أسعار مضاعفة وإمكانات محدودة.. أي مستقبل للنفط السوري؟

في مشهدٍ يختلط فيه التصدير بالاستيراد، والوفرة الظاهرة بالعجز المستتر، أعلنت الحكومة السورية تصدير 600 ألف برميل من النفط الثقيل عبر ميناء طرطوس، في أول صفقة تصديرية رسمية منذ أكثر من 14 عامًا. في وقتٍ لا يبعد كثيرًا عن مناقصة جديدة أعلنتها لاستيراد نحو 7 ملايين برميل من النفط الخام.
هذا التزامن بين استيراد كميات ضخمة من الوقود وبدء عمليات التصدير يثير تساؤلات اقتصادية عميقة حول طبيعة السياسة النفطية في البلاد، وجدوى هذه التحركات في ظل أزمة طاقة مستمرة، وبنية تحتية متهالكة، وضغوط إقليمية ودولية متزايدة على سوق الطاقة.
كيف يمكن تفسير هذا التداخل بين الاستيراد والتصدير في نفس الوقت؟ وهل هذه الخطوة مجرد مناورات تجارية لتأمين الحد الأدنى من الاحتياجات؟ وهل التصدير خطوة اقتصادية مدروسة أم أنها رسالة سياسية موجهة للخارج؟ وهل تمتلك سوريا فعلاً القدرة على التكرير والتخزين والتوزيع بما يبرر هذا التناقض؟
ثم، الأهم: هل يتم تصدير النفط على حساب تلبية احتياجات السوق المحلي؟ وماذا عن أسعار المشتقات النفطية في سوريا مقارنة مع دول العالم والجوار؟
في هذا التقرير، نحاول إلقاء الضوء على هذا التناقض، عبر تحليل دقيق للبيانات الرسمية، واستعراض آراء الخبراء، لفهم ما إذا كانت سوريا تعيش تحوّلاً نفطياً حقيقياً، أم أنها مجرد أسلوب آخر لإدارة ملف المشتقات النفطية؟ وقبل أن نغوص في تناقضات التصدير والاستيراد وحل لغزها، لا بد من العودة إلى جذور قطاع النفط السوري، الذي كان يومًا ما أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، ثم تحوّل إلى ساحة صراع ونزيف مستمر.
ما قبل الحرب (حتى 2011)
بلغ إنتاج سوريا من النفط الخام نحو 385 ألف برميل يوميًا عام 2010، بعد أن وصلت الذروة في التسعينات إلى 600–677 ألف برميل يوميًا، وكانت البلاد تُصدر ما يقارب 150 ألف برميل يوميًا، خاصة إلى أوروبا (إيطاليا وفرنسا)، بينما كانت تستهلك الباقي محليًا، مما وفر اكتفاءً ذاتيًا وعائدات مستقرة بالقطع الأجنبي.
شكّل النفط نحو 25–30% من الناتج المحلي الإجمالي، وكان مصدراً رئيسيًا لتمويل الموازنة العامة، أما بالنسبة للغاز، فقد بلغ إنتاجه نحو 30 مليون متر مكعب يوميًا، يُستخدم لتوليد الكهرباء والصناعة، مع فائض للتصدير، وعلى رغم العقوبات الأمريكية منذ 2004، حافظ القطاع على استقراره النسبي بفضل عقود مع شركات أجنبية مثل “توتال” و”شل”، إلا أن ضعف الاستثمار والتقنيات كان له دور بالتراجع التدريجي.
أثناء الحرب (2011–2018)
مع اندلاع الثورة، فقدت حكومة نظام الأسد السيطرة على معظم الحقول النفطية، خاصة في دير الزور والرقة والحسكة، تبدلت السيطرة على الحقول تباعًا، حيث سيطر تنظيم “داعش” على الحقول الكبرى بين 2014 و 2017، وبدأ ببيع النفط في السوق السوداء بأسعار تراوحت بين 15–25 دولارًا للبرميل.
وقدّر إنتاج داعش حينها بنحو 40–50 ألف برميل يوميًا، يُهرّب إلى العديد من الدول منها العراق وحتى مناطق النظام المخلوع عبر وسطاء.
