كيف مهّد “فك الارتباط” عن غزة الطريق للإبادة الجماعية؟

ترجمة وتحرير: نون بوست
في أغسطس/ آب 2005، عندما نفّذت إسرائيل خطة فك الارتباط أحادي الجانب في غزة، شكّلت تلك الخطوة صدمة قوية لحركة الاستيطان. تضمنت الخطة إزالة 21 مستوطنة في قطاع غزة، بالإضافة إلى أربع مستوطنات أخرى في شمال الضفة الغربية، مع إعادة توطين نحو 9,000 مستوطن. شهدت البلاد آنذاك أجواء توحي بأن لحظة حاسمة قد حانت: كان رئيس الوزراء اليميني أرييل شارون، هو من أمر بسحب الجيش الإسرائيلي والمستوطنات غير القانونية من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
بعد مرور عشرين عامًا، يمكن فهم الطريقة التي نفّذت بها إسرائيل انسحابها من مستوطنات غزة – والرواية التي تبنّتها لاحقًا لتفسير تداعياته – على أنها نقطة تحول حاسمة في انهيار نموذج حل الدولتين. كانت تلك الخطوة أيضا تمهيدا لما يحدث الآن: ليس مجرد الانفصال عن الفلسطينيين وحصرهم في “بانتوستونات” صغيرة، بل السعي إلى محوهم وإبادتهم.
في العقد الذي أعقب الانسحاب، نجح التيار القومي الديني اليميني في إسرائيل، بقيادة حزب الليكود، في ترسيخ فكرة أن الانسحاب من المستوطنات لا يمكن أن يتكرر أبدًا. مهّد ذلك لأن تهيمن، بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ما كانت تُعتبر منذ فترة طويلة مواقف متطرفة. بات مسؤولون إسرائيليون يروّجون علنًا لاستكمال عملية التطهير العرقي التي لم تُنجز بالكامل خلال نكبة عام 1948. وبعد الهجمات التي قادتها حركة حماس، كان التيار القومي الديني الأسرع في إعادة التموضع واعتبار تلك اللحظة فرصة ثمينة.
في وقت مبكر جدًا، ترسّخت فكرة مفادها أن 7 أكتوبر/ تشرين الأول، رغم مأساويته، يُعدّ علامة على “أزمنة مسيانية” وبداية “عصر المعجزات” – تدخّل إلهي يُنذر ببسط السيادة اليهودية على أرض إسرائيل التوراتية وبقرب مجيء المسيح المخلص. ومنذ ذلك الحين، استحضر قادة حزبي “القوة اليهودية” و”الصهيونية الدينية” هذه العقيدة، وعلى رأسهم وزيرة الاستيطان أوريت ستروك، وكذلك حاخامات في الجيش الإسرائيلي، وإعلاميون، وغيرهم.
أما حزب الليكود والمؤسسة السياسية التي كانت منشغلة بتكريس ضم الضفة الغربية فعليًا، في ظل تنفيذ المستوطنين اعتداءات منظمة على قرى فلسطينية وتصاعد سرقة الأراضي، فقد رأت في ذلك الحدث فرصة لإعادة ترتيب الأولويات. لم يعد من الضروري التخلي عن غزة، بل يمكن إعادة توطينها. وهكذا، بات بالإمكان اختبار التطهير العرقي في القرن الحادي والعشرين في غزة، قبل إطلاقه بالكامل في الضفة الغربية.
مصطلح “غزة أولًا” كان يشير في السابق إلى المرحلة الأولى من تنفيذ إعلان المبادئ بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية؛ حيث تولّت السلطة الفلسطينية أول دور لها في الحكم الذاتي ضمن المناطق الفلسطينية المحددة في قطاع غزة ومدينة أريحا في الضفة الغربية.
أما النسخة الثانية من “غزة أولًا”، فكانت تشير إلى خطة فك الارتباط التي نفذها شارون، والتي بثت الأمل بأن تكون غزة محطة أولى، تتبعها محطات أخرى من الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة.
