حوار مع عمر العقّاد: عن الأدب والإبادة والانهيار الأخلاقي للغرب أمام غزة

منذ صدور كتابه الأخير “يومًا ما، سيقول الجميع إنهم كانوا دومًا ضد هذا” مطلع 2025، والذي رُشّح للقائمة الطويلة لجائزة الكتاب الوطني الأمريكية لعام 2025 فئة الكتب غير الروائية، وتُرجم لعدّة لغات، ليس من بينها العربية حتى الآن، أثار الكاتب والصحفي المصري الأمريكي عمر العقّاد جدلًا واسعًا في الأوساط الأدبية والإعلامية، بعدما قدّم شهادة فكرية وإنسانية على الإبادة في غزة وما كشفته من انهيار أخلاقي غربي.
نواة هذا الكتاب كانت تغريدة نشرها عمر عبر حسابه على موقع “إكس”، وحظيت بأكثر من 10 ملايين مشاهدة. التغريدة كانت بتاريخ 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أي بعد ثلاثة أسابيع من هجوم حماس ضد المحتل وبدء حرب الإبادة على غزة. قال: “سيأتي يوم، حين يصبح الأمر آمنًا، وحين لا يترتب أي ضرر شخصي على تسمية الأشياء بأسمائها، وحين يفوت الأوان على محاسبة أيّ أحد، سيكون الجميع قد كانوا دائمًا ضد هذا”.
يعيش العقّاد اليوم في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون الأمريكية على الساحل الغربي، والتي انتقل إليها منذ 12 عامًا، وهي المدة الأطول التي عاش فيها بمكان، كما يقول. تحدّثنا إليه قبل جولة جديدة لكتابه الأحدث في بلجيكا وإيطاليا، وكانت تخيّم عليه حالة إحباط كبير، تتجلّى في ملامحه ونبرة صوته وحديثه، حتى إنه تأثّر كثيرًا في بعض المواضع من هذا الحوار، بسبب ما يجري في غزة، والانهيار الكامل لكل ما آمن به عن الغرب.
بحسب الكتاب، فقد وُلد العقّاد في مصر عام 1982، وغادرها وهو في الخامسة بعد حصول أبيه على فرصة عمل في قطر. هناك، وكما يفعل المغتربون بأبنائهم، التحق بمدرسة بريطانية، ثم أمريكية، ثم بريطانية مرة أخرى، ولهذا هو يُجيد الإنجليزية، ليس فقط تحدثًا وكتابة، ولكن نطقًا ولهجة، كلغة أولى لا يمكن التفرقة بينه وبين أهلها. غادرت الأسرة بعدها إلى كندا، ورغب عمر في هذا الانتقال من عالم عربي مدفوع بالقوة، ويحرّكه نوعٌ ما من القمع، إلى عالم يتمتع بنوعٍ أساسي من الحرية، يُتعامل فيه وفق القانون، ليُصبح نموذجًا أفضل ممّا وُلد عليه، قبل أن يكتشف أن وعود الغرب كذبة كبرى.
قبل هذا الكتاب، أصدر روايتين، هما: “الحرب الأمريكية” و”يا له من فردوس غريب”، وقد فازتا بعدّة جوائز أدبية، ونالت الثانية أرفع جائزة أدبية في كندا، وهي جائزة “جيلر”، كما تُرجمتا لعدّة لغات.
بعد صدور روايته الأولى، أي منذ عشر سنوات، لم يعد العقّاد متفرغًا للصحافة، وإن كان يعمل من آنٍ لآخر بشكل حرّ، وخصّص وقته كله للكتابة الأدبية، لكنه يجد الآن صعوبة كبيرة في الاستمرار.
