اليمن العالق بين نيران الداخل وأطماع الخارج

يشهد الملف اليمني منذ اندلاع حرب غزة تحولات لافتة على المستويين الإقليمي والدولي، حيث انعكست تداعيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على جهود التسوية السياسية في اليمن، وأثرت بشكل مباشر على مسار السلام الذي كان يترنح أصلاً بفعل عوامل داخلية وإقليمية متشابكة، فاليمن، الذي غرق منذ عام 2014 في صراع متعدد الأبعاد، لم يعد يُنظر إليه كساحة نزاع محلية فحسب، بل بات جزءاً من شبكة أوسع من الحسابات السياسية، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى مع توازنات القوى الإقليمية في الشرق الأوسط.

ومع تصاعد الأحداث في غزة، تحولت الأولويات الدولية والإقليمية نحو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ما أدى إلى تراجع الاهتمام بالملف اليمني وتخفيف الضغوط على الأطراف المحلية للمضي قدماً في عملية السلام، ما انعكس بدوره على ضعف التغطية الدولية والضغط السياسي الفاعل على مختلف الفاعلين اليمنيين، الأمر الذي سمح لبعض الجماعات المسلحة بتوسيع نفوذها وتعزيز حضورها الداخلي والخارجي.

في هذا السياق، يشير المركز المصري للدراسات السياسية والإقليمية إلى أن غياب مشروع وطني جامع، وضعف قدرة أي إطار سياسي برعاية الأمم المتحدة على فرض التنفيذ، يجعلان فرص الوصول إلى تسوية شاملة محدودة للغاية، خاصة مع انخراط جماعة الحوثي في صراعات خارج الحدود واستغلالها المستجدات الإقليمية لتعزيز موقعها محلياً وإقليمياً. 

ويرى المركز أن الأزمة اليمنية أضحت مرهونة بتشابكات إقليمية، إذ تحولت جماعة الحوثي إلى لاعب إقليمي مؤثر عبر البحر الأحمر، بينما انشغل المجتمع الدولي بإدارة تداعيات الصراع في غزة وحماية المصالح الاقتصادية المرتبطة بالممرات البحرية، أكثر من انخراطه الجاد في البحث عن حلول حقيقية للأزمة اليمنية.

بين صراع الداخل وتوترات الخارج

خلال سنوات عمله في اليمن، حرص المبعوث الأممي الخاص، هانز غروندبرغ، على متابعة الملف اليمني، محاولاً التوسط بين الأطراف اليمنية المختلفة والداعمين الإقليميين والدوليين، في مسعى لإحلال تهدئة دائمة ودفع العملية السياسية نحو تسوية شاملة، ومع ذلك وعلى الرغم من الجهود المستمرة، تبدو المعوقات التي تواجه العملية السياسية أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، كما كشف عنه غروندبرغ في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي، والتي جاءت محملة بتحذيرات حادة وملاحظات متشائمة حول مستقبل الأزمة.

قدم المبعوث الأممي قراءة دقيقة للوضع الراهن، مؤكداً أن الاستقرار في اليمن لا يمكن فصله عن الديناميكيات الإقليمية الأشمل، واصفاً الصراع بـ”خط صدع” تتسرب ارتداداته إلى خارج حدود البلاد ويتضخم بفعل التنافس الإقليمي على النفوذ. 

وأوضح أن استمرار الحرب في غزة قد ألقى بثقله على الملف اليمني، إذ أدى التصعيد المتبادل بين الحوثيين و”إسرائيل” إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار، مع تكثيف الحوثيين لهجماتهم بالطائرات المسيرة والصواريخ على العمق الإسرائيلي، في حين ردت “إسرائيل” بسلسلة غارات جوية استهدفت صنعاء ومناطق أخرى خاضعة لسيطرة الحوثيين، مخلفة عشرات القتلى من بينهم شخصيات كانت على اتصال مباشر بمكتبه.

وشدد غروندبرغ على أن التركيز الضيق على التنافس الإقليمي وحده يعني تهميش أصوات اليمنيين وإغفال احتياجاتهم وتطلعاتهم الحقيقية، محذراً من أن استمرار هذا النهج يبعد البلاد أكثر عن أي مسار للتسوية السياسية ويؤجل إمكانية تحقيق سلام دائم وتنمية اقتصادية مستدامة.

