الاتفاقية البحرية بين تركيا وليبيا: لماذا تراها “إسرائيل” تهديدًا؟

في خريف 2019، وقّعت تركيا وحكومة الوفاق في طرابلس اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، اتفاق سرعان ما تحوّل إلى أحد أكثر الملفات إثارة للجدل في المنطقة. فالاتفاقية لا تقتصر على خطوط على الخريطة، بل تحمل أبعادًا استراتيجية تتصل مباشرة بمشاريع الطاقة الضخمة وخريطة النفوذ البحري. ومنذ ذلك الحين، ظلّت “إسرائيل” تراقب هذه الترتيبات عن كثب، معتبرة أن أي تغيير في قواعد اللعبة البحرية قد يعرقل خططها لمدّ أنابيب الغاز نحو أوروبا، ويفتح الباب أمام أنقرة لتكريس موقعها كقوة مقرِّرة في معادلة المتوسط.
في هذا المقال، نشرح بنود الاتفاقية وتأثيرها على مشاريع الغاز الإسرائيلي، ونوضح دوافع تركيا للإصرار على المضي فيها رغم الرفض الإقليمي، قبل أن نتوقف عند التحول الإسرائيلي من التحفظ إلى التعامل مع أنقرة كقوة معادية لمصالحها في شرق المتوسط.
الاتفاقية وتأثيرها على “إسرائيل”
تعود جذور الاتفاق إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2019 حين وقّعت تركيا وحكومة الوفاق الليبية اتفاقية لتحديد مناطق الصلاحية البحرية في شرق المتوسط. الاتفاقية أعادت رسم الحدود البحرية بين البلدين، بما يمنح أنقرة وطرابلس “منطقة اقتصادية خالصة” تمتد من السواحل التركية إلى الليبية.
فيما صادق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عام 2020 على الاتفاقية، استناداً إلى المادة 102 من ميثاق المنظمة الدولية. وقطعت هذه الخطوة الطريق على أي تفاهمات محتملة بين اليونان ومصر أو بين اليونان وقبرص اليونانية كانت ستعزل تركيا عن ثروات المتوسط. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت أنقرة تستند إلى هذه الصيغة باعتبارها أساسًا قانونيًا لمطالبها البحرية.
بعد ثلاث سنوات، جاء الاتفاق الثاني في أكتوبر/تشرين الأول 2022، تحت اسم “اتفاقية الهيدروكربون”، ليحوّل الترسيم القانوني إلى التزام عملي. فقد منح أنقرة صلاحيات للتنقيب عن النفط والغاز في المناطق البحرية التي حُددت في اتفاق 2019، إضافة إلى صلاحيات مماثلة في برّ ليبيا. وبذلك انتقلت تركيا من رسم الخرائط إلى مرحلة الاستثمار المباشر في الطاقة، في خطوة وصفتها بأنها دفاع عن “حقوقها السيادية ومصالحها” في شرق المتوسط.
تسعى اليونان، مدعومة بعدد من الدول الأوروبية، إلى منع السلطات الليبية من إحياء الاتفاق البحري مع تركيا، إذ قدّمت أثينا أواخر عام 2019 اعتراضًا رسميًا لدى الأمم المتحدة معتبرة أن الاتفاق ينتهك القانون الدولي، على أساس أن المناطق البحرية لتركيا وليبيا لا تتجاور ولا تربطهما حدود بحرية مباشرة. ويستند الموقف اليوناني بالدرجة الأولى إلى المخاوف من أن يؤدي تنفيذ الاتفاق إلى تقويض الجرف القاري لجزيرة كريت، وهو ما تعتبره أثينا مساسًا بحقوقها السيادية في شرق المتوسط.