أجرينا الحوار بالإنجليزية، لأنها الأقرب للعقّاد، فقد جاءت نشأته ومعيشته على حساب لغته الأصلية وثقافته العربية، وهو أمر ليس فخورًا به، كما يقول، لكن لكل شيء ثمن، والأهم أنه لم يفقد إيمانه بقضاياه ومبادئه…
ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الأدب والفن في فضح الازدواجية الأخلاقية لدى الغرب وحكوماته؟
في الماضي، كان لديّ إجابة، لكني الآن حقًّا لم أعد أعرف شيئًا. هناك قصة أرويها في كتابي بخصوص روايتي الأولى (الحرب الأمريكية)، وفيها حديث عمّا جرى في صبرا وشاتيلا. لا أحد في أمريكا الشمالية يعرف ما حدث هناك، ولهذا يسألونني: لماذا كتبتَ هذا الجزء بكل هذا العنف والوحشية؟ عليّ حينها أن أشرح لهم أني لا أفتعل شيئًا، وأن الواقع هو القاسي.
وحين ناقشتُ الرواية في نادٍ افتراضي للكتاب ينظّمه مجموعة من المصريين، كان سؤالهم الأول: لماذا تحدثتَ عن الموضوع بنبرة هادئة وخفّفتَ من حدّته؟ هذا التباين في التلقّي مردّه الإطار المرجعي المختلف تمامًا لدى الطرفين.
أيضًا، الناس الذين تعرّضوا لهذه الوحشية ليسوا بعيدين، ولا هم كائنات غريبة، أو أدنى منزلة من باقي البشر، أو أقل إنسانية. لهذا، أجد صعوبة في الإجابة عن سؤال الأدب وما يمكن أن يفعله، لأن كل فعل كتابة هو محاولة لقول شيء حول معنى أن تكون إنسانًا. ولكن إذا كان من يقرأ كتابك يعيش حياة مختلفة بالكلية، مبنية على فكرة أن بعض الناس أدنى منزلة من البشر، فماذا يمكن لكتابتك أن تفعل، بحق الجحيم؟
أعتقد أني فقدتُ كل ثقتي بمؤسسات الغرب في العامين الأخيرين. ولكي أكون واضحًا، أنا لم يكن لديّ في يوم من الأيام أيّ ثقة في المؤسسات المصرية، ولا في الحكومات العربية كذلك. لكني اعتقدتُ لسنين طويلة أن مؤسسات العالم الغربي تقوم على عناصر مثل العدالة المتساوية للجميع، والقانون الدولي، والإنصاف، وغيرها. لكن، بصراحة، وبعد عامين من مشاهدة الإبادة الجماعية، تبدّدت قناعتي تمامًا.
على المستوى الفردي، رأيتُ أشخاصًا يُقدمون على أفعال شجاعة للغاية. رأيتُ أشخاصًا يتظاهرون، ويُخاطرون بحيواتهم ومعايشهم، وكلّ ذلك يحدث في الغرب. لكن على المستوى المؤسساتي، كمؤسسات صحفية أو سياسية أو أكاديمية أو ثقافية، كلّ هذا فشل فشلًا ذريعًا. هذا نوع من الفشل أعرف أنهم سيعتذرون عنه بعد عشر أو عشرين عامًا من الآن، وربما هذا الأمر هو الأكثر إحباطًا.
لهذا، أظن أن ما أتمسّك به حاليًا هو فكرة أني لن أغيّر رأي أحد عبر كتابي، أو أني سأغيّر العالم، أو أيّ شيء من هذا القبيل. ما أفعله هو أقلّ القليل: بتسمية الأشياء بمسمّياتها، وكما شهدتُها. وهذه هي الوظيفة الأكثر بؤسًا للأدب، كما أذكر في كتابي: أن تشهد وتقول الحقيقة. لكن، ماذا بعد أن شهدتَ وقلتَ الحقيقة؟ لا أعرف.
أنا الأكثر إحباطًا الآن من أيّ وقت مضى في حياتي. ولا أعرف إن كان جيدًا أن يكون المرء كاتبًا في هذه اللحظة. لكنها الشيء الوحيد الذي أجيده، ولهذا أستمرّ فيه.
