هل تكسر قمة الدوحة إرث البيانات التقليدية؟

تستضيف الدوحة اليوم القمة العربية الإسلامية الطارئة في لحظة سياسية شديدة الحساسية، تضع الأمن القومي العربي برمته على المحك، إذ فرض العدوان الإسرائيلي المباشر على قطر واقعًا جديدًا يتجاوز حدود الصراع الفلسطيني، ويتطلب تعاطيًا مختلفًا مع المشهد بعيدًا عن المقاربات والحسابات الضيقة.
القمة هذه المرة، بعيدًا عن مستوى الحضور وحجمه رأسيًا وأفقيًا، لا تُعقد كاستحقاق بروتوكولي، بل كاستجابة ملحة لسابقة تاريخية تهدد بإعادة رسم خرائط النفوذ والأمن في المنطقة، فيما يبقى الرهان عليها في تشكيل نقطة تحول حقيقية تعيد الاعتبار للعمل العربي المشترك، أو تنزلق إلى تكرار تجارب سابقة لم تتجاوز حدود الخطاب وتتشبث بإرث البيانات التقليدية والشعارات المكررة.
التطورات الأخيرة، بداية من غزة مرورًا بلبنان وسوريا والعراق واليمن وصولًا إلى قطر، لم تترك مجالًا لمناورة سياسية أو التذرّع بالحياد، فالمسألة لم تعد اليوم فلسطينية محضة، بل باتت تمسّ سيادة كل دولة عربية، بما في ذلك دول الخليج التي طالما رأت نفسها بعيدة عن نيران الصراع، في ظل نزعةٍ إسرائيليةٍ متوحّشة للتوسّع واختبار حدود الصمت العربي، مدعومة بغطاء أميركي غير مسبوق في استخفافه بالمواقف العربية.
اختبار حرج يعتبره محللون الأخير أمام القرار العربي لترسيخ تموضعه الجديد على خارطة النفوذ الإقليمي، فإما أن يكون استهداف الدوحة آخر حلقات مسلسل العربدة الإسرائيلية أو أن تكون البداية نحو حلقات ممتدة، حينها لن تتوقف عند حاجز الدوحة، بل ستصبح العواصم العربية بلا استثناء ضمن بنك أهداف نتنياهو وجنرالات جيشه.
معضلة الثورية والإدانة.. واقعية مطلوبة
بشكل واقعي لا يُعول على تلك القمة في الخروج بقرارات ثورية تشفي غليل الشارع العربي المستشيط غضبًا في أعقاب الضربة الأخيرة وما تحمله من رسائل ورمزيات، خاصة بعد الإيغال في العربدة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة وارتكاب كافة أشكال الإجرام الإنساني من قتل وحرق وتجويع وتشريد ونزوح وانتهاك لآدمية مليوني إنسان كل جريمتهم التشبث بأرضهم ورفض مخططات التهجير.
فالمواطن العربي قبل الأجنبي لا يتوقع مطلقًا أن تخرج القمة بقرارات على شاكلة إلغاء اتفاقيات السلام الموقعة مع الاحتلال، وقطع العلاقات الدبلوماسية معه، ولا حتى معاقبة الدول الداعمة لتل أبيب بتجميد صفقات السلاح معها، ناهيك عن التلويح بسلاح النفط والغاز العربي الذي يلبي 40% من احتياجات العالم، كما حدث في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، هذا بخلاف أحلام تدشين ناتو عربي وإبرام اتفاقية دفاع عربي مشترك يتم تفعيلها عمليًا.
لكن في المقابل نفس المواطن لا ينتظر بطبيعة الحال أن تتمخض القمة فتلد فأرًا، بيانات شجب وإدانة، وتهديدات عنترية جوفاء لا خطط ولا برامج تنفيذ لها، كما حدث في القمم السابقة، خاصة بعدما وصلت العربدة الإسرائيلية في استباحة السيادة العربية إلى هذا الحد غير المسبوق، الذي يسمح لنتنياهو بأن يتجرأ ويعيد تهديده مرة أخرى باستهداف قيادة حماس في أي مكان كان، في إشارة لا تقبل التأويل المزدوج، بأن العرب كلهم في مرمى الاستهداف الإسرائيلي.
