زهران ممداني: قرن من مناهضة الصهيونية في نيويورك

ترجمة وتحرير: نون بوست
في إدانته لما وصفه بإبادة إسرائيل للفلسطينيين في غزة ومبادئها الصهيونية، وأثناء ترشحه لمنصب عمدة مدينة نيويورك، عبّر زهران ممداني عن رفضه لـ “أي دولة تقوم على تسلسل هرمي للمواطنة على أساس الدين أو أي معيار آخر”، مجسّدًا بذلك تقليدًا ثقافيًا متعدد الأصول في مدينة نيويورك يعود لأكثر من قرن. ففي أعقاب إعلان بلفور البريطاني عام 1917، والذي مهّد الطريق لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، أثارت الصهيونية جدلًا واسعًا ليس فقط بين مليون وستمئة ألف يهودي في نيويورك، بل أيضًا بين نحو خمسة آلاف من سكان المدينة من أصول شرق أوسطية ويتحدثون العربية. وقد برزت معارضة صارخة للصهيونية من كلا المجموعتين، اللتين كانتا في الغالب من المهاجرين، وعُبّر عنها بلغة لا تزال تحتفظ بصداها حتى اليوم.
وفي ذلك الوقت، تركز السكان الناطقون بالعربية في مدينة نيويورك حول قطبين رئيسيين: شارع واشنطن في مانهاتن، المعروف باسم “المستعمرة السورية“، ومنطقة “ساوث فيري” الواقعة في الطرف الغربي من شارع أتلانتيك في بروكلين. وكان يعيش ويعمل في هاتين المنطقتين مهاجرون ومواطنون أمريكيون من الجيل الأول قدموا مما كان يُعرف آنذاك بـ”سوريا العثمانية”، أي لبنان وسوريا والأردن وفلسطين/ إسرائيل اليوم. وقد دعمت هذه الجالية عددًا كبيرًا من الصحف والمجلات الناطقة بالعربية، إلى جانب شركات تسجيل متخصصة في التراث الموسيقي الشرق أوسطي، وكانت أيضًا موطنًا لرابطة القلم التي ضمت كتّابًا أمريكيين من أصل عربي، من بينهم شخصيات بارزة مثل الشاعر والفنان جبران خليل جبران والروائي والمفكر أمين الريحاني.
وأنتج هذه الحاضنة الفكرية في عام 1917 جمعية مناهضة الصهيونية في فلسطين، والتي عُرفت أحيانًا باسم “الرابطة الفلسطينية لمقاومة الصهيونية”. وكان أول رئيس لها الكاتب والمترجم نجيب أ. كتيبة، إلا أن المحرك الأساسي وراء تأسيسها يبدو أنه كان الطبيب فؤاد شطارة. ووُلد شطارة في فلسطين ووصل إلى مدينة نيويورك عام 1914، وكان يبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا، هاربًا من التجنيد الإجباري في الجيش العثماني. وتخرّج من كلية الطب بجامعة كولومبيا، وانضم إلى جمعية الجراحين النخبوية في نيويورك، كما عمل مدرسًا في كلية الطب بمستشفى لونغ آيلاند كوليدج، ثم في مستشفى كمبرلاند. وأسس شطارة لاحقًا جمعية النهضة الفلسطينية، وتولى رئاسة الرابطة الوطنية العربية في أمريكا.