هل واجهتَ في تجربتك الأدبية أو الصحفية أشكالًا من الرقابة غير المباشرة أو التحيّز عندما تناولت قضايا حساسة مثل فلسطين؟ كيف اختبرت حرية الرأي في هذه الأوقات الحالكة؟ وهل من أثمان دفعتها؟
هذا سؤال مثير للاهتمام. الرقابة تحدث يوميًا بمليون طريقة مختلفة في هذا الجزء من العالم، منها الماكر، ومنها الصريح. تُصاغ في قوالب مثل: “هذا سيسبب عدم ارتياح”، أو “هذا قد يجعل الناس يشعرون بعدم الأمان”، وهو كلام سخيف حتى في أفضل الأوقات، فما بالك أن يحدث في الوقت الذي تشاهد فيه صور أطفال يُقتلون يوميًا! وكأن الشعور بعدم الارتياح هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث، أو أن تكون السبب في هذا الشعور للناس.
كنتُ في مهرجان أدبي في أوروبا، حين أردتُ أن أقرأ لأول مرة جزءًا من كتابي هذا للحضور. ثيمة المهرجان كانت شيئًا على غرار حرية التعبير (يضحك).. وحرية الرأي. كان الأمر مضحكًا. أخبرتُ المنظّمة بموضوع الكتاب، الذي كنّا قد انتهينا من تحريره، وننتظر صدوره بعد بضعة أشهر، فتغيّرت ملامح وجهها، وطلبت أن أقرأ من قصة قصيرة أو أيّ شيء آخر.
من يعيش في الغرب يعلم أنه ما إن تُذكر فلسطين، حتى تُنحّى كلّ القواعد جانبًا، ليس فقط في سياق حرية الرأي، ولكن في سياق كلّ القيم التي يدّعي هذا الجزء من العالم تبنّيها. وربما هذا هو الحال في أماكن أخرى في العالم أيضًا، لكني شهدته بعنف شديد في الغرب. أنت تعلم أن الفصل العنصري أمر سيّئ، لكنه يصبح مقبولًا في هذه الحالة بالذات. كذلك بالنسبة لسرقة أراضي الناس، وكذلك بالنسبة لحرية التعبير.
أعرف العديد من الكتّاب الذين تضرّرت حياتهم المهنية بشكل لا يمكن إصلاحه. أو ربما يكون هذا غير صحيح؛ فبعد عشرين عامًا من الآن، سيتم الاحتفاء بهم لما فعلوه. ولكن الآن، لا أعتقد أنهم سيحصلون على عقود كتب، أو سيُدعون إلى مهرجانات أدبية مجددًا. والسبب أنهم ارتكبوا خطأ التحدّث مبكرًا عمّا يجري، قبل أن تكون البيئة آمنة للحديث. الكلّ يعلم هذا…
هل أنت أحد هؤلاء؟
نعم، لكن كان لديّ بعض المزايا، ولم أواجه نفس المعاناة. حين وقعت الأحداث في خريف 2023، كان لديّ نوع من المسار المهني الواضح، بما جعل من الصعب أن أواجه نفس التبعات. أنا لستُ في انتشار مارغريت آتوود أو ستيفن كينغ، لكني فزتُ ببعض الجوائز، وبعتُ بعض الكتب، ما يعني تجاريًّا أن لي قدمًا في هذا المجال.
وعندما أتحدث عن كُتّاب شباب، فأنا أقصد كُتّابًا يقفون على حافة كتابهم الأول مثلًا. الميزة الثانية التي حظيتُ بها، والتي ربما كان لها الأثر الأكبر في ألا أواجه نفس المعاناة، هي أني أتحدّث بلهجتهم دون أي فرق. كنتُ، بالنسبة للكثيرين، الصديق العربي المؤدّب. لديّ أبناء عمومة يشبهونني في الشكل، وأسماؤهم تشبه اسمي، لكنهم لا يتحدّثون بنفس لهجتي، ولهذا، كلما زاروا الغرب، اختلفت تجربة وجودهم فيه عن تجربتي تمامًا، وكأنهم آتون من كوكب آخر.