من منظور إسرائيلي، يشكل هذا التطور تهديدًا مزدوجًا: فهو يعيد رسم خريطة النفوذ البحري بما يجعل مشروع خط أنابيب الغاز “EastMed” — المخطط لنقل الغاز من الحقول الإسرائيلية والقبرصية إلى أوروبا — موضع نزاع قانوني، كما يمنح أنقرة نفوذًا جديدًا يسمح لها بعرقلة أو تأخير أي مسار بديل يهدف إلى منافسة موقعها في معادلة الطاقة بالمتوسط.
أهمية الاتفاق لتركيا
تنظر أنقرة إلى الاتفاقية البحرية مع حكومة طرابلس كإحدى الركائز الاستراتيجية في سياستها بالبحر المتوسط. فقد أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن “الاتفاق البحري بين تركيا وليبيا يتماشى مع القانون الدولي، ولا يمكن لليونان وقبرص وإسرائيل التصرف دون إذننا”، بينما شددت الخارجية التركية على أن الاتفاقية شرعية ومتوافقة تمامًا مع قواعد القانون الدولي.
من الناحية الاقتصادية، يمنح الاتفاق تركيا فرصة لتعزيز التبادل التجاري مع ليبيا، والتوسع في مجال الطاقة والنفط الذي اكتسب أهمية مضاعفة مع الحرب الروسية–الأوكرانية، فضلًا عن ترسيخ حضورها الاقتصادي والسياسي في شمال إفريقيا. وهو ما يفتح لأنقرة نافذة جديدة نحو القارة الإفريقية بأكملها.
أما في بعدها الجيوسياسي، فالاتفاق يتيح لتركيا توسيع نطاق نفوذها في شرق المتوسط، وكسر العزلة المفروضة عليها عبر التحالفات الثلاثية بين اليونان وقبرص ومصر. كما أن الطابع التاريخي للتوتر مع اليونان يجعل الوجود التركي قبالة سواحلها عامل ضغط مستمر، لا سيما أن الاتفاقية تتضمن جانبًا أمنيًا يرفع من مستوى الاستنفار الإقليمي.
وفي البعد الاستراتيجي، تشكل الاتفاقية رسالة واضحة مفادها أن تركيا قادرة على فرض وقائع قانونية–دبلوماسية تحظى باعتراف الأمم المتحدة، بما يضمن لها دورًا أساسيًا في مستقبل مشاريع الطاقة شرق المتوسط. يعكس هذا الموقف تصريح وزير الدفاع التركي، خلال جلسة مغلقة للبرلمان في أكتوبر/تشرين الأول 2024، أن “إسرائيل باتت تشكّل تهديدًا مباشرًا لتركيا”.
كما أكدت صحيفة صباح التركية أن تركيا عازمة على حماية حقوقها القانونية في شرق البحر المتوسط، لأنه وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، تبلغ المياه الإقليمية لكل دولة 12 ميلاً بحريًا، فيما يُعدّ ساحل تركيا الأطول في شرق المتوسط، ما يجعله مرشحًا مثاليًا لاكتشاف الكنوز البحرية، ويُعزز موقف تركيا وحقها في حماية مواردها البحرية.
“إسرائيل” تغيّر نظرتها لتركيا
تنظر “إسرائيل” إلى الاتفاقية البحرية الموقعة بين أنقرة وطرابلس باعتبارها تهديدًا متناميًا لمصالحها في شرق المتوسط. إذ ترى في تحركات تركيا جزءًا من خطة أوسع للهيمنة على الموارد البحرية واحتياطيات الغاز، وفرض نفسها قوة ملاحية إقليمية قادرة على التأثير في مسارات الطاقة والملاحة.
تقارير إسرائيلية، من بينها تقييمات استخباراتية حديثة، أدرجت لأول مرة السياسة الإقليمية لأنقرة ضمن قائمة التحديات الرئيسية التي تواجه إسرائيل.
حيث زعم موقع “ناتسيف” العسكري أن الاتفاقية تعكس مسعى تركيًا للسيطرة على المياه المحيطة بها، بما يشمل احتياطيات الغاز ونقل الطاقة عبر خطوط الأنابيب، وكذلك التحكم في حركة السفن، وهو ما يضع “إسرائيل” أمام واقع إقليمي جديد معقد.