في عامي 1918 و1919، شارك فؤاد شطارة في سلسلة من الفعاليات العامة التي عبّر فيها عن احتجاجه على فكرة استيلاء الصهاينة على فلسطين. وتحدث في فندق بوسيرت ومعبد الماسونيين في بروكلين، وفي اجتماع بمدينة برناردسفيل بولاية نيوجيرسي، إلى جانب شخصيات مثل نجيب كتيبة، وأمين الريحاني، وأستاذ جامعة كولومبيا فيليب حتي، الذي يُعتبر اليوم مؤسس الدراسات العربية في الولايات المتحدة. وجرت بعض هذه الفعاليات تحت رعاية جمعية مناهضة الصهيونية في فلسطين، بينما لم تُسجّل أخرى بهذا الاسم في الصحف الناطقة بالإنجليزية، التي نقلت مع ذلك مقتطفات من خطابات شطارة، ومنها قوله: “نحن نحتج على اغتصاب منازل وممتلكات شعب أضعفته قرون من البؤس والفقر… [ونحتج على] الاستيراد المصطنع للصهاينة الذين يغمرون البلاد.”
وقد أثارت تلك الفعاليات انتقادات واتهامات بمعاداة السامية، وهي الاتهامات التي ردّ عليها شطارة في رسالة وجّهها إلى صحيفة “بروكلين سيتيزن” في ديسمبر/ كانون الأول عام 1918، قائلًا: “لا يحمل السوريون أي مشاعر كراهية تجاه اليهود، بل على العكس، نحن نتعاطف تمامًا مع تطلعات اليهود حول العالم، ومع جهودهم لحل ما يُعرف بـ”المسألة اليهودية”. لكننا نرى أن منح فلسطين للصهاينة، بدلًا من أن يكون حلًا لتلك المسألة، سيؤدي إلى تفاقمها عبر إثارة النزاعات والخصومات في بلد لطالما كان بؤرة للخلافات الدينية، وهو بأمسّ الحاجة إلى السلام. وبما أن السوريين ليسوا بأي حال من الأحوال مسؤولين عن المسألة اليهودية، فلا ينبغي أن يُعاقبوا، في محاولة لحل تلك المسألة، بالتنازل عن فلسطين، وهي إحدى أقاليم سوريا”.
تأسست الجمعية الفلسطينية لمناهضة الصهيونية على الاعتقاد بأن الولايات المتحدة يجب أن تدافع عن حق تقرير المصير في فلسطين، بناءً على انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى في المنطقة. في عام 1920، حيث كان مقرها في 396 برودواي في شارع كانال، كانت الجمعية على اتصال بوزارة الخارجية الأمريكية، مطالبة الولايات المتحدة بالنظر في إمكانية أن تدمر الصهيونية سكان فلسطين: “الفلسطينيون في الداخل والخارج يتطلعون إلى الولايات المتحدة بوصفها مصدرًا للعدالة.”
وفي عام 1921، وبعد أن أعيدت تسميتها لتصبح “الرابطة الوطنية الفلسطينية”، اتخذت المنظمة مقرًا لها في قلب “المستعمرة السورية” عند 85 شارع واشنطن، ونشرت كتيبًا مؤثرًا بعنوان القضية ضد الصهيونية. وحرّر هذا الكتيب نجيب كتيبة، وكان حينها في التاسعة والعشرين من عمره، والذي وُلد في سوريا لعائلة مسلمة، وقدم إلى الولايات المتحدة للدراسة في جامعة هارفارد. لاحقًا، أصبح كتيبة مساهمًا دائمًا في صحيفة بروكلين ديلي إيجل، ومحررًا مشاركًا في مجلة العالم السوري، كما نال احترامًا دوليًا بصفته خبيرًا في السياسة الشرق أوسطية.
وفي صفحات هذا الكتيب التي تجاوزت الأربعين، تنبّأ كتيبة بارتفاع موجات معاداة السامية نتيجة للصهيونية، قائلاً: “إذا كان اليهود يبحثون عن وطن قومي يتيح لهم تطوير حياتهم وثقافتهم القومية دون عوائق، فإن فلسطين ليست المكان المناسب لهم. وإذا كانوا يفرّون إلى فلسطين هربًا من الاضطهاد ومعاداة السامية، فسوف يواجهون اضطهادًا أشد مرارة هناك، وستُبعث معاداة السامية من جديد في العالم بأسره، وتترسخ أكثر من أي وقت مضى. وهذا ما يتجلى أمام أعيننا بالفعل.”
