في ظلّ التحوّلات الجيوسياسيّة المتسارعة التي يشهدها العالم، تبرز إسبانيا كدولة أوروبية تتخذ مواقف أكثر حزمًا واستقلاليّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة. لقد شهدت سياستها الخارجيّة تحوّلًا ملحوظًا، خاصّة فيما يتعلّق بالتعامل مع الإبادة الجارية في قطاع غزة. هذه الخطوات، التي تتراوح بين الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة، وتصريحات المسؤولين الإسبان، إلى الإدانات والتحرّكات الدبلوماسيّة، والمقاطعة التجاريّة والرياضيّة، تعكس إرادة مدريد في إعادة صياغة علاقاتها مع “إسرائيل” على أسس أكثر عدالة، واستنادًا إلى القانون الدولي.
في هذا المقال، نحاول نقاش وتحليل الأسباب والدوافع وراء هذا التغيير، وكيف يمكن أن يؤثر على الموقف الأوروبي العام من الصراع، فضلًا عن استعراض ردود الفعل الإسرائيليّة على هذه المبادرات.
الجذور التاريخيّة والثقافيّة
لم يكن الموقف الإسباني الحالي من القضيّة الفلسطينيّة حدثًا معزولًا عن سياقه التاريخي. فخلال فترة حكم الجنرال فرانشيسكو فرانكو، لم تعترف إسبانيا بـ”دولة إسرائيل”، بل انحازت إلى العالم العربي في سعيها لكسر عزلتها الدوليّة بعد الحرب العالميّة الثانية، كما أنها قد منعت واشنطن من استخدام قواعدها العسكريّة على الأراضي الإسبانيّة لإرسال أسلحة إلى “إسرائيل” خلال حرب عام 1973، واشترطت إقامة علاقات دبلوماسيّة بالانسحاب من الأراضي العربيّة المحتلّة وتدويل القدس.
وعلى الرغم من الاعتراف بـ”إسرائيل” عام 1986 بعد انضمام إسبانيا للمجموعة الاقتصاديّة الأوروبيّة، إلا أن مدريد حافظت على موقفها الرافض للاحتلال. وقد سعت إسبانيا لاحقًا للعب دور نشط في الصراع عبر استضافتها لمؤتمر مدريد للسلام عام 1991، الذي مهّد الطريق لاتفاقيّة أوسلو.
بعكس دول مثل ألمانيا، التي يوجّه موقفها “التزام تاريخي وأخلاقي” تجاه “إسرائيل” بسبب إرث الهولوكوست، أو بريطانيا التي تربطها بها شراكات استراتيجيّة عميقة، فإن إسبانيا لا تقع تحت نفس الضغط التاريخي. بل على النقيض من ذلك، فإن جزءًا كبيرًا من الشعب الإسباني يتمتّع “بوعي جمعي بتاريخ الأندلس وتراثها وروابطها الثقافيّة بالعالم العربي”.
هذه الذاكرة التاريخيّة والثقافيّة تتحوّل إلى عامل سياسي فعّال يساهم في خلق “حسٍّ تعاطفي” مع القضايا العربيّة، وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينيّة، وهذا التعاطف بدوره يصبح أداة في يد الحكومة الائتلافيّة الحاليّة لتعزيز صورتها الدبلوماسيّة كمدافعة عن القانون الدولي وحقوق الإنسان.
المشهد السياسي الإسباني
يُعدّ المشهد السياسي الداخلي عاملًا محوريًّا في فهم التحوّل الإسباني الأخير. فالحكومة الإسبانيّة الحالية، بقيادة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، هي حكومة ائتلافيّة تعتمد في بقائها على دعم أحزاب اليسار، مثل حزب “سومار” و”بوديموس”، التي تعتبر القضيّة الفلسطينيّة أولويّة سياسيّة غير قابلة للتفاوض.
