كيف تديَّن الخطاب الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر؟

من اللحظة الأولى للسابع من أكتوبر، تصدّر الخطاب الديني الإسرائيلي المشهد الإعلامي والسياسي والشعبي، بمصطلحات وسياقات مختلفة، اتفقت جميعها على تفسير ما جرى، وتبرير ما سيجري، وعلى محاولة التخفيف من الصدمة التي أصابت كبد التفوّق الإسرائيلي والشعور اليهودي الكامن بالتميّز والقدرة الطاغية.
صدمة العملية والعمى التكنولوجي والأمني الإسرائيلي أسهما في إعادة إنتاج خطابٍ يجمع التطرّف بالتديّن، ويختزل من التراث اليهودي والفكر التلمودي الأحداث والمواقع، بما يعيد الحدث كجزءٍ من تاريخٍ يهودي دائم الانبثاق، يجترح من الهزيمة أساليب الحرب حتى يضمن فوزه الكامل، الذي لا يكتمل بأقلّ من قتل الجميع وتحويل المدن إلى أنقاض.
في هذا الخطاب وجد كلٌّ من الساسة والمتديّنين والحاخامات ضالّتهم، بينما وجد العَلمانيون والليبراليون واليسار ثأرهم، واجتمع الطرفان على الخطاب الديني اليهودي، الذي يقلّل بطبعه من الآخر ويراه عبدًا أو عدوًا، لاستحضار تفسيرٍ سريعٍ ومرضٍ للصدمة، وإسناد حربه وإبادته.
هذا الخطاب وسياقاته ودلالاته، تموضع الساسة والحاخامات فيه، داخل “إسرائيل” وخارجها، هو ما تحاول السطور التالية فهمه، في هذه المادة التي تُضاف إلى ملف “فصول الطوفان” حيث نستعرض مفاصل محدّدة في المجتمع الإسرائيلي، بعضها فاقع، وكثيرٌ منها خفي، عمل السابع من أكتوبر على قلبها رأسًا على عقب، وعلى إعادة برمجتها وفق كلٍّ من العقلية الأمنية المضطربة والهوس التوسّعي المتزايد، ليعود الكيان وفقًا لها إلى مربّعه الأول عام 1948، مجتمعٌ عسكريّ يعيش عقدتي الخوف والأمن.
استحضار أريحا على أنقاض غزة
وفقًا للتناخ -أحد الكتب اليهودية المقدّسة- فيُروى في سفر يشوع، أن بني إسرائيل حاصروا مدينة أريحا في أول معركةٍ لهم أمام الكنعانيين، وأنهم طوّقوها ونفخوا في قرونهم صيحة الحرب، ثم أسقطوا أسوارها وقتلوا جميع سُكّانها رجالًا ونساءً وأطفالًا، وأحرقوا المدينة بالنار، حتى غدت أنقاضًا متراكمة، ولعنوا أيّ رجل يحاول إعادة بناء المدينة بقتل ابنه الأول.
هذه الحادثة، التي أثبتت الحفريات الأثرية عدم اتساقها مع الطبيعة الطبوغرافية لمدينة أريحا، إلا أنها استُحضرت منذ اللحظة الأولى للحرب، بقول رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو: “سنحوّل هذه المدينة الشريرة إلى أنقاض”، كما وجدت صداها بين الإسرائيليين، ففي استطلاعٍ للرأي، نشرته صحيفة هآرتس في مارس/ أذار 2024، أجاب 47% من الإسرائيليين بـ”نعم” على سؤال: “هل تدعم الفكرة التي تقول إن جيش الدفاع عند احتلاله لمدينة، يجب أن يتصرّف كما فعل الإسرائيليون تحت قيادة يوشع في أريحا، بقتل جميع سكان المدينة المحتلّة؟”.
كما اعتبر 66% منهم أنهم يرون في الحرب مع الفلسطينيين تجسيدًا معاصرًا للعماليق، بينما اعتبر 93% منهم أن الأمر التوراتي “محو ذكرى العماليق” هو ما يجب أن يُطبّق اليوم. والعماليق اسم ذُكر في التوراة ويُقصد به “الكنعانيون الشرقيون”، وكانوا أول شعب وقف في وجه بني إسرائيل، ولذلك جاء ذكرهم في سفر العدد: “العماليق أوّل الشعوب، وأما آخرته فإلى الهلاك”.