أما أمين الريحاني، فقد كتب أيضًا تحذيرات حادة بشأن الدولة الصهيونية وجذورها الاستعمارية، قائلاً: “الصهيونية، وهي تتخذ من الانتداب البريطاني درعًا ومن المال سلاحًا، ليست سوى شكل آخر من أشكال الغزو”. وقد فضّل الريحاني تصور فلسطين متعددة الأعراق، تُدار من قبل “حكومة تمثيلية يتمتع فيها اليهود المقيمون في البلاد بحقوق متساوية مع العرب.”
وفي عام 1922، قدّم السيناتوران الجمهوريان هنري كابوت لودج من ولاية ماساتشوستس، وتشارلز كيرتس من ولاية كانساس، إلى جانب النائب هاميلتون فيش الابن من نيويورك، مشروع قرار لدعم إعلان بلفور. وكان الثلاثة معروفين بمواقفهم المناهضة للهجرة، ولم يُعتبروا حلفاء طبيعيين للفئات المهمّشة آنذاك، مثل اليهود الأمريكيين؛ إذ كان لودج معروفًا بعدائه للسامية، وأظهر فيش مؤشرات مشابهة. وقد دعت لجنتهم الطبيب فؤاد شطارة للإدلاء بشهادته حول ما قد ينجم عن تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود من مظالم محتملة. وأشار شطارة إلى أن نسبة اليهود في فلسطين كانت تقل عن 15 بالمائة، وأن فرض دولة يهودية على سكان المنطقة يتعارض مع مبدأ تقرير المصير الذي تبنّته عصبة الأمم.
وأدلى الحاخام إسحاق لاندمان، محرر صحيفة “الرسول العبري واليهودي” الأسبوعية، بشهادته أيضًا ووجّه انتقادات حادة للحركة الصهيونية، مؤكدًا أنها أقل شعبية بين اليهود الأمريكيين مما يُعتقد، وأنها مدفوعة إلى حد كبير من قبل النخب السياسية وأجنداتها الخاصة. واعتبر لاندمان أن الدولة الصهيونية ستخلق تراتبيات غير عادلة بين اليهود أنفسهم، وأن الصهيونية تُقصي “أولئك اليهود الذين يعارضون القومية اليهودية“. وأوضح أنه لا يعارض هجرة اليهود إلى فلسطين، بل يعارض تحويلها إلى دولة يهودية. وقد أثارت شهادته استياء بعض أعضاء جماعته الدينية في معبد إسرائيل بمنطقة فار روكاواي في كوينز، الواقع في 88 شارع بيتش 84، وحاولوا عزله من منصبه، لكنهم فشلوا، وهو ما يعكس مدى قبول آرائه لدى شريحة واسعة من المجتمع.
وكان لاندمان، وهو مهاجر أيضًا وضحية لسرقة الأراضي، قد وصل من روسيا إلى الولايات المتحدة عام 1890 وهو في العاشرة من عمره. وخلال مسيرة مهنية غريبة ومتنوعة، أسّس في عام 1911 مستعمرة زراعية تضم مئتي عائلة يهودية في مدينة كلاريون بولاية يوتا. وخلال الحرب العالمية الأولى، خدم كقسيس في الجيش الأمريكي في المكسيك وأوروبا. وكان مناهضًا شرسًا لمعاداة السامية، إذ تحدّى هنري فورد في مناظرات علنية، وندّد بجماعة كو كلوكس كلان، ما أكسبه لقب “الحاخام ذو القبضتين“، وربما اشتهر اليوم بتأليفه الموسوعة اليهودية العالمية.