وقد تجلّى هذا التأثير بوضوح في تصريحات نائبة رئيس الوزراء ووزيرة العمل، يولاندا دياز، التي أنهت خطابًا لها في مايو 2024 بعبارة: “من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرّر”، ما أثار ردود فعل إسرائيليّة غاضبة، ووصفتها بأنها “معادية للسامية”.
إنّ الموقف المتقدّم للحكومة الإسبانيّة يمكن تحليله باعتباره ضرورة سياسيّة للبقاء في الحكم. فرئيس الوزراء سانشيز يُوصَف موقفه بأنه “انعكاس عمليّ لائتلافه الذي يعتمد على دعم اليسار”، ما يشير إلى أن سياسته الخارجيّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة هي جزء من استراتيجيّة أوسع لإدارة التحالفات الداخليّة، ما يمنحها مرونة في الانحراف عن الخط الأوروبي التقليدي.
كما يُشكّل الرأي العام الإسباني قاعدة شعبيّة صلبة وراء الموقف الحكومي، ما يفسّر، ولو بشكل جزئي، مدى جرأة مدريد في مواقفها. فقد شهدت المدن الإسبانيّة الكبرى، من مدريد إلى برشلونة، مظاهرات حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف، مطالبين بوقف “الإبادة الجماعيّة” في غزة.
وقد عبّر رئيس الوزراء سانشيز عن “إعجابه العميق بالشعب الإسباني الذي يتحرّك من أجل قضايا عادلة مثل فلسطين”، ما يعكس تفاعلًا واضحًا بين الشارع والقرار السياسي.
أيضًا، تؤكّد استطلاعات الرأي أن هذا الحراك يمثّل رأيًا عامًا راسخًا. فقد كشف استطلاع حديث للرأي، أجراه معهد “ريال إلكانو” الإسباني، أن غالبيّة ساحقة من الإسبان تعتبر أن “إسرائيل” ترتكب “إبادة جماعيّة” في غزة. كما أظهرت نتائج الاستطلاع أن الإسبان يُلقون المسؤوليّة عمّا يحدث في غزة بشكل رئيسي على إسرائيل، حيث يعتقد 50% من المشاركين أن إسرائيل هي المسؤولة الأكبر، مقابل 16% فقط يعتقدون أن المسؤوليّة تقع على عاتق الفلسطينيين، بينما يرى 34% أن المسؤوليّة مشتركة بين الطرفين.
أمّا فيما يتعلّق بالحل السياسي، فإن 60% من الإسبان يؤيّدون حلّ الدولتين، بينما 78% يؤيّدون الاعتراف الفوري بدولة فلسطين.
الشرعيّة الدوليّة والإجراءات الدبلوماسيّة
لقد تبنّت الحكومة الإسبانيّة خطابًا دبلوماسيًّا واضحًا يتمحور حول الدفاع عن القانون الدولي والإنساني. وقد شكّك رئيس الوزراء الإسباني سانشيز علنًا في التزام “إسرائيل” بالقانون الدولي، مشيرًا إلى “العدد المهول وغير المقبول” من الضحايا في غزة. ولهذا السبب، سعت إسبانيا إلى تقديم نفسها كـ “مدافعة عن الشرعيّة الدوليّة وحقوق الإنسان”، ما يجعل تبنّيها للقضيّة الفلسطينيّة أداة لتعزيز صورتها الدبلوماسيّة على المستوى العالمي.
كما اتّخذت هذه المبادئ شكل إجراءات قضائيّة ملموسة، حيث أمر المدّعي العام الإسباني بالتحقيق في “الإبادة الجماعيّة والجرائم الأخرى ضد الإنسانيّة” التي تُتّهم “إسرائيل” بارتكابها في غزة. هذا المسعى يتماشى مع جهود مدريد لتعزيز التعاون مع فلسطين، وزيادة المساعدات الإنسانيّة لغزة إلى 150 مليون يورو.