ومع اتساع دائرة التوترات الإقليمية وتصاعد التدخلات الدولية في الصراعات المجاورة، يظل اليمن نقطة محورية تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى، ويصبح صراع الداخل مرآة للتنافس الإقليمي.

في هذا السياق، يرى الباحث في العلاقات الدولية عادل المسني أن المشهد اليمني بلغ درجة عالية من التعقيد بفعل تسارع التطورات الإقليمية. وأوضح أن التصعيد الإسرائيلي المتكرر ضد مواقع الحوثيين وسّع دائرة التوتر في المنطقة، وجعل اليمن جزءاً لا يتجزأ من حسابات القوى الكبرى.

وأشار المسني في حديثه لـ”نون بوست” أن موازين القوى الإقليمية تعيش تغيراً سريعاً، خصوصاً بعد أن صنّفت القمة العربية والإسلامية الأخيرة “إسرائيل” عدواً، في تحول واضح عن سياسات بعض دول الخليج التي كانت تنظر إليها سابقاً بوصفها “صديقاً معتدلاً”. 

وأضاف أن التطورات في البحر الأحمر، إلى جانب التدخل المتزايد للقوى الكبرى مثل الصين وروسيا، والخطاب التصعيدي للحوثيين، جميعها عوامل تزيد من تعقيد المشهد وتضع العراقيل أمام أي تسوية سياسية ممكنة.

واختتم المسني بالقول إن الأزمة اليمنية أضحت مفتوحة على كل السيناريوهات، في ظل غياب مؤشرات جدية على حسم عسكري أو تسوية سياسية قريبة، وهو ما يعكس هشاشة الملف اليمني أمام المتغيرات الإقليمية والدولية.

من “طوفان الأقصى” إلى البحر الأحمر

خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد أحداث “طوفان الأقصى” عام 2023، أخذت الأزمة اليمنية مساراً مختلفاً عن الفترات السابقة، إذ لم تعد تقتصر على كونها نزاعاً داخلياً بين أطراف يمنية متصارعة، بل صارت جزءاً لا يتجزأ من الحسابات الإقليمية والدولية، فقد أدى تحول الاهتمام الدولي نحو صراعات أخرى أكثر إلحاحاً في المنطقة إلى تراجع الأولوية التي كانت تُمنح لليمن على أجندات القوى الكبرى، وهو ما أسفر عن ترك مساحات أوسع لبعض الأطراف المسلحة لتعزيز نفوذها، سواء داخلياً ضمن المناطق التي تسيطر عليها، أو إقليمياً عبر استغلال التوترات والتغيرات السياسية في المنطقة.

في هذا الإطار، برز الحوثيون بشكل واضح كلاعب إقليمي على طول سواحل البحر الأحمر، مستفيدين من تصاعد التوترات الإقليمية لتعزيز مواقعهم ومضاعفة شعبيتهم على المستويين الداخلي والخارجي. وفي الوقت ذاته، اتخذت السعودية مساراً وسيطاً بين الأطراف المختلفة، محاولًة لعب دور الوسيط الإقليمي بدل الانخراط المباشر في الصراع، فيما ركزت الولايات المتحدة على إدارة الأزمة بطريقة تضمن حماية مصالحها وأمن “إسرائيل”، دون الانخراط الكامل في فرض حلول سياسية مستقلة للأزمة اليمنية.

أما الحكومة الشرعية اليمنية، فقد بقيت محدودة القدرة على فرض سيطرتها أو حلولها، سواء على الأرض أو على مستوى السياسة، مما جعل الأزمة اليمنية مرتبطة بشكل أكبر بالتقلبات الإقليمية والتحولات الدولية، وبعيداً عن مصالح الشعب اليمني الحقيقية ومستقبله المرجو، وسط هشاشة في القدرة على التوصل إلى أي تسوية سياسية مستقرة أو حلول مستدامة.