ما واجهته أنا من أذًى كان صغيرًا للغاية. خسرتُ اتفاق تحويل روايتي إلى فيلم، والذي كنتُ سأحصل بموجبه على 10 آلاف أو 15 ألف دولار، وهو أمر حسن للغاية، لأن ليس لديّ هذا المبلغ…
هل الرواية المقصودة هي “الحرب الأمريكية”؟
نعم، روايتي الأولى. هي رواية خيالية لحرب أهلية ثانية في أمريكا، لكنها في الحقيقة قصة العالم الذي قدِمتُ منه، وأُسقطها على الولايات المتحدة، ما يجعل الرواية أشبه بـ”حصان طروادة”، فهي تقدّم نفسها على أنها كتاب أمريكي للغاية، لكني لم أرَها أبدًا كذلك. إنها تدور حول التمرّد، وحول الموضوع الذي لم يرغب أحد في هوليوود في خريف 2023 أن يُرى ناشطًا فيه.
أجرينا منافسة على حقوق إنتاج الفيلم، ووقع الاختيار على إحدى الشركات، وأرسلنا لهم العقد بنهاية سبتمبر/ أيلول 2023. في مثل هذه الظروف، وبعد أن اتفقنا على كافة التفاصيل، تتبقى خطوة توقيع العقد فقط، لكننا لم نتلقَّ منهم ردًّا. لاحقًا، وبعد مرور بضعة أشهر، أرسلوا رسالة تقول: “نحن منسحبون. لن نستطيع المُضيّ قدمًا”.
ولا أعرف إن كانت تغريداتي (على موقع “إكس”) لها علاقة بالأمر، أم أنهم لم يرغبوا في العمل مع رجل عربي، أم أن موضوع الكتاب نفسه هو السبب. لا أعرف، ولستُ مهتمًّا، لأنه من الأفضل، بصراحة، أن تعرف مع من تعمل مُسبقًا. كان الأمر ليصبح أسوأ إذا قطعنا أشواطًا في الفيلم (يضحك)، ثم أكتشف أني أعمل مع أشخاص ترعبهم هويتي ومن أكون، أو يُفزعهم موضوع الكتاب الذي اشتروا حقوق تحويله إلى فيلم.
هل واجهتَ خسائر أخرى إلى جانب الفيلم؟
نعم، أُلغيت بعض الندوات في الولايات المتحدة وكندا، كنتُ مشاركًا فيها كمتحدّث. الأمر المثير للاهتمام هو أني لا أواجه العداء بشكل مباشر، وذلك لأن موضوع كتابي واضح للغاية. وعليه، فإن النقد اللاذع كلّه يكون من نصيب من يؤيّدني أو يجهر بعلاقته بي، لهذا أظن أن أيّ شخص كتب مراجعة إيجابية عن الكتاب، ناله نصيب من الكراهية الحقيقية، سواء من النقّاد أو الكُتّاب.
أيضًا، أيّ مكتبة وافقت على تنظيم لقاء لي مع القرّاء أثناء جولة الكتاب التي قمتُ بها عقب صدوره، نالها نصيب من الكراهية. أيّ مكتبة خارج بورتلاند، حيث أعيش، وهي بالمناسبة مدينة تقدّمية.
في مدينة وينيبيغ (في كندا)، كان هناك تهديدات باستصدار أوامر قضائية تمنعني من الحضور للمدينة أصلًا، وتم الضغط على صاحب المكتبة المستضيفة للّقاء. أجرينا اللقاء، بينما تظاهر بعض الناس خارج المكتبة اعتراضًا. كلّ هذا غريب عليّ ولم أواجهه من قبل، لكن من يهتم، على أية حال؟
لكن في النهاية، نُشر كتابك في الغرب بواسطة دور نشر غربية.. ألا يبعث هذا برسالة أمل وتفاؤل بعض الشيء؟ أم كيف ترى الأمر؟
أنا كاتب لا أبيع كثيرًا إلى درجة أن تقول دار النشر: نحتاج إلى إبقاء هذا الكاتب معنا بأيّ ثمن، لكنّ كتبي تُباع، فلا تُكلّف الناشر أموالًا. كلّ دار نشر كبيرة تؤمن، أو تحب أن يُنظر إليها على أنها تؤمن بحرية التعبير، وأنه بإمكان الكتّاب الكتابة عن أيّ شيء يرغبون فيه. وبالتالي، ففي الرقابة على الكتّاب، تحدٍّ مركزي لصورة دار النشر.