لكن اليوم، بات مصطلح “غزة أولًا” يعني شيئا آخر: غزة تمثل بداية الخلاص المسياني وإبادة الفلسطينيين، أو كما يُطلق عليه في الخطاب الإسرائيلي الراهن: “النصر الكامل”. وليس من المستغرب أن تحذّر منظمة “بتسيلم” الحقوقية الإسرائيلية في تقريرها الأخير من أن ما يحدث في غزة، يجري التخطيط لتكراره في الضفة الغربية.
لم يكن المسار من عام 2005 إلى عام 2025 قدرًا محتومًا، لكن ملامحه باتت واضحة الآن. إنها نتائج خيارات سياسية اتُّخذت في الماضي، ويجب اليوم التخلي عنها أو تعديلها. يُظهر توصيف هذا المسار بوضوح الحاجة إلى رؤية سياسية جديدة لفلسطين التاريخية بأكملها، رؤية تنبع من خارج الإجماع الصهيوني.
يجب أن يكون للفلسطينيين دور محوري في صياغة تلك الرؤية، ويجب أن يقوموا بذلك خارج القيود الصارمة التي تفرضها السلطة الفلسطينية، والتي تفعل ما بوسعها للحفاظ على الوضع الراهن. ويبقى السؤال الحاسم، ما إذا كانت الطبقة السياسية في تل أبيب والمجتمع الإسرائيلي قادرين على تجاوز لحظة الإبادة، وهو أمر يعتمد إلى حدّ كبير على تفاعل الديناميكيات الداخلية والضغوط الخارجية. لكن طالما بقيت هذه الضغوط محدودة، أو غير موجودة أساسا، من غير المرجّح أن يحدث تغيير ملموس داخليا.
ترسيخ الاستيطان
لفهم إرث خطة فك الارتباط الإسرائيلي عن غزة، من المفيد أن نبدأ باستحضار الكيفية التي حدّد بها أرييل شارون أهداف هذه الخطوة عام 2005. رغم أن منتقديه من اليمين تجاهلوا تبريراته، فقد صرّح شارون بوضوح أن هدف الانسحاب أحادي الجانب هو تخفيف الضغوط التي تدفع نحو انسحاب أوسع من المناطق الأكثر أهمية من الناحية التوراتية والاستراتيجية في الضفة الغربية.
كانت رؤية شارون للفلسطينيين تقوم على إخضاع دائم دون حقوق سياسية، مستوحاة من نموذج البانتوستانات في جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري، وهو النموذج الذي أثار إعجابه خلال زيارة قام بها إلى جنوب أفريقيا أوائل الثمانينيات. وقد علّق مدير مكتبه، دوف فايسغلاس، على الخطة قائلًا: “خطة فك الارتباط هي تجميد لعملية السلام. إنها تمنع قيام دولة فلسطينية، وتمنع النقاش حول اللاجئين والحدود والقدس. توفر خطة فك الارتباط الكمية المطلوبة من الفورمالين لمنع أي عملية سياسية مع الفلسطينيين”.
خلال عملية فك الارتباط، سحبت إسرائيل نحو 9,000 مستوطن فقط من أصل ما يقارب 430,000 إسرائيلي كانوا يعيشون آنذاك خارج الخط الأخضر، بما في ذلك في القدس الشرقية. وقد تم الانسحاب من منطقة لا تتجاوز 6 بالمائة من الأراضي التي يُفترض أن تشكّل دولة فلسطينية مستقبلية وفقًا لحدود عام 1967، أي ما يعادل 1.5 بالمائة فقط مما كانت عليه مساحة فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني عام 1948.