وفي هذا السياق، أوضح الكاتب والباحث عبد الستار سيف الشميري في حديثه لـ”نون بوست ” أن المشهد الممتد من غزة إلى اليمن يعكس حالة استنزاف متبادل بين المشروع الإيراني و”إسرائيل” والولايات المتحدة، حيث تحولت الساحة اليمنية إلى منصة مواجهة إضافية ضمن صراع النفوذ الإقليمي.

وأشار الشميري إلى أن الحوثيين استغلوا ضعف فعالية الهجمات الإسرائيلية والأمريكية على مواقعهم لتحسين موقعهم السياسي داخلياً وخارجياً، فيما تُركت القضية الفلسطينية لتهميش دولي متزايد سمح لـ”إسرائيل” بالتحكم بمسارها. وأضاف أن الاجتماع الدولي الأخير في السعودية بشأن حماية الملاحة في البحر الأحمر، يعكس أن الأولوية العالمية باتت تتركز على تأمين التجارة الدولية وحماية الممرات البحرية، بدلاً من الدفع باتجاه تسوية سياسية شاملة في اليمن.

ورغم ذلك، يرى الشميري أن الوضع الداخلي في اليمن لا يزال مستقراً نسبياً، إذ تحافظ الحكومة الشرعية على مواقعها، فيما تواجه جماعة الحوثي ضغوطاً خارجية قد تؤثر على قوتها مستقبلاً، لكن دون وجود أي أفق واضح لحل سياسي أو عسكري قريب.

اليمن في الهامش

بينما ينشغل الفاعلون السياسيون والإقليميون بحسابات النفوذ وتبادل الرسائل عبر البحر الأحمر وغزة، يظل المواطن اليمني هو الخاسر الأكبر من هذا التهميش، فالأزمة بالنسبة لليمنيين لم تعد مجرد ملف سياسي، بل معاناة يومية ممتدة لم تحظ بالاهتمام الدولي المطلوب، حيث  يلفت الناشط  منصور الشدادي أن الأزمة اليمنية تعاني من تهميش واضح إقليمياً ودولياً، مشيراً إلى أن الإعلام العالمي والدعم الإنساني لم يوفرا الاهتمام المطلوب سواء قبل حرب غزة أو بعدها.

وأوضح الشدادي لـ”نون بوست ” أن اليمن، منذ اندلاع الحرب في 2014، لم يحظ بتغطية عادلة لآلام شعبه، إذ نادراً ما تتناول وسائل الإعلام العالمية حجم المعاناة الإنسانية هناك. ويعود ذلك – بحسبه – إلى بعد اليمن عن مصالح القوى الكبرى، وإلى ضعف اللوبي اليمني في الخارج الذي كان يمكن أن يُسهم في تسليط الضوء على المأساة الإنسانية والسياسية.

وأضاف أن حرب غزة فاقمت من هذا التهميش، إذ هيمنت التطورات الإقليمية على اهتمام الإعلام والرأي العام، ما أدى إلى تقليص التغطية المتعلقة باليمن، رغم استمرار المجاعة وانقطاع الرواتب وتراجع الدعم الإنساني. وخلص إلى أن هذا التراجع في الاهتمام انعكس سلباً على حياة ملايين اليمنيين، حيث باتت الاستجابات الدولية محدودة للغاية، وتعمّقت معاناتهم اليومية، لتغدو اليمن قضية منسية على الصعيد الدولي، لا يُعاد التذكير بها إلا في سياق مصالح الدول الكبرى لا في إطار إنساني يعكس واقع الشعب اليمني.

إذن، يقف اليمن في موقع هش، تُدار أزمته وفق مصالح القوى الكبرى، بينما يتحمّل المدنيون الكلفة الباهظة للجمود السياسي والتوترات المتصاعدة، والمشهد الراهن يعكس هشاشة المسارات السياسية، وتراجع الاهتمام الدولي، واستغلال الجماعات المسلحة لهذه الفراغات لتعزيز حضورها محليًا وإقليميًا. وفي ظل استمرار هذه الديناميكيات، يظل السؤال مفتوحًا: هل يعود اليمن إلى صدارة الأولويات الدولية ليجد شعبه طريقًا نحو سلام مستدام وتنمية حقيقية، أم أن الصراع سيظل بلا أفق، يجسّد مأساة يومية لشعب أنهكته أكثر من عشرة أعوام من الحرب والمعاناة؟