كان الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينيّة في 28 مايو 2024 هو أبرز وأقوى خطوة اتّخذتها إسبانيا، إلى جانب أيرلندا والنرويج. وقد أدّى هذا القرار إلى رفع مستوى العلاقات الدبلوماسيّة، حيث استقبل العاهل الإسباني، الملك فيليبي السادس، أول سفير لدولة فلسطين في مدريد في سبتمبر عام 2024. وعلى صعيد المحافل الدوليّة، تعمل إسبانيا مع فلسطين على تقديم مشروع جديد للأمم المتحدة لمطالبة “إسرائيل” بإنهاء حصار قطاع غزة.
بالإضافة إلى التحركات الدبلوماسيّة، اتّخذت إسبانيا إجراءات اقتصاديّة وعسكريّة مباشرة. فقد تدهورت العلاقات التجاريّة بين إسبانيا و”إسرائيل” بشكل متسارع، حيث أعلن نادي المصدّرين والمستثمرين الإسبان أن الصادرات إلى “إسرائيل” تراجعت بنسبة 11.7% في عام 2023، ووصل هذا التراجع إلى 35.6% في فبراير من عام 2024. والأهم من ذلك، قامت وزارة الدفاع الإسبانيّة بإلغاء صفقتين دفاعيّتين بقيمة تقارب المليار يورو مع شركات إسرائيليّة.
رئيس الوزراء الإسباني:
قررنا إغلاق مجالنا الجوي أمام كل الطائرات التي تحمل أسلحة أو ذخائر إلى إسرائيل
قررنا إغلاق الموانئ الإسبانية أمام البواخر الإسرائيلية التي تحمل أنظمة دفاعية
الحكومة ستقر مشروع قانون لتطبيق حظر فعلي على الأسلحة ضد إسرائيل pic.twitter.com/xQX6O8nBE4
— نون بوست (@NoonPost) September 8, 2025
كما امتدّ الموقف الإسباني ليشمل المجالين الثقافي والرياضي، حيث هدّدت هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسبانيّة الرسميّة (RTVE) بالانسحاب من مسابقة “يوروفيجن 2026” في حال مشاركة “إسرائيل” فيها. وذهبت الحكومة الإسبانيّة أبعد من ذلك، حيث لوّحت بمقاطعة بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2026 إذا تأهّلت “إسرائيل” للمشاركة، بينما دعا رئيس الوزراء بيدرو سانشيز صراحةً إلى “استبعاد إسرائيل من جميع البطولات الدوليّة”، كما حدث مع روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، مؤكّدًا أن “إسرائيل” لا يمكنها “الاستمرار في استغلال أيّ منصّة دوليّة لتلميع صورتها”.
يُعدّ الموقف الإسباني جزءًا من اتّجاه أوروبي متزايد نحو النقد العلني لـ”إسرائيل”، تقوده إسبانيا إلى جانب دول مثل أيرلندا، بلجيكا، والنرويج. هذا الاتّجاه يمثّل شرخًا حقيقيًّا في الموقف الأوروبي الذي كان غالبًا ما يتّسم بالتضامن التقليدي مع “إسرائيل”.
بينما تواصل دول مثل ألمانيا وبريطانيا دعمها الثابت لـ”إسرائيل” بناءً على إرثها وشراكاتها الاستراتيجيّة، حيث تُعدّ ألمانيا أكبر مزوّد أوروبي بالسلاح لـ”إسرائيل”، بصادرات بلغت 326 مليون يورو في عام 2023، كما صدّرت بريطانيا معدّات عسكريّة بقيمة 18 مليون جنيه إسترليني في نفس العام، فإن معسكر النقد المتصاعد يكتسب زخمًا.
على النقيض، علّقت إسبانيا جميع صادراتها العسكريّة وألغت عقودًا قائمة، كما فعلت أيرلندا والنرويج، اللتان علّقتا تعاونهما العسكري مع “إسرائيل”، ما يعكس التباين الواضح في السياسات الأوروبيّة، ففي حين تلوّح فرنسا وبريطانيا باتّخاذ إجراءات عقابيّة، فإن إسبانيا تقود بالفعل خطوات ملموسة، مثل الدعوة لتعليق الشراكة الأوروبيّة مع “إسرائيل”، وتهديدها بالمقاطعة الرياضيّة.