ما كان في صالحي أيضًا هو دعم محرّري، جون فريمان، الذي استخدم سمعته الطيّبة في الدفع بهذا الكتاب للنشر. أذكر التوتّر الذي ساد الاجتماع الأول، حين ذهبنا في فبراير/ شباط 2024 إلى الناشر لعرض الكتاب. كان هناك خوف حقيقي ممّا قد يقع من أحداث حتى وقت صدور الكتاب، فقد جرت العادة أن عملية النشر تستغرق عامًا على أقلّ تقدير، وأحيانًا عامين أو ثلاثة، ولا نعرف الأجواء التي ستكون سائدة حينها.
هكذا كان الحال قبل النشر، بالمقارنة بالارتياح الذي حصل عندما حلّ الكتاب على قائمة نيويورك تايمز للأكثر مبيعًا، وعندما احتلّ غلاف مجلة نيويورك تايمز لمراجعات الكتب.
لماذا تعتقد أن الغرب صمت بهذا الشكل المُخزِي أمام الإبادة في غزة، بينما رفع صوته فيما يخص أوكرانيا؟ وهل تراه مجرّد موقف سياسي، أم هو انعكاس لبنية أعمق من التمييز الأخلاقي داخل الثقافة الغربية؟
صمتُ الغرب عن غزة كان لعدّة أسباب، أهمّها العنصرية. الضحايا في هذه الحالة ليسوا من العرق الأبيض، بل ينتمون إلى عِرق أو جنسية تقع في أسفل التسلسل الهرمي. هناك عدّة مواقف يُعدّ فيها استخدام لفظ “فلسطيني” استخدامًا عدائيًّا. في نيويورك مثلًا، هناك محلّ اسمه “كافيه غزة”، وهناك دعوات لإغلاقه بسبب الاسم.
سببٌ آخر هو طول أمد الصراع، الذي يصل إلى 75 عامًا، ولهذا تجدين الكثيرين، خاصة في أوساط النخبة السياسية هنا، مندهشين لاهتمام الناس الآن. هناك شعور بأنه كان من المقبول عدم الاكتراث بمحنة الشعب الفلسطيني لفترة طويلة، لدرجة أنه من الممكن احتمال أيّ قدر من الهمجية.
هناك تقرير صدر بتاريخ 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 يقول إن عام 2023 كان الأكثر دموية في تاريخ الأطفال الفلسطينيين. على حدّ علمي، لم تنقل هذا التقرير وسيلة إعلامية واحدة من وسائل الإعلام الكبرى في هذا الجزء من العالم. لذا أصبح متأصّلًا أن هؤلاء ناس لا يجب عليك أن تهتمي لأمرهم، أو تعتبريهم من البشر.
وهناك سبب أعمق: هو ما سيتطلّبه الأمر من المرء من فعل، إذا تأمّل ذاته ووجد نفسه معارضًا لذلك. لأنه، في واقع الأمر، الدولة التي تمارس هذا القتل الجماعي تفعل هذا بتمويل من أموال ضرائبي، وبأسلحة مصدرها هذا الجزء من العالم، كما تمارس نفس الاستعمار العنيف الذي تأسّست عليه هذه الدولة (الولايات المتحدة).
إذا حدّثتكِ الآن عن مجموعة من الناس أُجبروا على ترك أرضهم، وحُبسوا في سجون مفتوحة، وسُلِبوا كلّ شيء، ونُعتوا بالمتوحّشين، وأُعدِموا دون أية عواقب، فهل أتحدّث عن الفلسطينيين، أم عن السكان الأصليين لأمريكا الشمالية؟ المنهجية وأدوات السرد متشابهة جدًا. لن تكون الإدانة حينها لشرّ ما بعيد لا علاقة لهم به.