الكاتب الإسرائيلي يهوشاع كراسنا في موقع المونيتور أيضاً أوضح أن هذه الاتفاقية دفعت جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي إلى إدراج السياسة الإقليمية لأنقرة لأول مرة في تقييماته السنوية ضمن قائمة التحديات التي تواجه “إسرائيل”، ليس فقط في المجال السياسي بل في قطاع الطاقة أيضًا.
وشددت صحيفة “إسرائيل اليوم” على أن المياه الاقتصادية الإسرائيلية، التي تمتد 200 ميل بحري غرب سواحلها، حيوية لأمن واقتصاد “إسرائيل”، إذ تضم حقول الغاز الكبرى مثل “تمار” و”ليفياثان”، ومناطق صيد واسعة، وكابلات اتصالات دولية أساسية، فضلًا عن المسار المزمع لخط أنابيب “إيست ميد” الهادف إلى نقل الغاز إلى أوروبا عبر قبرص واليونان.
كما دعا إلداد بن أهارون، المحاضر في جامعة خرونينجن، أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، خصوصًا البحرية، إلى تكثيف جمع المعلومات عن القدرات التركية في البحار الثلاثة: المتوسط، إيجه، والأسود، مع تطوير عقائد قتالية جديدة استعدادًا لاحتمال وقوع اشتباكات مباشرة أو غير مباشرة مع البحرية التركية في مناطق النشاط الإسرائيلي.
وقد ربط البروفيسور شاؤول حوريف، القائد الأسبق لسلاح البحرية الإسرائيلي، الاتفاقية مع ليبيا بعملية تعزيز غير مسبوقة للبحرية التركية، معتبرًا أنها تهدد الميزة النوعية لـ “إسرائيل”. وأشار إلى إمكانية أن يمنع الأتراك مستقبلًا السفن الإسرائيلية من المرور في مناطق بحرية يزعمون السيادة عليها، وهو تحول خطير في قواعد اللعبة البحرية.
ورغم أن البحرية التركية كانت حليفًا وثيقًا لـ”إسرائيل” في الماضي، فإن الوضع تغيّر اليوم بشكل دراماتيكي. إذ حذر حوريف من أن “إسرائيل” تعاني من “عمى بحري”، في ظل تزايد أهمية البحر لاقتصادها، سواء في التجارة الدولية أو في حقول الغاز أو في محطات تحلية المياه المنتشرة على السواحل.
أضاف الجنرال عيران ليرمان، الباحث في معهد القدس للاستراتيجية والأمن (JISS)، بُعدًا آخر للمخاوف الإسرائيلية، حين ربط الاتفاقية بما سماه التوجهات “العثمانية الجديدة” للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مشيرًا إلى أن طموحاته تتجاوز ليبيا إلى بحر إيجه والجزر اليونانية، الأمر الذي يجعل “إسرائيل” أكثر تمسكًا بتعاونها الثلاثي مع اليونان وقبرص في مواجهة الدور التركي المتنامي.
رغم ما تثيره الاتفاقية البحرية بين أنقرة وطرابلس من جدل واسع وتداعيات إقليمية، فإنها لم تدخل بعد حيّز التنفيذ الكامل، إذ لم يصادق البرلمان الليبي عليها رسميًا. هذا الفراغ القانوني يمنح خصوم الاتفاقية مساحة للمناورة، ويجعلها ورقة رمزية جيوسياسية. وهي في حد ذاتها كافية لإعادة رسم معادلات شرق المتوسط، حيث تتحرك تركيا لفرض نفسها لاعبًا لا يمكن تجاوزه، فيما ترى “إسرائيل” في الاتفاقية تهديدًا لمشاريعها ومصالحها الاستراتيجية. بهذا الشكل تبدو المعركة على الغاز والحدود البحرية بين تركيا و”إسرائيل” مفتوحة على احتمالات طويلة الأمد.