تكاليف النزوح في غزة تتجاوز قدرة العائلات المنكوبة

ترجمة وتحرير: نون بوست

في غزّة، لا تأتي البدايات الجديدة أبدًا دون ثمن؛ حيث يجبر القصف الإسرائيلي والغزو البري العائلات على ترك حياة كاملة وراءهم: زاوية مألوفة في المنزل، ورائحة قهوة الصباح، ودفتر يحتوي على ذكريات حياة توقفت فجأة. هذه الخسائر العاطفية تمزق المعالم اليومية التي تعكس هويتهم وتربطهم بحياتهم.

وينطوي على النزوح تبعات مالية كبيرة؛ فغالبًا ما تتجاوز تكاليف النُزوح قدرة العائلات على التحمل، فتصبح الضروريات الأساسية بعيدة المنال، أو أن تكلفة المغادرة نفسها مرتفعة جدًا.

وعندما يهاجم الجيش الإسرائيلي مناطق سكنية في غزّة، يبرز المكتب الإعلامي الحكومي أوامر الإخلاء الصادرة في الأماكن المقرر قصفها. وتكرر وسائل الإعلام الغربية الرئيسية هذه الادعاءات، ما يغذي الفكرة المبسطة بأن المدنيين حظوا بفرصة كافية للفرار. حتى لو كان هذا صحيحًا، فإنه يتجاهل التعقيدات التي تواجهها العائلات أثناء النُزوح، وكيف يمكن للعبء المالي أن يجبرهم على البقاء في أماكنهم، في انتظار بدء القصف.

ويوضح تحليل تقريبي لأدنى التكاليف لعائلة تنتقل من شمال غزّة إلى الجنوب حجم التحدي؛ حيث تتراوح تكاليف النقل بين 6,000 – 8,000 شيكل (حوالي 1,800 – 2,400 دولار أمريكي)، وستكلف خيمة أساسية 3,500 شيكل، والطعام للأيام الأولى تصل نكلفته إلى 500 شيكل أو أكثر، واستئجار قطعة أرض فارغة بدون مرافق سيكلف 500 شيكل، زتجهيز حمام بدائي يحتاج إلى 1,500 شيكل، والمسامير والأخشاب ومواد بناء الملاجئ المؤقتة تكلف 500 شيكل أو أكثر.

بالمجمل، يصل الحد الأدنى للتكاليف إلى نحو 10,000 شيكل على الأقل (حوالي 3,000 دولار) لتغطية المرحلة الأولى من النُزوح فقط. ومع تدمير الاقتصاد في غزّة جراء حملة الإبادة المستمرة من قبل إسرائيل، والتي تركت معظم السكان بلا دخل أو بدخل ضئيل جدًا، تصبح هذه التكاليف بعيدة المنال بالنسبة للعديد من الفلسطينيين.

وقالت صديقتي سندس، وهي طالبة ترجمة إنجليزية تبلغ من العمر 20 سنة في جامعة غزة الإسلامية: “قبل الإبادة، كانت الحياة بسيطة”، وتذكرت منزل عائلتها المطل على البحر في حي الشاطئ بشمال غزّة.

وأضافت: “لم نكن بحاجة للخروج لأن منزلنا كان يتمتع بأجمل منظر بحري يمكن لأي شخص أن يحلم به. كنا أنا وأخواتي نجلس على الشرفة السفلى نراقب الأمواج. وكان هاني وعبود، أبناء أخي، ينضمون إلينا للعب، ويملؤون اليوم بالحياة.

وسط وابل من القنابل الإسرائيلية في أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، حُوصر هاني وعبود تحت الأنقاض بعد جولة من القصف، كان عمر طفلي أخي 5 و7 سنوات عندما قتلتهم الصواريخ الإسرائيلية”.

غادرت عائلة سندس إلى مستشفى الشفاء في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني؛ حيث قالت لي: “لم يكن لدينا تقريبًا أي شيء، مجرد بساط صغير، وسقط المطر على خيمتنا. في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني سمعنا أن القوات الإسرائيلية تقترب من الشفاء، فأخذنا ما استطعنا وذهبنا جنوبًا؛ حيث مشينا عشرة كيلومترات إلى خان يونس، ثم انتقلنا إلى رفح، وعشنا في خيام طوال الشتاء. وحتى بعد الهدنة، لم تمنح العودة إلى المنزل أي شعور بالراحة.”

وعادت سندس وعائلتها إلى مخيم الشاطئ في وقت سابق من هذا العام. قالت: “لم يبقَ من منزلنا سوى الخراب، ففي 13 سبتمبر/أيلول 2025، قُصف منزلنا مجددًا. وقمنا بتنظيفه وترتيبه وبقينا، لأننا لم نستطع تحمل تكلفة المغادرة.”

ومنذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واجهت غزّة موجات متكررة من النزوح المفاجئ بسبب أوامر الإخلاء العسكرية الإسرائيلية. في 13 أكتوبر/ تشرين الأول من ذلك العام، طُلب من سكان شمال غزّة، بما في ذلك مدينة غزة، الانتقال إلى الجنوب خلال 24 ساعة. وتبعت أوامر مماثلة في أحياء مثل الشجاعية وبيت حانون ودير البلح والزيتون، مع استهداف بعض الملاجئ المدنية، ما أجبر آلاف العائلات على الانتقال بسرعة، غالبًا دون وجود مكان مناسب للإقامة.