باعتقادك، هذا الصمت مرجعه عِرقي بالأساس وليس دينيًّا؟
الدين أيضًا سبب، بالطبع. الحديث عن العِرق في هذا الجزء من العالم يتضمّن أشياء كثيرة، منها الدين بالتأكيد. هنا يمكن لأيّ شخص أن يقول أيّ شيء عن المسلمين أو عن العرب، وخاصة الفلسطينيين، دون أن يخشى أية عواقب. لا توجد عواقب للصمت أيضًا بشأن ما يجري للفلسطينيين، بل العواقب تقع على كسر هذا الصمت. ستفقدين وظيفتك، ستخسرين أصدقاءك، سيراكِ الناس مزعجة، وسيتم وضعك على القائمة السوداء لتُواجهين المشاكل لبقية حياتك. لهذا، من الأسهل تجنّب كلّ هذا، واختيار الصمت ملاذًا.
إلى أيّ مدى تعتقد أن الاعتراف بعد فوات الأوان، أو كما يقول عنوان كتابك “يومًا ما، سيقول الجميع إنهم كانوا دومًا ضد هذا”، هو جزء من آلية الغرب لتبييض تاريخه بعد كلّ حرب أو مأساة؟ نحن نشهد حاليًا تغييرًا في مواقف بعض الدول الغربية، مثل فرنسا..
نعم، هناك عدد من قادة العالم استيقظوا فجأة بعد عامين، وأدركوا أن الإبادة الجماعية أمرٌ سيّئ. وهذا شيء إعجازي، أليس كذلك؟ (يضحك) لا أعرف ما الذي غيّر رأيهم.
هذا الاعتراف المتأخر عن الفظائع المُرتكبة، حتى بين فرنسا ودول إفريقية، رغم مرور السنوات..
أعتقد أن فكرة الاعتذار بعد فوات الأوان ليست فكرة ثانوية. ليست أثرًا جانبيًّا. أعتقد أنها مُكوّن رئيسي في فِعل الاستعمار، وذلك لأن الاستعمار هو أخذٌ وسلبٌ وسرقة لا نهائية، دون حدود. يبدأ الأمر بالأشياء الأكثر وضوحًا: مثل الأرض، والموارد، وأرواح الناس المعترضين الذين يعرقلون المسير. لكن هناك أشكالًا أكثر تجريدية للسرقة، كسرقة السرديّة، مثل تقديم الكسكس على أنه طعام إسرائيلي، وحتى سرقة الحزن نفسه.
أُعطيكِ مثالًا: كلّ فعالية أدبية أحضرها في هذا الجزء من العالم، تبدأ بما نُسمّيه “إقرار ملكية الأرض”. يصعد أحد الأشخاص إلى المنصة ويقول: “قبل أن نبدأ، أودّ أن أُقرّ أننا الآن نقف على أراضٍ لم تتنازل عنها قبيلة (كذا) من السكان الأصليين”. لا أشكّك في حسن نية القائل الذي يتلو هذا الإقرار، وهو تقدّم جوهري، لكن هل سأُفاجأ لو بعد خمسين عامًا من الآن، بدأت فعالية لقراءة الشعر في تل أبيب بـ”إقرار ملكية الأرض”؟ كلا، لن يُشكّل هذا أيّ مفاجأة.
ماذا تعني بإقرار ملكية الأرض؟ هل يعني هذا أنهم سعداء أنهم يقفون على أرض ليست أرضهم؟
هو إقرار بأن هذه الأراضي ملكٌ للسكان الأصليين للبلاد، وستجدينهم يسمّون القبيلة المالكة التي سُرقت منها الأرض. هذا يحدث في أمريكا الشمالية، أي كندا والولايات المتحدة. إذا لم تسمعي بهذا من قبل، فأظن أن المفهوم نفسه سيُزعجك. هو مجرّد إقرار دون فعل، فمن يُقرّ أنه يقف على أرضٍ مسروقة، يُعبّر عن أسفه فقط، دون أن يترك الأرض التي يعلم أنها مسروقة من أصحابها، فقد فات الأوان لاتخاذ مثل هذا الفعل.