وفي ذلك الوقت، لفت عدد من الفلسطينيين الانتباه إلى أهداف قادة إسرائيل: لم يكن هدف خطة فك الارتباط تعزيز مبدأ قيام دولة فلسطينية أو منح الفلسطينيين حقوقهم، بل ترسيخ السيطرة الإسرائيلية في مناطق أخرى. تجاهلت الأوساط الصهيونية ذات التوجهات اليسارية الوسطية هذه التحذيرات، وقدّمت دعمًا صريحًا لخطة شارون.
في الواقع، جاء رد ما يُعرف بالتيار الصهيوني الليبرالي مألوفًا إلى حد بعيد: بدلًا من البناء على قرار فك الارتباط لدفع مسار عملية السلام مع الفلسطينيين، شدّدوا على ضرورة إعادة توحيد الصفوف في الداخل الإسرائيلي. هكذا بدأت حقبة “تساف بيوس” (الدعوة إلى المصالحة الداخلية اليهودية الإسرائيلية)، دون اكتراث بمعاناة الفلسطينيين. كشف ذلك عن تجذر العقلية الاستيطانية الاستعمارية في معظم المعسكر الصهيوني، حيث فشل الساسة الليبراليون مرارًا في معارضة مبدأ استمرار الاستيطان الإسرائيلي وتهجير الفلسطينيين في الضفة الغربية، واكتفوا بالاعتراض على التفاصيل المتعلقة بالموقع أو الحجم.
ربما من الخطأ أن ننسب إلى حركة المستوطنين قدرا كبيرا من البراعة الاستراتيجية، وبعد النظر، والصبر. لكن في أرض العُميان، يصبح الأعور ملكًا. في هذه الحالة، امتلك المستوطنون من التيار القومي الديني أيديولوجية متماسكة واستراتيجية بعيدة المدى، بينما بدا أن الصهاينة الليبراليين يفتقرون إلى الميزتين.
في السنوات التي أعقبت فك الارتباط، ركّزت حركة المستوطنين جهودها على المؤسستين العسكرية والقضائية لتعزيز نفوذها، وشجّعت شبابها للانخراط في الجيش حتى يصلوا إلى المناصب القيادية في المستقبل. بدأت هذه الاستراتيجية تؤتي ثمارها، كما يتضح من تعيين آفي بلوت العام الماضي قائدًا للمنطقة الوسطى في الجيش، وهي المسؤولة عن الضفة الغربية. وكذلك تعيين ضابط الشرطة المتقاعد يورام هاليفي مؤخرًا مسؤولا عن وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية (كوغات)، وهي تابعة لوزارة الدفاع ومسؤولة عن السياسات المدنية في الضفة الغربية وغزة.
لم تكن الحركة تركز على إعادة توطين غزة – إذ بدا ذلك هدفا غير واقعي – بل ركزت على تحويل القطاع إلى قصة تحذيرية. لم يكن من المقبول أن يترسّخ في الوعي الإسرائيلي أن الانسحاب من الأراضي المحتلة قد يكون طريقًا نحو مستقبل أفضل، بل كان لا بد من تصويره ككارثة.
وفي هذا السياق، حقق اليمين الإسرائيلي عدة إنجازات. حرص على أن يكون الانسحاب مكلفًا قدر الإمكان، من خلال الدفع نحو حزمة تعويضات ضخمة للمستوطنين، قُدّرت بنحو 9 مليارات شيكل، بهدف منع أي انسحاب مماثل من مستوطنات الضفة الغربية. كما ساهمت حركة المستوطنين في خلق أجواء من التوتر الداخلي، ونجحت في ترسيخ فكرة أن أي عملية إخلاء جماعي من الضفة الغربية ستؤدي إلى حرب أهلية.
ليس من باب التهكّم القول إن إسرائيل تعمّدت خلق ظروف تؤدي إلى تصاعد المقاومة الفلسطينية المسلحة، من خلال ترسيخ السيطرة في الضفة الغربية وتشديد الحصار على غزة، وكأنها تقول: “انظروا، الانسحاب من غزة جعل الأمور أسوأ”.