فالرأي العام العربي والإسلامي، لن يقبل بأي حال من الأحوال أن تخرج قمة الدوحة بمخرجات لا تسمن ولا تغني من جوع، باعتبار أنها الفرصة الأخيرة لإنقاذ المنطقة العربية من الاستباحة الصهيونية المجنونة، التي لا تردعها معاهدات “سلام” ولا تعهّدات أميركية، ولا أي مقاربات من أي نوع.
الاقتصاد.. السلاح الواقعي
بعيدًا عن ثنائية القرارات الثورية غير المتوقعة، ولغة الشجب غير المُرضية، تأتي لغة المال والمصالح لتفرض نفسها كأحد الأسلحة المعتبرة التي يمكن للقمة أن تحقق من خلالها ما لم تحققه بالتصعيد السياسي العسكري، فالمشاركون في القمة يملكون من أدوات الضغط الاقتصادية ما يمكنهم من تركيع تل أبيب ومن خلفها واشنطن إذا ما توفرت الإرادة السياسية.
تمتلك الدول العربية والإسلامية مقومات اقتصادية واستراتيجية ضخمة تؤهلها لتكون لاعبًا أساسيًا في رسم السياسات الدولية، فهي غنية بالموارد الطبيعية كالنفط والغاز، وتضم طاقة بشرية هائلة تمثل قوة ديموغرافية مؤثرة، فضلًا عن موقع جغرافي استثنائي يصل بين قارات العالم ويمنحها نفوذًا واسعًا على طرق التجارة وحركة الاقتصاد العالمي، ومع توحيد الرؤى والمصالح، يمكن لهذه القدرات أن تتحول إلى قوة ضغط كبرى في الساحة الدولية.
وأمام القمة خيارات عدة لتوظيف هذا السلاح بشكل فعال، منها قطع العلاقات التجارية والاستثمارية مع تل أبيب، وهي العلاقات التي تنامت منذ بداية الحرب مقارنة عما كانت عليه قبلها في تناقض فاضح، كذلك احتمالية اللجوء إلى ورقة إغلاق الموانئ العربية أمام السفن الإسرائيلية، منع مرورها في قناة السويس وباب المندب والخليج، وإغلاق الأجواء العربية أمام الطيران الإسرائيلي.
وفي ذات السياق، إعادة تفعيل مكتب مقاطعة “إسرائيل” التابع للجامعة العربية، وتوسيع صلاحياته لملاحقة الشركات العربية والأجنبية المتعاملة مع الاحتلال، وفضحها علنًا، مع فرض قيود على السياحة والعمالة العربية إلى “إسرائيل”، ومقاطعة منتجاتها في الأسواق، كذلك منع الشركات العالمية المستثمرة داخل الكيان من دخول أسواقها، ومنحها مهلة للاختيار بين الانسحاب من دولة الاحتلال أو مغادرة المنطقة، فضلًا عن التلويح بسحب الاستثمارات العربية من الدول الداعمة للعدوان.
أما على المستوى الدولي الثنائي، فهناك دول عربية تربطها علاقات اقتصادية لوجستية مع الكيان المحتل، ويمكنها إذا ما أرادت تفعيل هذا السلاح وتحقيق الأهداف المنشودة توظيف تلك الورقة لممارسة الضغط على تل أبيب، منها على سبيل المثال الإمارات التي أبرمت صفقات مليارية مع “إسرائيل”، والتي ستكون ضربة مؤلمة إذا ما جمدتها أو لوحت بإلغائها.
الوضع ذاته مع المغرب التي تشهد علاقاتها الاقتصادية مع الكيان تناميًا لافتًا خلال السنوات الأخيرة، ومصر المُبرمة للتو صفقة استيراد للغاز قيمتها 35 مليار دولار، والأردن التي تربطها علاقات قوية خاصة في مجال الطاقة والتجارة وصفقات استيراد الغاز الطبيعي، وكذا البحرين والسلطة الفلسطينية التي لديها صفقات غاز مع الاحتلال، بخلاف الصفقات المستترة مع بعض البلدان الخليجية كالسعودية والبحرين.