زطزتدّعي قوات الاحتلال الإسرائيلي أن الجنوب منطقة آمنة، لكن الواقع يعكس خلاف ذلك. فالجنوب، مثل أي منطقة في غزة، يتعرض للقصف والتدمير يوميًا؛ حيث فرّ العديد من الغزيين هناك بحثًا عن الأمان ليكتشفوا أنه لا ملاذ فيه. وتمتلئ المساحات المفتوحة بسرعة بالعائلات القادمة، وتزدحم الشوارع بالخيام، وتنفد الموارد الأساسية سريعًا. ويسافر السكان مسافات طويلة بحثًا عن الأمان، لكن الحماية لا تُضمن أبدًا.

إن الأخطار فورية وشديدة؛ ففي وقت مبكر من يوم الأربعاء، كنتُ أحاول النوم، وأواجه صعوبة بسبب استمرار صوت “الزنانة” (الطائرات المسيرة) والمروحيات. وفي الساعة 1:34 صباحًا، ضربت الانفجارات برج عين جالوت السكني، فاهتزت المنطقة بأكملها، مؤكدة مرة أخرى أن الجنوب ليس آمنًا.

وفي الأشهر الأخيرة، استهدفت هجمات كبرى جنوب غزة، بما في ذلك الغارات على الفرق الإنسانية والمستشفيات، بالإضافة إلى ضربات متكررة على مخيمات النزوح، مما جعل الأماكن التي فرّ إليها الناس خطرة بقدر الأماكن التي تركوها.

وقالت الصحفية وعد أبو زاهر: “يؤلمنا الرحيل، ولم نفعل ذلك إلا قسرًا، مرهقين وغير راغبين، والله شاهد على صبرنا ومثابرتنا”

تعني الحياة تحت النزوح الانتظار الطويل للحصول على الخبز والماء، وغسيل يتكدس على الأكتاف المتعبة، وأطفال يغفون من الإرهاق؛ ليس من اللعب، بل من الركض للبقاء على قيد الحياة. والخيام المزدحمة ذات جدران رقيقة تسمح بدخول البرد والخوف، بينما تُحفظ الأحزان وتُبتلع الدموع تحت البطانيات الرفيعة.

إن البقاء على قيد الحياة يتطلب تكيفًا مستمرًا: مشاركة المساحات الضيقة مع غرباء، والابتسام رغم الانكسار، ورعاية الأطفال بأيدٍ مرهقة، والتعامل مع أساسيات الحياة مثل الماء والطعام والأمان.

وقال الأستاذ عبد الله شرشرة، المحامي والحقوقي من قطاع غزة: “إذا سألني أحفادي عن غزة، سأخبرهم أن أهلها صمدوا، وبقوا على أرضهم، وأحبوا وطنهم رغم كل شيء، وأن من غادر فعل ذلك على مضض. حاولوا البقاء حتى اللحظة الأخيرة، وعندما فشل الأمل، حاولوا مرة أخرى. وعندما تخلى عنهم الغريب والقريب، غادروا قسرًا، لا اختيارًا. من يصدق أن رقعة أرض مدمرة تجعل الناس يبكون عند الرحيل؟ ومن يظن أن المبنى المهدوم يُحتضن قبل المغادرة النهائية؟”.

بالنسبة لمن لا يستطيع تحمل تكاليف الانتقال، فالخيار الوحيد هو مواجهة الخطر والقصف أثناء البقاء في المكان. والنُزوح موت بطيء، يثقل على الأجساد والعقول والقلوب على حد سواء.

وقالت الصحفية وعد أبو زاهر: “بعد النزوح يسود صمت غريب؛ حيث نشعر برغبة غامرة في البكاء، لكن لا أحد يستطيع”.

إن أصدقائي وعائلاتهم جميعًا في الشمال، وأتواصل معهم يوميًا لمتابعة أوضاعهم، غالقصف لا يتوقف أبدًا، والاحتلال يهاجم الناس أثناء تحركهم، وأثناء النزوح، وحتى بعد فرارهم إلى مناطق يُفترض أنها أكثر أمانًا.

إن العديد من أصدقائي وعائلاتهم بلا إنترنت على الإطلاق؛ حيث أفكر فيهم باستمرار، وقلبي مثقل بالقلق، وأدعو لهم بلا توقف، ويجعل عدم اليقين والخوف والعجز البقاء على قيد الحياة هشًا، فكل رسالة تمثل شريان حياة، وكل صمت يتحول إلى مصدر قلق.

وفي الساعة 4:28 صباحًا، أرسلت لي صديقتي سندس رسالة واتساب مفجعة: “صباح الخير يا أختي تقوى؛ لقد ضربوا منزلنا. قُتل أخي وزوجته”.

يراقبنا الاحتلال ويسيطر علينا. ومع ذلك، أشعر أنه من واجبي كصديقة توثيق هذه الحياة، لإخبار العالم بأننا هنا، فنحن لسنا أرقامًا، ولدينا أحلام وطموحات بلا حدود، لكن الاحتلال يصر على قتل تلك الأحلام.

لهذا أكتب هذا؛ لأدوّن قصص أصدقائي على الصفحة. بالعامية العربية، نقول أحيانًا: نحن الموتى الذين يسيرون بأجساد حية. والآن أسأل: لماذا نموت ونحن ما زلنا أحياء؟

المصدر: ذي انترسبت