هكذا ترسّخت سردية مفادها أن إسرائيل مدّت يدها للسلام بانسحابها من غزة، لكنها قوبلت بالصواريخ، وهي رواية كاذبة رددها قادة المعسكر المعارض للانسحاب، من إيهود باراك إلى إيهود أولمرت، دون أي مساءلة. وإذا ما تمّ تحليل السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين منذ عام 2005، ومقارنتها بالادعاء القائل إن غزة كان يمكن أن تتحوّل إلى “سنغافورة الشرق الأوسط”، فإن خبث تلك الرواية يتّضح بلا لبس.
غياب المعارضة الصهيونية
لقد استند نجاح اليمين الديني القومي إلى كونه التيار الوحيد الذي كان لديه خطة وتصميم واستعداد للتضحية. في المقابل، كان تيار وسط اليسار في إسرائيل قد تلاشى إلى حد كبير بحلول عام 2005. لم يعد التيار الصهيوني العمالي قادرا على تقديم أي بديل جاد لقيادة الحكومة، ولم يكن هناك رواية متماسكة تشرح بفعالية كيف أن الانسحاب الأحادي من غزة كان مصممًا لعرقلة السلام، وليس لتعزيزه.
لم يبادر السياسيون من وسط اليسار إلى طرح فكرة إدماج حركة حماس في العملية السياسية، رغم مشاركتها في الانتخابات، كما حدث مع العديد من حركات المقاومة المسلحة في سياق حروب التحرير عبر التاريخ. ولم يعارضوا الحصار المفروض على غزة، أو العقاب الجماعي للسكان المدنيين، أو حملات التدمير والقتل المتكررة التي سبقت أحداث أكتوبر/ تشرين الأول 2023. بل إن بيني غانتس، الذي كان يُعد زعيمًا للمعارضة الإسرائيلية آنذاك، اختار عند إطلاق مسيرته السياسية في ديسمبر/ كانون الأول 2018، أن يستمد شرعيته من إبراز دوره في عمليات القتل الجماعي في غزة.
وعندما تم استبدال حكومة بنيامين نتنياهو مؤقتًا بحكومة “التغيير” المزعومة بقيادة نفتالي بينيت ويائير لابيد في يونيو/ حزيران 2021، واصلت إسرائيل ترسيخ وجودها في الضفة الغربية، وجرّمت منظمات المجتمع المدني الفلسطينية، وكرّرت الاتهامات المألوفة بمعاداة السامية ضد منظمات حقوقية بارزة وصفت إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري. كما استأنفت حكومة بينيت ولابيد عمليات الاغتيال خارج نطاق القضاء، والعمليات العسكرية في أنحاء الضفة الغربية، مع استمرار الحصار المفروض على غزة. وقد شاركت حزبا ميرتس والعمل في هذه الحكومة التي لم تقدم على أي تغيير فعلي.
عاد بنيامين نتنياهو إلى السلطة في ديسمبر/ كانون الأول 2022 على رأس أكثر الحكومات يمينية وتطرفًا في تاريخ إسرائيل. ومع ذلك، فإن موجة الاحتجاجات الجماهيرية المؤيدة للديمقراطية التي اجتاحت البلاد ردًا على خطته لإعادة هيكلة القضاء، تجاهلت أكبر انتهاك لمفهوم الديمقراطية نفسه: وهو الاحتلال والفصل العنصري.
وبعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، سادت في إسرائيل رواية واحدة، امتدت من “شبيبة التلال” المتطرفة وصولًا إلى المؤسسة العسكرية: كل ما يُرتكب بحق الفلسطينيين هو نتيجة لما فعلوه. يكفي النظر إلى تصريح رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية السابق أهارون هاليفا، الذي اعتبر أن قتل 50,000 فلسطيني، بمن فيهم الأطفال، أمر “ضروري”، أو إلى ما قاله رئيس أركان الجيش آنذاك، هرتسي هاليفي، لزوجته في اليوم التالي للهجمات: “سيتم تدمير غزة”.