كما تكرّر ذكرهم في سفر التثنية بصفتهم العدو القديم الأبدي للإسرائيليين”: “اذكر ما فعله بك عماليق، وامحُ ذكرهم من تحت السماء”، وهو الاقتباس الذي كرّره حاخامات عدّة من بينهم حاخام صفد شموئيل إلياهو، الذي دعا لمعاقبة غزة بمنطق العماليق، بينما استخدم نتنياهو الصفة ذاتها لشرعنة الحرب وتأكيد أنها محوٌ للشر من جذوره، مستدعيًا نبوءة إشعياء: “نحن أبناء النور، بينما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام”.
من ضمن الأحداث التوراتيّة التي رُبط بها السابع من أكتوبر كان “سيمخات توراه” (عيد بهجة التوراة)، وهو أحد الأعياد التي وافقت يوم السابع من أكتوبر، والذي تم استخدامه في الخطاب للتأكيد على أن الفرح الديني المرتبط بالأعياد لم يكن محميًّا، وأنه دليلٌ آخر على أن “الهجوم” كان غضبًا إلهيًّا.
مفهوم “الغضب الإلهي” تكرّر بشدّة في خطابات المتديّنين والحاخامات -على العكس من الساسة- حتى غدا صفة ملازمة للحدث. عبّر عن هذا المفهوم الحاخام يعقوب روزاه، الذي عاد إلى خدمة الجيش بعد السابع من أكتوبر، مبرّرًا ذلك بأن ما جرى ترك حتى التقاليد المكتوبة الضخمة في اليهودية في حيرةٍ من أمرها، وقائلًا: “الواضح أن الله ضربنا ضربةً قاسية. لم تكن مجرّد صفعة”.
بينما وصفه آخرون بيوم اختبار، أو “استفاقة دينيّة”، نتيجة ازدياد عدد الإسرائيليين (1 من كل 4) المشاركين بالممارسات الدينية التقليدية (الصلوات، قراءة المزامير، ارتياد المعابد)، كما ارتفع حضور الصلوات العامة (خاصة في الساحات والمعابد)، وحتى في صفوف العَلمانيين الذين شاركوا فيها بحثًا عن عزاء أو معنى.
كما ظهر مفهوم آخر ارتبط بالخطيئة التي أخرجت الغضب الإلهي، ألا وهو مفهوم التوبة، الذي خرج بنمطٍ سياسي عنوانه “شعب إسرائيل حي”، للربط بين الحاجة للحرب المقدّسة وبين بقاء الأمة اليهودية، واعتبار أيّ تساهل خيانة دينيّة وقومية في الوقت نفسه.
حيث يقول الحاخام الدكتور حاييم فايسمان: “يتجاهل حكماء أرض إسرائيل الخطيئة، بل ينظرون إليها مباشرةً ويقولون ببساطة: هذه أخطر خطيئة في تاريخ إسرائيل. ومن هنا تحديدًا يكشفون سرًّا عظيمًا: أن الخطيئة نفسها أصبحت مفتاح التوبة، ليس لداود فحسب، بل لجميع الأجيال القادمة”.
هذه الخطابات وجدت صداها في الشارع الإسرائيلي، ففي مسحٍ أجرته جامعة رايخمان (Reichman University) في سبتمبر/ أيلول 2024، أفاد 37% من الإسرائيليين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا، بزيادة في إيمانهم بالله منذ السابع من أكتوبر، مقارنةً بنسبة 18% فقط بين من تبلغ أعمارهم 56 عامًا فأكثر، كما أفاد الشباب بارتفاع معدّل التزامهم بالتقاليد الدينيّة.
وهو ما وصفه الحاخام ديفيد ستاف، رئيس منظمة “تسوهار” الحاخامية، بأنه “مؤشّر على صحوة يهوديّة، وهي تعبير عن تبنّي بعض العادات الدينية اليهودية”، بينما فسّره الباحث آخيل ويرزبرغر، بالقول: “ممارسة الشعائر الدينية تمنحنا أدوات لفهم الواقع في المواقف المؤلمة، لأن لغتها واضحة ومألوفة”.
كيف اجتمع المتديّنون والعَلمانيون في خطابٍ واحد يبرر المحو؟
هذه الإشارات والتصريحات والمواقف لا تعني تحديدًا أن المجتمع الإسرائيلي -الذي يُعرّف 64.5% منه أنفسهم بأنهم عَلمانيّون- تحوّل بين ليلةٍ وضحاها إلى مجتمعٍ دينيّ. حتى الحاخامات والمتديّنون يدركون ذلك، حيث يقول الحاخام ويرزبرغر: “هذه التصنيفات لم تكن دقيقة قط، لأنها كانت تعتمد على مفاهيم العَلمانية المسيحية الحديثة”.
