لماذا تصر “إسرائيل” على ضم غور الأردن؟

لا يكاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يُفوّت مناسبة دون أن يعيد طرح ملف ضم غور الأردن إلى “إسرائيل”، مقدّمًا إياه باعتباره “الجبهة الشرقية” لها، إذ لم يعد يُنظر إليها كمنطقة حدودية مع الأردن فحسب، بل كجزء أساسي من مشروع توسيع السيطرة الإسرائيلية وقطع الطريق أمام قيام دولة فلسطينية، وهو ما تعتبره عمّان تهديدًا مباشرًا لأمنها وتجاوزًا لمعاهدة السلام المبرمة بين الطرفين.
تكرار نتنياهو الحديث عن ضم الغور يؤكد أن السيطرة العسكرية والسيادية على هذه المنطقة تقع في صلب أولويات حكومته، ففي خطابه السياسي يركز دائمًا على البعد الأمني والهيمنة الاستراتيجية، مستندًا إلى خرائط ومبررات عسكرية ليبرر فرض السيادة الإسرائيلية عليها، فما هو غور الأردن؟
منطقة الأغوار
تمتد منطقة الأغوار وشمال البحر الميت بمحاذاة الحدود الأردنية، وتشكل نحو 30% من مساحة الضفة الغربية، ويقطنها غالبية من الفلسطينيين. وتُعد من أهم المناطق الاستراتيجية، إذ تتوزع إداريًا بين الأغوار الشمالية في محافظة طوباس، والأغوار الوسطى في محافظة نابلس، والأغوار الجنوبية في محافظة أريحا. ورغم أهميتها هذه، يفرض الاحتلال الإسرائيلي سيطرته الكاملة عليها.
تنتشر في المنطقة 37 مستوطنة إسرائيلية، وقد عمل الاحتلال على عزلها عن بقية الضفة بإقامة حواجز عسكرية وسواتر ترابية وخنادق، فارضًا قيودًا صارمة على حركة الفلسطينيين، ما حرم عشرات المزارعين من الوصول إلى أراضيهم وأدى إلى تهجير متواصل يهدف إلى تفريغ الأغوار وتعزيز الاستيطان.
تكمن أهمية الغور الاستراتيجية في كونه خطًا فاصلًا جغرافيًا وديموغرافيًا بين الأردن والضفة، ما يقطع أي تواصل بري بينهما، ويشكّل حاجزًا أمام أي تحرك عسكري محتمل من الشرق، كما يمنح السيطرة على الغور ميزة دفاعية لحماية قلب “إسرائيل” الديموغرافي والاقتصادي، إذ لا يبعد سوى 30 كيلومترًا عن القدس.
لكن الأهمية لا تقتصر على البعد الأمني؛ فالأغوار تضم ثالث أكبر خزان مائي في الضفة، وأراضيها الزراعية الخصبة تمثل نحو 38% من مساحة المنطقة، ما يجعلها ثروة استراتيجية. وتشير التقديرات إلى أن استغلال “إسرائيل” لموارد الأغوار حقق لها مئات ملايين الدولارات سنويًا، فضلًا عن دورها الحيوي في تأمين المياه والزراعة.
ولتثبيت حضورها، حولت “إسرائيل” أكثر من نصف مساحة الأغوار إلى مناطق عسكرية مغلقة تضم أكثر من 90 موقعًا عسكريًا، وجعلت البناء والزراعة شبه مستحيلة. ومنذ عام 1967 هجرت أكثر من خمسين ألف فلسطيني، فيما هدمت بين 2006 و2017 نحو 700 وحدة سكنية، بقيت نتيجتها آلاف العائلات بلا مأوى. واليوم، يواصل الفلسطينيون الباقون في الأغوار صمودهم في وجه سياسات الاحتلال التي تسعى لاقتلاعهم من أرضهم.
الخطط الأمنيّة والسياسيّة الإسرائيليّة
خطة ضم غور الأردن لم تكن وليدة اللحظة، بل جاءت ضمن استراتيجية إسرائيلية متكاملة عُرفت باسم “خطة آلون” التي طرحها يغآل ألون في يوليو/تموز 1967 عقب حرب حزيران، تضمنت إعادة الضفة الغربية إلى الأردن مع استثناء غور الأردن والقدس و”غوش عتصيون”، معتبرة أن هذه المناطق يجب أن تبقى تحت السيادة الإسرائيلية الدائمة. ورأى ألون أن الحدود يجب أن تكون قابلة للدفاع عبر الاعتماد على تضاريس طبيعية تشكل حاجزًا أمام أي هجوم بري، مع تثبيتها سياسيًا بإنشاء مستوطنات، وهو ما سارعت “إسرائيل” لتطبيقه.
خلال السبعينيات، تصاعد النشاط الاستيطاني في الغور، وأُنشئت مستوطنات على طول قاعه ومنحدراته الغربية، إلى جانب شق “طريق ألون” الذي حدد عمليًا الحدود الغربية لمنطقة الاستيطان وفصلها عن القرى الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين ترسخت في العقلية الإسرائيلية قناعة بأن السيطرة على الغور ضرورة أمنية لا غنى عنها.