بعض الناس قرأ كتابي وظنّ أن “يومًا ما” المذكورة في العنوان، أقصد بها الأسبوع القادم مثلًا. هذا غير صحيح. سأكون محظوظًا لو شهدتُ هذا الاعتراف المتأخر في حياتي. لم يستغرق الاعتذار عن ذبح السكان الأصليين في أمريكا الشمالية عقودًا من الزمن، بل استغرق قرونًا. أظن أن إدارة أوباما هي التي أصدرت إعلان اعتذار بشأنها. الأسف لا يقع إلا بنظرة إلى الخلف، بعد إقدامك على الفعل الشنيع.
في كتابك، ذكرتَ قصة استشهاد الطفلة الفلسطينية هند رجب.. كيف أثّرت فيك؟ وهل تراها لحظة كاشفة لانهيار كلّ الخطابات الغربية عن الإنسانية؟
لكي أكون صريحًا معك، أنا غير مهتمّ إن كان الغرب سينهار أم لا. أعرف بعض الأمور الشخصية، وهي أني أتحدث إليك الآن من منزل مُضيء، دون قلق من سقوط قنبلة من السماء تُبيد أسرتي بأكملها. والأدهى أن أموال ضرائبي تذهب لدفع تكاليف هذه القنابل التي تمحو سلالات كاملة.
لذلك، عندما أتحدث عن أثر الأحداث عليّ، فيجب أن أوضح أن الأثر محزن بقدر، وأنه ضئيل في أهميته، ولا يُقارن بالمعاناة اليومية التي أشاهدها تحدث هناك.
يمكنني القول إن حياتي فقدت الكثير من البهجة. كنتُ في الماضي إنسانًا طموحًا للغاية، تهمّني الجوائز، وعقد الكتاب القادم، ورأي هذا الناقد فيما كتبت، وهل حقق كتابي مبيعات جيدة، وهل وصل إلى قائمة الأكثر مبيعًا. لا شيء من هذا الهراء يهمّني الآن.
قبل عامين، كان هذا التحوّل سيُعدّ أمرًا صاعقًا بالنسبة لي، فأنا ربطتُ قيمتي الشخصية بالكثير من هذه الأمور، والآن لم يعُد أيّ منها يهمّني. أنا حاليًا في مرحلة أقطع فيها أكبر عدد ممكن من العلاقات مع المؤسسات، لأني أرى أنه لو فشلت مؤسسة ما في هذا الاختبار (غزة)، فهي لن تقف لتُساند أيّ شيء على الإطلاق.
الشعور الطاغي، بالطبع، هو الحزن والغضب. والمتوقّع منّا كالعادة -نحن الذين تعرّضنا لهذا الاستعمار- أن نتخطّاه في وقتٍ ما، كما تخطّينا مقتل العراقيين، والأفغان، والبشر الذين قُتلوا في حروب غير شرعية.
كلّ صباح أستيقظ، وأوّل شيء أراه على حاسوبي عادةً هو صورة لطفلٍ مقتول، ثم بعدها أُجيب على رسائل البريد الإلكتروني، وأعقد اجتماعاتي على “زووم”. لا يمكنني أن أعيش كإنسان في هذه الظروف. أنا غاضب الآن بدرجة أكبر من أيّ غضب شعرتُ به في حياتي، ومع ذلك، أعرف أني لا يمكنني الصراخ؛ في كلّ ندوة، في كلّ حوار، حتى الآن في حديثنا هذا (يضحك)، لأني حينها سيُنظَر إليّ باعتباري الرجل العربي الغاضب، الذي قد يضع قنبلة على صدره، وباقي القصة معروف.