ليس المقصود هنا أن أي بلد آخر كان سيتعامل بحكمة مع الصدمة والألم الناتجين عن حدث مثل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، بما في ذلك الانتهاكات التي ارتكبتها الفصائل الفلسطينية، ولكن السياق الأشمل للمشهد يمكّننا من فهم انخراط طيف واسع من المؤسسة السياسية الصهيونية بسهولة في دعم وتنفيذ الإبادة الجماعية.
لقد انكشفت اليوم الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للصهيونية، بمنطقها الصفري الذي لا يقبل التعدد. تأمّل مثلًا المبادئ التوجيهية للائتلاف الحاكم حاليا، والتي تنص على أن “الشعب اليهودي يملك حقًا حصريًا وغير قابل للتصرف في جميع أنحاء أرض إسرائيل”. هذا الموقف يكاد يكون محل إجماع بين السياسيين الصهاينة، من الائتلاف اليميني المتطرف الحاكم إلى ما يُسمى بالمعارضة: لم يصوّت أي نائب صهيوني لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية في تصويت للكنيست العام الماضي، بينما عارض عدد قليل فقط من النواب اليهود اليساريين تصويتا آخر جرى في يوليو/ تموز 2025 بشأن ضم الضفة الغربية.
انظروا إلى ما كان يجري في الضفة الغربية قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول – منح السلطات المدنية صلاحيات جديدة على الأراضي المحتلة، بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزارة الدفاع – إلى جانب التواطؤ المستمر والوثيق بين الجيش والمستوطنين المسلحين. تذكّروا ما كانت تفعله إسرائيل في غزة منذ نحو عقدين من الزمن، بما في ذلك الحصار الذي قام فيه الجيش الإسرائيلي بحساب الحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة لسكان غزة للبقاء عند مستوى ما قبل المجاعة. لقد كان الانتقال من حساب نقطة التجويع إلى تطبيقها فعليًا مسافة قصيرة نسبيًا.
تجزئة بتصميم مسبق
بعد سبع سنوات من فك الارتباط مع غزة، كتبتُ في مقال رأي بصحيفة نيويورك تايمز أن “إسرائيل، بتخليها عن 1.5 بالمائة فقط من الأرض، أعادت ضبط ما يُسمى بـ ‘المعادلة الديموغرافية’ (نسبة اليهود إلى العرب في المناطق الخاضعة لسيطرتها) بشكل كبير”. وبذلك، كانت إسرائيل ترى أنها أزاحت عن نفسها مسؤولية جزء كبير من السكان الفلسطينيين، الذين أصبحت تنظر إليهم على أنهم منفصلون إلى الأبد عن بقية المساحة الجغرافية والديموغرافية الفلسطينية.
ورغم احتجاجات اليمين الصهيوني على الانسحاب من غزة، إلا أن هذا الانسحاب سهّل على إسرائيل المضي قدمًا في ضم بقية الأراضي، مع الحفاظ على أغلبية ديموغرافية يهودية، إلى جانب عدد أقل من الفلسطينيين الذين يمكن ترحيلهم أو حصرهم في مناطق فصل عنصري على غرار البانتوستانات، أو دفعهم إلى “الهجرة الطوعية”. وكما أشرت سابقًا، انتقل نحو 94,000 مستوطن إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية خلال السنوات السبع الأولى من تلك المرحلة، فيما تم تهجير آلاف الفلسطينيين.