لاحقًا، تعزز هذا التصور بمشاريع إضافية؛ ففي عام 1994، شدد الخبير الأمني يوسي ألفر على ضرورة إبقاء قدرات عسكرية إسرائيلية في الضفة، خصوصًا في الأغوار، مع محطات إنذار مبكر على الجبال وسيطرة جوية. أما رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون، فطرح مشروعًا يقضي بإقامة دولة فلسطينية على 42% فقط من الضفة، مع إبقاء القدس “الموحدة” عاصمة لـ”إسرائيل”، وإسقاط حق العودة، والأهم إخضاع غور الأردن للسيادة الإسرائيلية الكاملة.
مشروع شارون نص على إقامة حزامين أمنيين؛ غربي بمحاذاة الخط الأخضر، وشرقي يشمل غور الأردن، يربط بينهما بشبكة طرق استراتيجية تضمن السيطرة العسكرية الكاملة وتحول الغور إلى جدار دفاعي متقدم في مواجهة الشرق العربي، وبذلك أصبح الغور رمزًا للأمن الإسرائيلي وخطًا دفاعيًا أساسيًا في كل مشروع سياسي أو عسكري منذ الستينيات حتى اليوم.
ويؤكد هذا الطرح ما ذهب إليه البروفيسور إفرايم عنبار، رئيس معهد القدس للاستراتيجية والأمن، إذ يرى أن السيطرة على معابر الأغوار تمنع غزو “إسرائيل”، وأن القول بعدم الحاجة إليها كحدود شرقية يتجاهل احتمالات الاضطرابات الإقليمية، مثل تقويض استقرار الأردن والسعودية أو عودة سوريا إلى “المعسكر الراديكالي”، فضلًا عن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة بما يتيح حرية أوسع للقوى الإسلامية المناهضة لـ”إسرائيل” وحلفاء الغرب، بحسب قوله.
تطوّر الخطاب الأمني الإسرائيليّ
خلال العقود الأخيرة، تطوّر الخطاب الإسرائيلي بشأن غور الأردن من كونه قضية عسكرية بحتة إلى ملف سياسي محوري، يربط بين الأمن القومي وضرورة ضمه تحت السيادة الإسرائيلية، وهو ما تعزّز مع صعود أحزاب اليمين وتنامي نفوذ المستوطنين، كما كرّس بنيامين نتنياهو هذا الربط في خطاباته الانتخابية وبيانات حكومته، بينما تناولته مراكز بحث إسرائيلية مثل INSS وJCPA باعتباره إما ضرورة دفاعية أو ورقة تفاوضية استراتيجية.
ورغم توقيع معاهدة وادي عربة عام 1994، التي اعترفت بالحدود الدولية بين “إسرائيل” والأردن، فإن الغور بقي ملفًا مفتوحًا سياسيًا وأمنيًا، إذ واصلت عمان التحذير من أي محاولة إسرائيلية لتكريس وجود دائم فيه.
ومنذ 2012، أكد نتنياهو مرارًا أن “إسرائيل” لن تنسحب من غور الأردن في أي تسوية مستقبلية، وهو ما شكّل تحولًا من مجرد وجود عسكري مؤقت إلى موقف استراتيجي ثابت. ومع الذكرى الخمسين لحرب 1967، شدد على بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية على الأراضي غرب الغور “بغض النظر عن الاتفاقات”.
في 2019، خلال حملته الانتخابية، أعلن نيته فرض السيادة على الغور وشمال البحر الميت فور فوزه، وهي المرة الأولى التي يُطرح فيها الملف بوضوح في أجندة انتخابية. وفي 2020، ومع طرح خطط ضم بدعم إدارة ترامب، حذّر الملك عبدالله الثاني من أن مثل هذه الخطوات ستؤدي إلى صراع كبير وتهدد معاهدة وادي عربة.
لاحقًا، واصلت “إسرائيل” سياسة “الضم الزاحف”، فصادقت في يوليو 2024 على أكبر عملية مصادرة أراضٍ في الضفة منذ عقود (12.7 كم² في الغور)، وفي أغسطس 2025 كشفت تقارير إسرائيلية عن نية نتنياهو طرح خطة سيادة جزئية تقتصر على الغور كخيار “أقل إثارة للجدل” من الضم الكامل.
الكنيست يصوت لصالح قرار فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وغور الأردن. pic.twitter.com/gLiViQwNf1
— نون بوست (@NoonPost) July 23, 2025
كيف تستشعر عمّان التهديد؟
في عام 2019 رفض وزير الخارجية وشؤون المغتربين الأردني أيمن الصفدي إعلان نتنياهو حول ضم غور الأردن، واعتبره خرقًا فاضحًا للقانون الدولي وتوظيفًا انتخابيًا سيكون ثمنه قتل العملية السلمية وتقويض حق المنطقة وشعوبها في تحقيق السلام، داعيًا المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته وإدانة التمسك بالشرعية الدولية وقراراتها والعمل على إطلاق جهد حقيقي فاعل لحل “الصراع” على أساس حل الدولتين.
وردًا على هذه التهديدات، نفّذ الجيش الأردني مناورات عسكرية عُرفت باسم “سيوف الكرامة”، تحاكي سيناريوهات التصدي لغزو محتمل، في إشارة واضحة إلى التهديدات الإسرائيلية. كما ترى عمّان في أي محاولة ضم تهديدًا للأمن الإقليمي ولاتفاقية السلام وللوضع القانوني والوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية في القدس، وسبق أن حذرت من أن مثل هذه الخطوات قد تُشرّع لخيارات إقليمية أكثر تعقيدًا أو حتى توتّر مباشر.