توقفت عمليات التصدير الرسمية تمامًا، وتعرضت البنية التحتية للقصف، ما أدى إلى تدمير المصافي وخطوط النقل، مما أسفر عن انهيار شبه كامل للقطاع الرسمي.
كيف سدت سوريا النقص؟
لجأت حكومة النظام المخلوع إلى الاستيراد المباشر من الحلفاء، وعلى رأسهم إيران، التي أصبحت المزود الرئيسي للنفط الخام والمشتقات النفطية.
تم توقيع اتفاقيات توريد طويلة الأجل مع طهران، شملت إرسال ناقلات نفط إلى ميناء بانياس، بمعدل شحنات شهرية أو نصف شهرية، حيث كانت إيران تُغطي ما يصل إلى 40% من احتياجات سوريا النفطية خلال سنوات الحرب، أي ما يعادل نحو 140 ألف برميل يوميًا من أصل حاجة تُقدّر بـ 350–400 ألف برميل يوميًا.
حاجة سوريا اليومية من المشتقات النفطية كانت تُقدّر بـ:
– نحو 2.5 مليون طن مازوت سنويًا
– نحو 2 مليون طن بنزين سنويًا
كان الاستيراد من إيران يغطي ما بين 100–140 ألف برميل يوميًا، موزعة بين النفط الخام والمشتقات، وتشير بعض التقديرات إلى أن سوريا استوردت خلال عام 2017 وحده أكثر من 50 ناقلة نفط إيرانية، بمتوسط حمولة 1–2 مليون برميل لكل ناقلة.
ما بين (2019–2025)
استعادت حكومة النظام السيطرة على بعض الحقول في وسط وجنوب البلاد، لكن الإنتاج بقي محدودًا عند 20 ألف برميل يوميًا فقط، وفي المقابل، تُنتج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة نحو 80 ألف برميل يوميًا من الحقول الواقعة في منطقة الجزيرة السورية، مثل العمر والرميلان والسويدية.
أما إنتاج الغاز في مناطق النظام المخلوع، بلغ 12.5 مليون متر مكعب يوميًا، يُخصص منه 20% للقطاع الصناعي، والباقي لتوليد الكهرباء.
بعد تحرير سوريا في ديسمبر/كانون الأول 2024، يمكن القول بأن البلاد دخلت مرحلة اتسمت بواقع اقتصادي هش، إذ إن البنية التحتية مدمرة جزئيًا، وقطاع الطاقة يعاني من تآكل مزمن، رغم امتلاك البلاد احتياطات نفطية ضخمة.
المفارقة التي برزت سريعًا كانت إعلان الحكومة الجديدة عن أول عملية تصدير رسمية للنفط منذ 14 عامًا، بالتزامن مع طرح مناقصات ضخمة لاستيراد النفط الخام. هذا التزامن أثار تساؤلات جوهرية حول طبيعة المرحلة الجديدة وجدوى هذه التحركات المتناقضة.
فائض غير قابل للتكرير
للإجابة عن التساؤلات المطروحة، ذكر الخبير في اقتصادات الطاقة الدكتور زياد عربش لـ”نون بوست”، أن سوريا صدّرت 600 ألف برميل من النفط الخام الثقيل عبر مصب ميناء طرطوس، في أول عملية تصدير رسمية منذ نحو 14 عامًا. تمت هذه الشحنة عبر الناقلة “Nissos Christiana” لصالح شركة “بي سيرف إنرجي” العالمية، المرتبطة بشركة “بي.بي إنرجي”، ووجهتها المحتملة كانت اليونان، بقيمة تقديرية بلغت نحو 36 مليون دولار.
وأوضح عربش أن هذه الكمية تمثل فائضًا من النفط الخام الثقيل الذي لا تستوعبه مصفاة حمص، وتم تصديره بعد استقرار الاحتياطي من المشتقات النفطية. ورغم أن هذه الخطوة اعتُبرت رمزية بعد سنوات من التوقف نتيجة الحرب والعقوبات، إلا أن عربش شدد على أنها لا تمثل بداية تعافٍ حقيقي، بل هي تصدير لنوعية نفط غير قابلة للتكرير مجددًا، وتُعد زائدة عن حاجة السوق السورية.