وفي عام 1921، أنشأ إسحاق لاندمان منبرًا في صحيفة الرسول اليهودي والعبري لمناقشة خطط بريطانيا بشأن الانتداب الفلسطيني، ودعا مفكرين يهود بارزين للمشاركة، من بينهم الحاخام ستيفن وايز، المؤيد القوي للصهيونية، الذي رفض الدعوة. وقد مثّل لاندمان تيارًا واسعًا مناهضًا للصهيونية بين اليهود في نيويورك. وعندما عقد اتحاد الجماعات العبرية الأمريكية، وهو تجمع للكنس الإصلاحية، مؤتمره السنوي في فندق أستور في يناير/ كانون الأول 1923 واستمر أربعة أيام، امتنع عن ذكر الصهيونية تمامًا. كما قاومت منظمة المجلس الوطني لنساء اليهود، بقيادة روز برينر من بروكلين، ضغوطًا لدمج الصهيونية في نشاطها، من شخصيات مثل هنرييتا زولد ومنظمة هداسا. وكانت الروائية فاني هيرست، من نيويورك، من أبرز الأصوات اليهودية المعارضة للصهيونية، ووصفتها بأنها حركة “تفصلنا، وتبني الحواجز، وتخلق تحيزًا عنصريًا”. وقد أدرك هؤلاء القادة في المجتمع اليهودي بنيويورك التداعيات العنصرية لفكرة إنشاء دولة يهودية في أرض يسكنها غير اليهود بالفعل. ورأى لاندمان، على وجه الخصوص، أن التهديد الحقيقي لليهودية، سواء في الولايات المتحدة أو في العالم، لا يكمن في دعم اليهود لسيادة الفلسطينيين، بل في تفوّق العرق الأبيض الأمريكي، وهو ما لا يزال يشكّل محور التحذيرات التي يطلقها كل من لاندر وممداني حتى اليوم.
تُذكّرنا سيرة لاندمان، إلى جانب سِيَر شطارة وكتيبة والريحاني وغيرهم، بأن مناهضة الصهيونية في الولايات المتحدة كانت منذ زمن طويل جهدًا مشتركًا، حظي بدعم الجاليات المهاجرة من العرب والمسلمين واليهود، وألهم شخصيات ذات ضمير أخلاقي في نيويورك متعددة الثقافات وفي أماكن أخرى للاحتجاج. كما تُظهر هذه الشخصيات كيف يمكن للشتات، ولتداخل الإرث الثقافي، أن يُشكّل المواقف تجاه هذه القضية. وقد كتب الريحاني في عام 1921 موضحًا: “أنا سوري أولًا، لبناني ثانيًا، وماروني ثالثًا. وأفتخر بلغتي العربية وتراثي ومجد الإسلام. لكنني أؤمن بفصل الدين عن السياسة”.
واستند الريحاني إلى خلفيته الثقافية المتعددة في تصوّره لفلسطين كدولة متعددة الأعراق، تمامًا كما يستند زهران ممداني اليوم إلى سيرته الذاتية المركّبة. فهو مواطن مزدوج يحمل جنسيتي أوغندا والولايات المتحدة (مُجنّس)، وُلد لعائلة هندية عابرة للحدود تقيم حاليًا في نيويورك، ويعتنق الإسلام، ويقيم في حي كوينز، وقد قضى طفولته أولًا في مدينة كيب تاون ثم في حي مورنينغسايد هايتس. وقد عبّر ممداني عن معارضته لما وصفه بمجزرة إسرائيل بحق الفلسطينيين، وهي معارضة تتماشى مع موقف شريحة واسعة من سكان نيويورك. وتحدث عن كيف أن المدينة، بطابعها متعدد الأعراق، تُشكّل بطبيعتها حصنًا لمناهضة الإبادة الصهيونية، قائلاً: “لقد شعر سكان نيويورك بالخيانة من سياسات هذا البلد وهذه المدينة… وما يطالبون به هو تطبيق متساوٍ للإنسانية، بغض النظر عن هوية من يتعرض للهجوم.”
المصدر: موندويس