كانت تلك نظرتي للأمور آنذاك. الآن، بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، عادت مسألة الاستيطان الإسرائيلي في غزة إلى صدارة الأحداث. ولمَ لا تعود، والعالم يقف متفرجًا بينما تُمحى غزة من الوجود، ويُحصر سكانها في معسكر اعتقال على الحدود المصرية، بينما يدعو الرئيس الأمريكي إلى إنشاء “ريفييرا غزة” تحت السيطرة الإسرائيلية؟
بعبارة أخرى، اعتُبر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول فرصة لحل “المشكلة الديموغرافية”، ليس من خلال فصل غزة عن بقية فلسطين، بل بإبادة سكانها وتهجيرهم، تمهيدًا لإعادة استيطان الأرض.
ما يمكننا إدراكه الآن لا يمثل سوى بداية لفهم حجم المأساة: آلاف القتلى والمصابين، كثير منهم يعانون من إصابات تغيّر حياتهم إلى الأبد، حيث تضم غزة الآن أكبر عدد من الأطفال مبتوري الأطراف في العالم. لكن المأساة لا تقتصر على الأرواح، فغزة تُسحق حرفيًا، وتتحول إلى رماد. هذه الخسائر تُحدث تغييرًا محوريًا على المستوى المحلي، وتؤثر بشكل جذري في أي تصور لمستقبل فلسطين والفلسطينيين.
الأمر الذي الذي لا يقل أهمية، وإن كان أكثر إيلاما، هو غياب حركة تحرير وطنية فلسطينية موحدة لديها استراتيجية حقيقية وواقعية سياسية، ويعد هذا القصور هو الإرث الأكثر تدميرًا لمرحلة ما بعد فك الارتباط، حيث رسّخ حالة الشلل السياسي الفلسطيني في لحظة كانت فيها الوحدة ضرورة ملحّة.
ليس من المستغرب أن يلجأ نظام احتلال استيطاني إلى سياسة “فرّق تسد” تجاه الشعب الذي يحتل أرضه. إسرائيل على وجه الخصوص، لديها تاريخ طويل في اغتيال أو سجن القادة الفلسطينيين “المشاغبين” وتمكين القادة “المتعاونين”. بحلول عام 2005، تراجعت حالة الوحدة والتعبئة التي ولدتها الانتفاضة الأولى لصالح مسار أوسلو، الذي عمّق الانقسامات الفلسطينية الداخلية. فقدت الحركة الوطنية الفلسطينية حيويتها وقدرتها على صياغة الأجندة الوطنية، وظلت عالقة في إطار الحكم الذاتي المحدود وحالة الاستقطاب التي تقودها السلطة الفلسطينية. وجاءت الانتفاضة الثانية كرد فعل على هذا الواقع إلى حد كبير.
أدى فك الارتباط عن غزة إلى تعميق هذا الانقسام، وفتح بابًا لا تزال إسرائيل تستغله حتى اليوم. يمكن فهم درجة الانقسام السياسي الفلسطيني – الذي يتجلى الآن بشكل مرعب خلال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة – على أنه نتيجة سياسة صهيونية متعمدة، ولكنه استمر بسبب خيارات القيادات الفلسطينية.
رأى الفلسطينيون أن المقاومة المسلحة خلال الانتفاضة الثانية – بقيادة حركة حماس وفصائل أخرى – هو السبب المباشر وراء أول انسحاب إسرائيلي من المستوطنات التي أقيمت على الأراضي الفلسطينية المحتلة. شكّل ذلك تناقضًا صارخًا مع فشل السلطة الفلسطينية بقيادة فتح في تحقيق أي إنجاز، خاصة أن إسرائيل تعمّدت استبعاد الطاقم التفاوضي التابع للسلطة من عملية الانسحاب من غزة، ما عزّز هذه الرسالة. ولم يكن من المستغرب أن تحصل حماس على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات التي جرت لاحقًا (وهو ما فاقمه الانقسام الداخلي في حركة فتح وسوء اختيار مرشحيها ضمن الدوائر الانتخابية متعددة المقاعد).