وعلى مستوى الدول الإسلامية فتملك هي الأخرى علاقات اقتصادية متصاعدة مع دولة الاحتلال يمكن أن تكون ورقة ضغط معتبرة إذا ما أحسن توظيفها، كتركيا على سبيل المثال التي يمكنها تفعيل قراراتها الأخيرة بقطع العلاقات التجارية بالكامل مع تل أبيب، ومنع مرور السفن الإسرائيلية من المرور في موانئها، أسوة بماليزيا التي لها السبق في هذا المجال حين أعلنت نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023 منع سفن الشحن التي ترفع العلم الإسرائيلي من الرسو في موانئها، وفرضت حظرًا على جميع السفن المملوكة لدولة الاحتلال والتي ترفع العلم الإسرائيلي.
خيارات بلا كلفة تنقصها الإرادة
بالتوازي مع الاقتصاد، هناك أسلحة أخرى يمكن للعرب والمسلمين اللجوء إليها لكبح جماح العربدة الإسرائيلية وفرض خطوط حمراء جديدة أمام شلال الانتهاكات الذي لا يتوقف، من بينها تدشين تحالف عربي إسلامي، وجبهة قانونية موحدة، لملاحقة الكيان دوليًا عبر محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية وأمام مجلس الأمن والأمم المتحدة.
ولعل أول خطوة في هذا المسار تتمثل في انضمام كل البلدان العربية والإسلامية لدعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، بجانب رفع دعوات أخرى مماثلة أمام الجنائية الدولية، في ظل ما تملكه كثير من تلك البلدان من ثقل سياسي ودبلوماسي قوي، مما يسهم ولو رمزيًا في تكريس عزلة الكيان دوليًا ونبذه أمام الرأي العام العالمي.
كما لابد وأن يبعث العرب برسالة سياسة مباشرة، تتمحور حول تجميد قطار التطبيع ولو مؤقتًا، واتخاذ إجراءات عملية في هذا المسار بعيدًا عن المقاربات التي طمأنت الكيان بألا كلفة من المتوقع أن يتحملها جراء انتهاكاته وعربدته التي تجاوزت – هكذا يفترض – كافة الخطوط الحمراء.
عسكريًا فليس من المقبول أخلاقيًا ولا المنطقي سياسيًا أن يكون هناك تعاون عسكري مع الكيان المحتل بعد كل تلك العربدة وضربه لكافة المقاربات عرض الحائط، وعليه فإن إخراج “إسرائيل” من نطاق القيادة المركزية الأمريكية (الوسطى) وإعادتها مجددًا لما كانت عليه سابقًا ضمن القيادة الأمريكية الأوروبية، بما يوقف كافة أشكال التعاون في المناورات العسكرية والدفاعية وخلافه، مسألة محورية ضمن أوراق الضغط المتاحة أمام العرب في مواجهة المحتل.
اللافت هنا أن تلك الأوراق لن تتطلب كلفة إضافية من البلدان العربية والإسلامية، فهي لا تنضوي على تحريك جيوش وتصعيد عسكري مقلق، ولا تحتمل الصدام مع الولايات المتحدة، بل هي في حقيقتها تندرج ضمن القانون الدولي والخيارات التي منحتها الأمم المتحدة للدول والشعوب لاتخاذها أوقات التوتر.
وفي ذات السياق فإن مثل تلك الخيارات بما فيها التصعيد الدبلوماسي لم تتجاوز ما اتخذته بعض الدول غير العربية والتي لم تكن القضية الفلسطينية قضيتها الأولى، مثل جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وإسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا التي لوحت بورقة العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية وجمدت بعض الاتفاقيات العسكرية مع تل أبيب.
