تتجاوز منطق العداوات الدائمة، إذ أعاد وصل ما انقطع مع قطر وتركيا وإيران، وربما سوريا قريبًا. لكن الشق الآخر من هذه الرؤية يقوم على القفز فوق التناقضات أو تجاهلها، ما يجعل الكثير من تحالفات السياسة الخارجية المصرية في الخليج مهددة بالانهيار في أي لحظة تحت ضغط أزمة من الأزمات المؤجلة عمدًا، أشبه بفيل ضخم في غرفة صغيرة.

إذا نظرنا في كواليس العلاقة بين مصر والخليج في قضايا عدة سبق وأن فصلناها، سنجد أن شهر العسل، لم يخل أبدًا من المناوشات الزوجية، بل في الواقع يبدو الخلاف حاضرًا كسمة أساسية في علاقات مصر والسعودية والإمارات، وفي العموم لا يمكن تصور أي علاقة بين دولتيّن دون خلافات وتناقضات. لقد أثبتت التجربة أن مساحات الخلاف بين مصر ودول الخليج حتى الآن قابلة للتفاهم، وهناك بعض المشاكل يمكن مناورتها والتعايش معها، والناظر في التاريخ القريب سيجد أن علاقة مصر بالخليج باستعارة جملة أمين عثمان عن علاقة مصر ببريطانيا ومع اختلاف حالة الاستعمار والتبعية، باتت أشبه بـ”زواج كاثوليكي” ولو على المستوى الاقتصادي على الأقل.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل تكفي هذه الطبيعة القدرية للعلاقة كي تضمن لمصر على المدى الطويل تجنّب الصدام مع حلفائها وداعميها الرئيسيين؟

ستكون هناك العديد من القضايا التي ستفرض نفسها، وما نملكه حتى الآن لا يتعدى التخمين المستند إلى القراءات والمقارنات. فقضية بحجم “سد النهضة الإثيوبي” والموقف الإماراتي السلبي منها، ستعود لتطفو على السطح بقوة حين يبدأ المواطن المصري بالشعور المباشر بما يمس أمنه المائي، سواء عبر انقطاع المياه أو إجراءات ترشيد الاستهلاك، كما حدث سابقًا في أزمة الكهرباء و”تخفيف الأحمال”. عندها ستتحول القضية إلى قضية رأي عام، رغم أنها بالفعل كذلك، غير أن النظام المصري ما يزال حتى الآن يحتكر الحديث حولها بعيدًا عن أي ضغوط حقيقية من الشارع الذي لم يلمس آثارها المباشرة بعد.

وبالنسبة إلى حدود مصر الجنوبية، فإن الحرب في السودان، التي لا يمكنها أن تستمر إلى ما لا نهاية، إذا ما حُسمت لصالح الجيش، فلا شك أنها ستترك مرارة في حلق الإماراتيين، الداعمين لحميدتي، وسينظرون حينها في موقف أكبر حلفائهم، مصر، من تلك الحرب، إلا إذا كان هناك مسار آخر يتقبّلون فيه الهزيمة ويتأقلمون مع وضع جديد، تكون مصر من خلاله هي من يقودهم إلى علاقة متوازنة مع السودان.

لا يبدو الخلاف بشأن القضية الفلسطينية بين مصر ودول الخليج قد بلغ حدّ التنافر حتى الآن، فبالنسبة إلى “اليوم التالي في قطاع غزة”، وكما خلصت إليه قمة الجامعة العربية “غير العادية” في مارس/أذار الماضي، ما زالت السعودية ومصر متمسكتين بمبادرة الأمير فهد كحل دائم للقضية الفلسطينية.

والإمارات، رغم ما سرّبه أحد التقارير عن ضغوطٍ مارستها على إدارة ترامب لرفض الخطة المصرية ودفع السيسي نحو قبول التهجير، ظهرت في القمة بموقف رافض للتهجير، وأيّدت مع مصر والسعودية فكرة إسناد إدارة القطاع للتكنوقراط والحكومة الفلسطينية، مع إخلائه بالكامل من عناصر المقاومة. وقد تعزّز هذا التوافق خصوصًا في مؤتمر الدوحة الأخير الذي أعقب الهجوم الإسرائيلي على قطر، حيث بدت ملامح رؤية عربية مشتركة تتشكل إزاء الصراع في فلسطين.

لكن، إذا فُرض على مصر الدخول في مواجهة مسلحة مباشرة مع “إسرائيل” وحليفتها الولايات المتحدة، فسيتعيّن على دول الخليج تحديد موقعها من هذا الصراع، فالإمارات ترتبط بعلاقات تجارية كبرى وتطبيع شامل مع “إسرائيل”، في حين ترتبط كل من السعودية والإمارات معًا بعلاقة تكاد تكون أبدية مع واشنطن، تقوم على ميثاق غير رسمي عنوانه: “النفط والمال مقابل الحماية والبقاء”. من جانبها، تراهن مصر على إيران كحليف بديل محتمل في المنطقة عند اندلاع أي مواجهة مع “إسرائيل”، وهو رهان سيكون أكثر نفعًا إن جاء مكمّلًا لعلاقاتها التقليدية مع دول الخليج، لا بديلًا عنها.