لكن الكذبة الأكثر تكرارًا خلال العامين الماضيين هي أن هذه الحرب ضرورية لطرد حماس من غزة. في الواقع، كانت حماس مستعدة لتسليم إدارة غزة منذ سنوات، لكن العقبة الأكبر أمام وحدة الفلسطينيين، وأمام أي سلطة جديدة تحكم القطاع، هي القيادة السلطة الفلسطينية التي سارت على طريق رسمته إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاؤهما الغربيون. هذه القيادة كانت غائبة عن شعبها في لحظة احتياجه القصوى، وقد فقدت مصداقيتها تمامًا في نظر الشعب الفلسطيني.
هناك بالطبع عوامل أخرى تفسر مسار الأحداث بين إسرائيل والفلسطينيين على مدى العشرين عامًا الماضية، وأهمها حقيقة أن الولايات المتحدة وبقية حلفاء إسرائيل في الغرب تجنبوا محاسبة إسرائيل ومعاقبتها على جرائمها. أدى ذلك، إلى جانب توقيع اتفاقيات أبراهام، إلى تعزيز التطرف الإسرائيلي.
لكن على الجانب الآخر، هناك تحوّلات جيوسياسية لافتة. هيمنة الولايات المتحدة آخذة في التراجع مع انتقالنا إلى عالم متعدد الأقطاب، حيث يتعاظم دور الجنوب العالمي، بما في ذلك القوى المتوسطة، مما قد يشكل تحديًا لتوازن القوى إذا ما كان لدى الفلسطينيين استراتيجية قيادية ترقى إلى مستوى الحدث.
المحاولة الأخيرة في لعبة التقسيم
مهدت خطة فك الارتباط قبل عشرين عامًا لكثير من الأحداث المروعة التي شهدناها خلال العامين الماضيين، وهذا يدل على الحاجة إلى إعادة ترتيب الأمور بشكل جذري – غير إداري – في الأوساط الإسرائيلية والفلسطينية على حدٍّ سواء.
على سبيل المثال، فإن من يعارض بشدة تهجير الفلسطينيين من غزة عليه أيضًا أن يقرّ بأن غزة لا يمكن أن تُستعاد ككيان مكتمل بعد أن تم تدميرها بالكامل. وبالمثل، يجب الاعتراف بأن غزة قبل عام 2023 لم تكن “مكتملة” أصلًا، لأن كثافتها السكانية كانت في حد ذاتها نتيجة لعملية تطهير عرقي تستوجب المعالجة بطريقة عادلة.
أما مصير الفلسطينيين الذين نجوا في غزة، فلا ينبغي أن يُختزل في خيارين: بداية جديدة في بلد ثالث، أو العيش إلى أجل غير مسمى وسط الركام. هناك مكان مناسب لإعادة تأهيل الكثيرين: الأراضي التي طُردوا منها، هم وعائلاتهم، عام 1948.
ربما كان ينبغي فهم الانسحاب الأحادي من غزة على أنه المحاولة الأخيرة في لعبة التقسيم، وكان ينبغي أن يكون واضحًا منذ البداية أن هذا المشروع يستند إلى نفس النموذج الذي استرعى انتباه أريئيل شارون في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، حيث تُملي السلطة الاستيطانية ذات النزعة العرقية شروط الاستسلام، وتعطي مواطنة من الدرجة الثانية للسكان الأصليين في البانتوستانات.
هذا ليس نداءً لاستبدال نتيجة تطهير عرقي صفري بنتيجة أخرى. فالشعب اليهودي-الإسرائيلي والشعب الفلسطيني-العربي كلاهما باقٍ. لا أحد منهما سيرحل عن هذه الأرض. لكن الخيارات المطروحة اليوم لا يمكن أن تقتصر على الإبادة الجماعية أو نظام الفصل العنصري.
إذا كانت العصيان المدني الذي نفذه المستوطنون عام هو رد الفعل الذي واجهوا به خطة الانسحاب الأحادي عام 2005، فإن من يعارضون إبادة غزة في عام 2025 لا يمكن أن يكتفوا بأقل من ذلك.
المصدر: +972