لم أعُد أعرف من أنا. هذا الشعور بعدم الانتماء، الذي كان دومًا حاضرًا بشكل أو بآخر طيلة حياتي؛ فأنا تركتُ مصر وعمري خمس سنوات، وهنا أنا أتحدّث لغتهم، وأعرف الثقافة، لكن يبقى اسمي وديني مختلفين.
كيف تُقيّم أداء الإعلام الغربي؟ وهل ترى فيه اختلافًا اليوم عن بداية حرب الإبادة؟
نعم، هناك تغيّر واضح، ولكن بوتيرة بطيئة تُثير الغضب. أنا عملتُ لعشر سنوات كصحفي، وكان ذلك في السنوات الأولى من الحرب على الإرهاب. خلال هذه الفترة، دائمًا وجدتُ المحرّرين ينظرون إلى العواقب قبل اتخاذ قرار نشر مقالة من عدمه، أو نشر عنوان أو صورة. دائمًا يدرسون احتمالات إثارة ردود فعل عكسية.
بالطبع، العواقب غير متكافئة في حالة معاناة الشعب الفلسطيني، يليهم أصحاب البشرة السمراء عمومًا. إذا اعتُبر الصحفي داعمًا لهذه المجموعات، فإنه قد يخسر وظيفته، أو يخسر علاقاته ببعض المصادر الحكومية أو في القطاع الخاص، وقد يسحب المُعلنون إعلاناتهم من الصحيفة.
تظل العواقب غير متكافئة إلى اليوم، لكن هذه الفجوة في تقلّص، لأن حجم الغضب تجاه طريقة تغطية هذه الإبادة كبير للغاية، في أوساط الناس العاديين، الذين يرون ازدواج المعايير بشكل فجّ.
يُقتل بعض الناس، فيتم تسمية قاتلهم، بينما في الجانب الآخر تُستخدم لغة جبانة مبنيّة للمجهول، تُصوّر أفراد الطرف الآخر وكأنهم يختفون بشكلٍ ما، أو يصطدم بهم الرصاص. أمام هذه الازدواجية، ظهرت ردود الفعل المقاومة، التي أرى أنها السبب في تغيير الإعلام.
أذكر في صيف العام الماضي أن محرر جريدتي السابقة طلب مني أن أكتب مقال رأي، فقلت له: إنكم لن تنشروه، فأنا سأصف ما يحدث بالإبادة، وسأقول إن الحكومات الغربية متواطئة. فرأى أني محق في أن المقال لن يُنشر.
نفس المحرّر عاد في يناير/ كانون الثاني الماضي، وكرّر طلبه لنفس الجريدة، وأعدتُ الرأي نفسه على مسامعه، لكنه لم يُمانع حينها. الأمر ليس صحوة أخلاقية، بل يشبه ما يحدث في المجال السياسي أو مجال القطاع الخاص أو غيرهما؛ هناك تقدير مختلف للعقاب والمكافأة. الآن، هناك نقد أكبر، وهذا التغيير لأسباب براغماتية في الأساس.
هل تعمل على مشروعات كتابية في الوقت الحالي؟
منذ شهور، وأنا لا أستطيع أن أكتب كلمة. هذا الكتاب أنهيته سريعًا للغاية، وهو كلّ ما استطعتُ كتابته لعام كامل. كنتُ أعمل عليه كلّ يوم بدأب، وما إن انتهى، حتى وجدتُ صعوبة في الكتابة بعده.
وقّعتُ عقدين لكتابة مقالتيْ رأي، لكني لن أكتبهما، وربما أواجه مشكلة ما، لكن هناك شيء مختلف، والأمر صعب بالنسبة لي، لأني لا أعرف شيئًا آخر أفعله. ليس لديّ مهارات أخرى، وكلّ قيمي الشخصية، لمعظم حياتي، استمددتها من الكتابة.
لكني لا أعرف… لم أعُد قادرًا… وأبذل جهدي لإلغاء التزاماتي المهنية، والاختفاء في غرفة الكتابة، في محاولة للبدء من جديد. لكني لم أكتب شيئًا على الورق منذ فترة طويلة.