يفسّر الحاخام ستاف ذلك: “لم تكن الأغلبية الإسرائيلية عَلمانيّة حقًا؛ فبعض الأفراد “العَلمانيّين” يؤمنون بالله، بينما يمارس آخرون بعض التقاليد للبقاء على اتصال بالثقافة السائدة. كانت تسمية “متديّن” حتى 7 أكتوبر/ تشرين الأول اجتماعية، لكننا الآن نواجه فترة سنلتقي فيها بالعديد من الأفراد غير المتديّنين، ولكنهم يهود متشدّدون، والذين سيبدون عَلمانيّين تمامًا – رجالٌ بدون قلنسوة ونساءٌ بسراويل قصيرة – لكن هويتهم ستكون أكثر تقليدية ويهودية”.
يتقاطع قول ستاف مع تفسير الباحث خالد عودة الله لعلمانية ويسارية المجتمع الإسرائيلي، الذي يرى أنها لا تقوم على قطيعة مع الدين بل على إعادة تعريفه كهوية وانتماء ثقافي، وأن المدارس العَلمانية الصهيونية تُسهم بغرس الانتماء الثقافي الديني بنفس جهد المدارس الدينيّة من خلال الرحلات، وسرد القصص، وترسيخ الرموز التوراتيّة، لذا فالمجتمع ليس مقسّمًا ببساطة بين العَلمانيّين والمتديّنين، وأن هناك تفاعلًا داخليًّا يجعل العَلماني متأثرًا بالرموز الدينية والتوراتيّة.
في الواقع، فإن الخطاب الديني الإسرائيلي الذي يسترشد بالغضب أو التوبة ليس جديدًا، بل هو تكرارٌ لخطاب ما بعد أكتوبر 1973، الذي هيمن من خلال تفسيره للفشل الاستخباراتي والتراخي الدفاعي، وقدم أدوات معنوية لشرح الهزيمة وربطها بالفرد والمجتمع، والدعوة للإصلاح الروحي والأخلاقي لتجاوزها.
في حرب 1974 حضر الاختبار والعقاب، لكن في 2023 حضرت الأحزاب الدينيّة والحركات المسيانيّة، التي استفادت من هذا الخطاب، ودمجته مع تحرّكات سياسية وعسكرية، من قبيل الضم والتوسّع نحو شرق الأردن، واحتلال غزة، وغيرها، مستفيدة من العاطفة الشعبيّة الصاخبة المتقاطعة مع دعوات العنف.
من العقاب إلى الخلاص
أبرز المستثمرين في تصاعد الخطاب الديني كانت الجماعات المسيانيّة، التي أثخنت في تديين الحرب وتسييس الدين بما يخدم مصالحها، مستفيدة من ثنائيّة التطرّف والتديّن التي تتميّز بها. فقد عمل ممثلو الصهيونية الدينيّة، أمثال بن غفير وسموتريتش وحاخامات اليشيفا، على تصدير السابع من أكتوبر باعتباره مرحلة نحو الخلاص التوراتي.
وبناءً عليه، أعادت طرح احتلال غزة، وتوسيع الاستيطان في الضفة، والمحو الفلسطيني الكامل، واحتلال المزيد من البلدان العربية، باعتبارها وصايا دينيّة، وواجبات توراتيّة، وخطة إلهيّة يجب العمل على تنفيذها للوصول إلى الخلاص الكامل، والتفوّق النهائي للشعب اليهودي.
ولأن الخطاب حظي بإجماع الجمهور الواقع تحت الصدمة، والمتعطّش للانتقام، وجدت الحركات الدينيّة القومية المتطرفة المزيد من النفوذ السياسي والاجتماعي داخل وخارج “إسرائيل”، خاصة جمهور الصهاينة المسيحيّين، الذين تقود عقيدتهم حول نهاية العالم طبيعة علاقتهم مع الكيان.
من بين هؤلاء، هناك الإنجيليون الأمريكيّون الذين يعتقد 63% منهم أن السابع من أكتوبر وما تلاه هو جزء من صراع “نهاية الزمان”، والذين أطلقوا خلال أكتوبر “أول شهر من الحرب” حملة تبرّعات حصدت أكثر من 1.4 مليار دولار داخل أمريكا وحدها، كما نظّموا تجمّعات لمؤيّدي “إسرائيل” تجاوز حضورها مئات الآلاف، معظمهم من الشباب.