وبيّن أن مصفاتي حمص وبانياس تعتمدان على نفط ممزوج بنسب ونوعيات محددة، وتذهب مخرجاتهما للسوق المحلية، بينما يُصدّر الفائض فقط إن وُجد، لا سيما من المواد الثقيلة.
بين الحاجة اليومية والإنتاج المحلي
ووفقًا لتقديرات سبتمبر 2025، فإن سوريا تحتاج إلى ما بين 180 و200 ألف برميل يوميًا من مشتقات الطاقة، ما يفرض استيراد الخام وتكريره، بالإضافة إلى استيراد المشتقات، خاصة المازوت وكميات متزايدة من البنزين، نتيجة ارتفاع عدد السيارات وتنامي حركة النقل بعد تراجع الحواجز الأمنية.
قبل عام 2011، كانت سوريا تنتج نحو 380 ألف برميل يوميًا، وتستهلك 250 ألفًا، حيث كانت تُكرر 220 ألفًا وتصدر الفائض من بعض المشتقات، بينما كانت تستورد المازوت والبنزين لتغطية الطلب الداخلي. أما اليوم، فإن الإنتاج المحلي من المنطقة الوسطى وما يُمرر من مناطق سيطرة “قسد” لا يتجاوز 15% من الحاجة، رغم وجود فائض إنتاج في تلك المناطق.
أما في قطاع الغاز، فلا يتجاوز الإنتاج المحلي 30% من الحاجة، أي نحو 6 ملايين متر مكعب يوميًا، بينما تصل توريدات الغاز الأذري إلى 3.3 مليون متر مكعب يوميًا، في حين تحتاج سوريا إلى ما بين 20 و22 مليون متر مكعب يوميًا لتشغيل محطات التوليد والمعامل الصناعية. ويزداد الطلب على الطاقة نتيجة ارتفاع الاستهلاك المنزلي وقطاع النقل، وعودة جزء كبير من النازحين.
شروط استعادة القدرة التصديرية
يؤكد الخبير عربش أن استعادة سوريا لمكانتها في تصدير النفط ومشتقاته لن تكون ممكنة قبل خمس سنوات على الأقل، بشرطين أساسيين: استعادة الحقول والآبار في مناطق “قسد”، وعودة الشركات النفطية الدولية للعمل في سوريا، سواء تلك التي كانت موجودة قبل الحرب أو شركات جديدة.
ويعتبر النفط أحد أبرز عنق الزجاجة في ملف إعادة الإعمار على عدة مستويات:
– حتى مع استقرار الطلب، تدفع سوريا شهريًا ما بين 100 و120 مليون دولار لاستيراد النفط الخام ومشتقاته، إضافة إلى الغاز، الذي يُمول حاليًا من صندوق التنمية القطري عبر توريدات من أذربيجان تمر بالشبكة التركية ثم السورية.
– لا تقتصر أهمية النفط على فاتورة الاستيراد المرتفعة، بل تمتد إلى توليد الكهرباء (رغم أن الغاز أكثر كفاءة)، وتأمين مشتقات الطاقة كمادة احتراقية وأولية. يُستخرج من النفط أكثر من 500 منتج، بينما تنتج مصفاتي حمص وبانياس عددًا محدودًا منها، مثل الكيروسين والغاز والمقطران والبنزين والمازوت والفيول.
– عند استعادة القدرة الإنتاجية لما قبل 2011، يمكن لسوريا من خلال تصدير الفائض تمويل استيراد مستلزمات الإنتاج الصناعي من مشتقات الطاقة، مثل الأسمدة والبتروكيماويات والزيوت والبلاستيك والدهانات، ما يساهم في تحريك عجلة الصناعة.
– لا يمكن اعتبار تصدير النفط مؤشراً على الانتعاش قبل تحقيق تكامل بين السياسة النفطية والغازية وبقية مكونات السياسة الاقتصادية الكلية. إذ لا بد من وقف الهدر غير العقلاني، وتحديث منظومات الطاقة الفرعية، وتسريع مشاريع الطاقات المتجددة، واعتماد تسعير اقتصادي-اجتماعي عادل
في المقابل، يرى المهندس منصور طه، الذي شغل سابقًا منصبًا في وزارة النفط ومكتب تخطيط النفط، أن إنتاج النفط الخام في سوريا حاليًا لا يغطي سوى جزء صغير من الاحتياجات، ما يفرض استيراد المشتقات النفطية وفقًا للحاجة الشهرية أو السنوية، كما يمكن في الوقت الراهن استيراد النفط الخام نفسه.