فرصة تاريخية في ظرف استثنائي
على المشاركين في قمة الدوحة اليوم أن يستحضروا خلال نقاشاتهم أن هناك مدينة بأكملها – غزة – تُباد من فوق سطح الأرض، وأن شعبًا عن بكرة أبيه يتعرض لحرب إبادة مكتملة الأركان، وأن القدس بكل ما لها من رمزية تاريخية ودينية تواجه أخطر مخططات ابتلاعها وطمس هويتها على يد الاحتلال بمشاركة مباشرة وحضور رمزي من وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو.
فقبيل انعقاد القمة بساعات قليلة كان روبيو مرتديًا الطاقية اليهودية على غرار قادة اليمين المتطرف في “إسرائيل”، واقفًا عند حائط البراق برفقة نتنياهو وسفير بلاده في تل أبيب، ليؤدي طقوسًا يهودية، مؤكدًا على دعم أمريكا المطلق للكيان المحتل رغم كل الانتهاكات، في رسالة أقل ما يقال عنها إنها موجهة لقادة العرب والمسلمين المجتمعين على بعد 2100 كم في العاصمة القطرية.
كل تلك الأجواء والتحديات تجعل من قمة الدوحة فرصة تاريخية لتصحيح المسار العربي، بقرارات ومخرجات تحمل تشبثًا عربيًا بالبقاء في دائرة النفوذ الإقليمي، وتلجم عربدة نتنياهو وتفيقه من أحلامه الوهمية، فالقضية أكبر من غزة ومن قطر، فهي قضية أمة بأسرها، تحد وجودي يفرض نفسه، إما أن يفتح الفعل العربي المؤثر صفحة جديدة في تاريخه أو يكتفي بسجله المشين المليء ببيانات الشجب والإدانة، وهو ما يعتبر حينها ضوءًا أخضر لـ”إسرائيل” لمواصلة انتهاكاتها التي لن تتوقف بأي حال من الأحوال عند الدوحة.
إذا لم تُدرك الدول العربية والإسلامية، اليوم وليس الغد، أن “إسرائيل”، التي استقوت بالشلل والتواطؤ العربي، تمثل تهديدًا استراتيجيًا مباشرًا للمنطقة، بما فيها تلك الدول التي كانت تظن نفسها في مأمن من الاستهداف، وأن الولايات المتحدة لا يعنيها سوى ضمان تفوقها وحمايتها، فإن أي قمة أو خطابات قوية ستظل بلا جدوى ما لم تُترجم إلى رؤية مشتركة وعمل جماعي يواجه الاستباحة الإسرائيلية.
في الأخير..
تمثل قمة الدوحة اليوم لحظة تاريخية فارقة، إذ تواجه الدول العربية والإسلامية اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على ترجمة الشعارات إلى خطوات عملية تحمي السيادة وتحد من الاستباحة الإسرائيلية، فالاعتداءات المتتالية، من غزة إلى بيروت ودمشق وصنعاء وبغداد وصولًا إلى قطر، والتهويد الممنهج للقدس، تؤكد أن القضية تجاوزت حدود فلسطين لتصبح تهديدًا استراتيجيًا لكل الأمة العربية والإسلامية، ما يجعل من الوحدة والتنسيق العملي ضرورة ملحة لا تقبل التأجيل.
وعليه وبعيدًا عن القرارات العنترية التي لا يقوى العرب على تحمل كلفتها، يظل الاقتصاد والدبلوماسية الواقعية أبرز أدوات الضغط المتاحة، من قطع العلاقات التجارية والاستثمارية، إلى تفعيل آليات المقاطعة وملاحقة الشركات المتعاملة مع الاحتلال، مرورًا بتجميد التطبيع وإعادة النظر في التعاون العسكري مع الكيان المحتل، فالفرصة اليوم سانحة لتصحيح المسار العربي وإثبات جدوى العمل المشترك، وإلا ستظل القمم مجرد شعارات وبيانات لا تغير من واقع الاستباحة الإسرائيلية شيئًا، تاركة الساحة العربية أسيرة للابتزاز والهيمنة.