تلتقي الإنجيليّة الصهيونية مع الحركات الدينيّة القومية داخل “إسرائيل” أيضًا، باعتبارها قيام الدولة على كامل فلسطين تحقيقًا لنبوءة الكتاب المقدّس، وبالتالي تستحق الدعم الأمريكي، كما أن إعادة بناء الهيكل اليهودي، الذي سيُعاد بناؤه -وفق هذا المفهوم- في موطن قبة الصخرة الإسلامية والمسجد الأقصى، جزء من نبوءة آخر الزمان. بل وترفع الشعارات الدينية نفسها: “ادعموا إسرائيل الآن، وهي تقاتل البرابرة عند أبوابها”. التقاء المصالح هذا بين الصهيونية الدينيّة داخليًا والإنجيليّة خارجيًا، سمح بتمرير أجندات سياسيّة–استيطانيّة تحت غطاء نبوئي.
من بينها تعويض الخسائر الديموغرافيّة، فبمثل ما تسعى الحركات اليمينيّة المتطرفة لاستثمار السابع من أكتوبر لزيادة الكثافة السكانية اليهودية، تفتح المنظمات الإنجيليّة الصهيونيّة الباب لدعم الشباب اليهود للزواج أو إنجاب طفلٍ آخر لتعويض قتلى أكتوبر (1200 قتيل)، كما تستخدم التحريض لفرض أفكارها وأجندتها على المستويات السياسية، وخاصة خارج “إسرائيل”، ما حوّل الصراع من مجرد مواجهة أمنيّة إلى معركة وجوديّة خلاصيّة يتقاطع فيها المحلّي بالتوراتي والعالمي.
وبالتوازي مع المكانة السياسيّة والحكوميّة للصهاينة المتديّنين الإسرائيليين، الذين يشكّلون دعامة هامة للحكومة الحالية، تم تمرير أفكار سياسية متطرفة وحصد الدعم لها، بالتوازي مع تحالفات وظيفيّة على مستوى عالمي، يقدّم الأول الأجندة السياسية والوجود الميداني، بينما يقدّم الثاني الشرعيّة العالميّة والموارد الماليّة والضغط السياسي.
هذا التحالف حوّل خطاب الحرب من ردٍّ أمني، إلى مشروعٍ وجودي، يستهدف التوسّع والطرد والتهجير والمحو، وتحت ظلال خطابٍ توراتي يتم تفعيله سياسيًّا، ونقله من حيز الحاخامات إلى حيز السياسة، ما حوّل كُلا من الصهيونية الدينيّة التي يقودها بتسلئيل سموتريتش، وحزب عوتسما يهوديت (بقيادة إيتمار بن غفير)، إلى مترجمين للخطاب الديني بتعابير سياسيّة.
يرتبط ذلك أيضًا باستطلاعات الرأي التي أظهرت ارتفاعًا في تأييدها، خصوصًا بين فئات الشباب 18-30، الذين رأوا أن الأحزاب الدينيّة أكثر جدّيّة في التعامل مع الأمن من الليكود أو الوسط، وأقدر على إدارة الصراع والانتقام من الفلسطينيين، وإعادة إحياء الدولة.
وهكذا، تحوّل خطاب “المحو الكامل” لغزة إلى مطلب جماهيري إسرائيلي، وليس مجرد سعي يميني، وأضحت الميليشيات الاستيطانيّة المرتبطة باليمين المتطرّف تحظى بدعمٍ حكومي وشعبي ساحق، كما مُنحت ضوءًا أخضر من الجيش لإطلاق حملاتها في مهاجمة الفلسطينيين، والتوسّع في الضفة على حسابهم.
بالمحصلة، بعد 7 أكتوبر، لم تعد الصهيونية الدينيّة والحركات المسيانيّة مجرد تيارٍ صاخبٍ مغرّدٍ خلف السرب، بل غدت قائدةً للسرب ومحركًا أساسيًّا للسياسات والجمهور الإسرائيلي، بتحوّلها لصوتٍ شعبي، وإطار سياسي رسمي يكشف الوجه الحقيقي لدولة “إسرائيل”.
في السياسة أو الجيش، في قطاع التكنولوجيا أو الزراعة أو الطب، “لا يوجد ملحدون في الخنادق”، ولا يوجد يساريون عَلمانيّون في الكيان. هناك نبوءات توراتيّة تظهر حينًا وتختفي حينًا آخر، لكنها منذ البداية حتى النهاية، منذ صك الشيكل الأول وحتى حدود العلم الوطني، تظل حاضرة لتبرير الهجوم القادم، أو ربما الإبادة الأخيرة لمن بقي من الفلسطينيين.