ردود الفعل الإسرائيليّة
تمثّلت أولى ردود الفعل في استدعاء وزارة الخارجيّة الإسرائيليّ” لسفير إسبانيا “لإجراء محادثة توبيخ حادّة”. وقد وصلت حدّة التصريحات إلى مستويات غير مسبوقة، حيث وصف وزير الخارجيّة “الإسرائيلي” الموقف الإسباني بأنه “عار على إسبانيا”، واتّهم الحكومة الإسبانيّة بدعم “المزاعم الكاذبة” و”الإرهاب”، كما وصف تصريحات نائبة رئيس الوزراء، يولاندا دياز، بـ “المعادية للسامية”.
يُظهر هذا الردّ أن “إسرائيل” لا تتعامل مع الموقف الإسباني على أنه مجرّد خلاف دبلوماسي، بل كجزء من استراتيجيّة أوسع لتجريد الموقف الإسباني من شرعيّته الأخلاقيّة والقانونيّة. وهناك شبه إجماع في الداخل”الإسرائيلي، من اليمين واليسار، على أن الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة “في هذا التوقيت معناه أن العالم يقف إلى جانب حماس”.
لم تكتفِ “إسرائيل” بالرّد اللفظي، بل اتّخذت إجراءات انتقاميّة مباشرة. فقد قرّر وزير الخارجيّة الإسرائيلي قطع العلاقة بين القنصليّة الإسبانيّة في القدس والفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة، ومنعها من تقديم أيّ خدمات لهم. هذا الإجراء، الذي يهدف إلى معاقبة إسبانيا على اعترافها، هو أيضًا إجراء رمزي يؤكّد على العقليّة الإسرائيليّة القائمة على فكرة “المكافأة والعقاب”، وإظهار أنها لن تتهاون مع أيّ دعم للفلسطينيّين، كما تُبرز عمق التوتّر بين البلدين وتؤكّد على أن الموقف الإسباني أحدث شرخًا في العلاقات الثنائيّة.
نهايةً، إنّ التحوّل في السياسة الخارجيّة الإسبانيّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة هو ظاهرة معقّدة ومتعدّدة الأوجه، لا يمكن اختزالها في عامل واحد. إنّها نتيجة تضافر عوامل تاريخيّة وثقافيّة عميقة، مع ديناميكيّات سياسيّة داخليّة وحراك شعبيّ متنامٍ، وكلّ ذلك في ظلّ متغيّرات جيوسياسيّة تضع القيم الإنسانيّة والقانون الدولي على المحكّ.
وفي الإجابة على التساؤل حول ما إذا كان هذا التحوّل مجرّد “لفتة رمزيّة” أم بداية لواقع جيوسياسي جديد، فالخطوات الملموسة، مثل إلغاء عقود الأسلحة الكبرى، وتراجع العلاقات التجاريّة بشكل حادّ، وتهديدات المقاطعة الثقافيّة والرياضيّة، تؤكّد أن الموقف الإسباني أصبح يتمتّع بوزن ماديّ ودبلوماسيّ ملموس، وحتى إن لم يُحدِث تحوّلًا جيوسياسيًّا كبيرًا.
ومع ذلك، يظلّ مستقبل هذا الموقف مرهونًا بالديناميكيّات السياسيّة الداخليّة في إسبانيا. فالموقف المتقدّم الحالي مرتبط بشكل مباشر بوجود الحكومة الائتلافيّة اليساريّة، وقد يتغيّر هذا الموقف في حال وصول حكومة جديدة أكثر ميلًا لليمين في الانتخابات المقبلة. ومع ذلك، فإنّ الموقف الإسباني الراهن فتح الباب أمام دول أخرى قد تسعى لاتباع نهج مماثل، ما يُساهم في إعادة تعريف دور أوروبا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من مجرّد راعٍ محايد إلى طرف فاعل ومؤثّر يسعى لفرض حلّ عادل وقائم على القانون الدولي.