وأشار في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن سوريا تحتاج إلى نحو 150 ألف برميل يوميًا من النفط الخام لتشغيل مصفاتي حمص وبانياس، مؤكدًا أن عملية التصدير التي جرت مؤخرًا كانت لنفط خام ثقيل. ويُعد الخام السوري من أجود أنواع الخام في العالم من الناحية الاقتصادية، وبالتالي يمكن لسوريا تصدير الخام الثقيل نظراً لارتفاع سعره، وتستورد الخام الخفيف لتلبية احتياجاتها.
ورأى طه أن تصدير النفط في هذه المرحلة يُعد خطوة اقتصادية أولًا، ويمكن أن يُنظر إليه في بعض الحالات كخطوة سياسية أيضًا. كما شدد على أن قطاع النفط في سوريا يحتاج إلى تأهيل أنابيب نقل النفط الخام، لتجاوز الاعتماد على الصهاريج، بما يحقق جدوى اقتصادية أعلى، إلى جانب ضرورة تأهيل المصافي النفطية في البلاد لضمان كفاءة التشغيل وتحقيق الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة.
ضعف السعر العالمي
أسعار المشتقات النفطية في سوريا تعتبر مرتفعة مقارنةً بالأسعار العالمية. حيث بلغ سعر ليتر البنزين وفق نشرة “بلاتس” العالمية نحو 0.55 دولار، أي ما يعادل أقل من 6000 ليرة سورية، بينما تم تسعيره محليًا في سوريا بـ 1.1 دولار، أي حوالي 12600 ليرة سورية، وهو ما يعادل ضعف السعر العالمي تقريبًا.
وبالمقارنة مع دول الإقليم فإن أسعار المشتقات النفطية في سوريا تكشف عن خلل واضح في آلية التسعير المحلي، حيث يُباع البنزين في السوق السورية بسعر يفوق ضعفي السعر العالمي، ويتجاوز أسعار دول الجوار رغم الفوارق في الدخل ومستوى الدعم. هذه المفارقة لا يمكن فصلها عن تعقيدات الاستيراد، وتكاليف النقل، وغياب الإنتاج المحلي الكافي، لكنها في الوقت ذاته تطرح تساؤلات جوهرية حول عدالة التسعير وجدوى السياسات الطاقوية الراهنة.
وفي ظل ضعف القدرة الشرائية للمواطن، وغياب منظومة دعم فعالة، تصبح المشتقات النفطية عبئاً يومياً يفاقم الأزمة المعيشية، ويعكس هشاشة البنية الاقتصادية. كما إن إعادة النظر في آليات التسعير، وربطها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي، لم تعد خياراً، بل ضرورة ملحّة ضمن أي خطة إصلاح طاقوي شاملة.
نهاية القول.. رغم رمزية تصدير أول شحنة نفط خام من سوريا منذ أكثر من عقد، فإن الواقع الطاقوي والاقتصادي يكشف عن فجوة عميقة بين الإمكانات الحالية والاحتياجات الفعلية. فالتصدير لا يعكس تعافياً، بل يعبّر عن فائض غير قابل للتكرير، أو قد يكون فعلاً سعره مرتفع كونه من أجود الأنواع كما قيل. ولكن في وقتٍ تستورد فيه البلاد معظم حاجتها من المشتقات النفطية بأسعار تفوق المعدلات العالمية، ما يثقل كاهل الاقتصاد المحلي ويزيد من هشاشة الأمن الطاقوي.
لذا فإن استعادة سوريا لدورها كمصدر للطاقة لا يمكن أن تتحقق إلا عبر إعادة هيكلة شاملة للقطاع النفطي والغازي، تشمل تأهيل البنية التحتية، واستعادة الحقول والآبار، وعودة الشركات الدولية، إلى جانب تكامل السياسات الاقتصادية الكلية، وتبني تسعير عادل يراعي الواقع الاجتماعي. فبدون هذه الخطوات، سيبقى النفط ملفاً معلقاً بين فائض لا يُستثمر، واستيراد لا يُحتمل