السودان: من المستفيد من تفكيك القوى المدنية؟

نشبت الحرب في السودان أثناء استعداد القوى المدنية لاستلام السلطة من الجيش وميليشيا الدعم السريع، بعد أن شارفت العملية السياسية الميسرة دوليًا على نهايتها، حيث جرى التوافق على جميع القضايا الخلافية باستثناء المسائل العسكرية المتعلقة بالقيادة والسيطرة وسنوات الدمج.
قادت هذه المسائل العسكرية والتوتر الواضح بين الجيش والميليشيا إلى اندلاع النزاع في 15 أبريل/نيسان 2023، رغم أن الجميع آنذاك كان متفقًا على ضرورة تسليم السلطة إلى المدنيين، بما في ذلك قائدا القوات المسلحة والدعم السريع.
وحاليًا، لا يُذكر الانتقال المدني إلا على استحياء، بعد أن أنتجت الحرب أزمات جديدة، منها التفكك المستمر للقوى المدنية التي انقسمت بدايةً حول أسباب ودواعي اندلاع الصراع المسلح، قبل أن يصل الأمر إلى انقسامات داخلية شلت قدرتها على الحركة في ظل انعدام حرية العمل، مرورًا بتعرض كوادرها لاغتيالات واعتقالات.
أُصيبت القوى المدنية، سواء المصطفّة مع أطراف النزاع أو التي تدعو لإنهاء الحرب بطرق سلمية، بشلل كامل، حيث لم تعد قادرة على طرح رؤى جديدة. فيما الواقع داخليًا يقول إن نقاش قضايا وقف النزاع والتحول الديمقراطي والحقوق بات جريمة تُزجّ بك في السجن بذريعة التعاون مع الطرف الآخر.
توثيق انتهاكات خطيرة طالت أكثر من ثلاثة آلاف شخص بـ«الجزيرة»
قال مرصد الجزيرة لحقوق الإنسان، الاثنين، إنه وثق حالات اختفاء قسري واغتصاب وتصفية وتزايد مراكز الاعتقال التي يُحتجز فيها أكثر من ثلاثة آلاف فرد في ولاية الجزيرة وسط السودان. وأفاد التقرير بأن “عدد المعتقلين في مدينة ود… pic.twitter.com/Fliz1PlGNc
— سودان تربيون (@SudanTribune_AR) September 16, 2025
أول الضحايا
إن انتقال السودان من حلم الانتقال الديمقراطي إلى واقع تسوده عسكرة الفضاء العام، وتحول طرفي النزاع إلى كسب شرعية عبر السلاح، يؤكد أن أول عواقب تفكك القوى المدنية تتمثل في جعل البلاد مناطق متنازع عليها دون أدنى استقرار.
بدأت أول بوادر الانشقاقات في اصطفاف بعض أطراف الحركة الاحتجاجية التي نظمت الاحتجاجات ضد الانقلاب الذي نفذه قائدا الجيش والدعم السريع في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، إلى جانب القوات المسلحة ضد الميليشيا بذريعة الحفاظ على الدولة.
ويبدو أن انضمام بعض أطراف الحركة الاحتجاجية في القتال إلى جانب الجيش مفهوم من سياق رفضها القديم لوجود الدعم السريع في السلطة، حيث كانت تطالب بحله وتسميه بـ “الجنجويد”، وهي الجماعات المسلحة التي تأسست منها الميليشيا.
وعملت أطراف الحركة الاحتجاجية الباقية على كشف الانتهاكات وتقديم الغذاء والمساعدة الطبية إلى العالقين في مناطق النزاع النشطة تحت مسمى “غرف الطوارئ“.
ونشطت ميليشيا الدعم السريع إبان سيطرتها على الخرطوم في اعتقال وتعذيب وتصفية أعضاء في غرف الطوارئ، دون التواني عن نهب الموارد التي يحصلون عليها من التبرعات، وهو ذات الأمر الذي فعله الجيش بعد استعادته الخرطوم باستثناء النهب، فيما أضافت الحكومة منع أنشطتها إلا بموجب موافقة مسبقة.
اليوم، اختفت معظم أنشطة الحركة الاحتجاجية، وهي عبارة عن لجان قاعدية في الأحياء السكنية دون قيادة واضحة، بعد أن كانت تستطيع قبل اندلاع النزاع حشد عشرات الآلاف من المتظاهرين، خاصة في الخرطوم التي لا تزال تحتفظ بثقلها السياسي رغم الدمار الواسع الذي لحق بها.
انشقاقات متوالية
حاولت تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية “تقدم”، وهي تحالف تكوّن بعد الحرب من قوى سياسية أبرزها الحرية والتغيير وجماعات مسلحة وأطراف من الحركة الاحتجاجية ومجموعات من المجتمع المدني، حشد أكبر قدر من الكيانات الرافضة لاستمرار النزاع، لكن سرعان ما طاله الانقسام.
انشق ائتلاف “تقدم” بعد جدل استمر أشهرًا حول إعلان حكومة منفى إلى شقين، أحدهما تحالف مع الميليشيا ومضى في اتجاه تشكيل حكومة موازية للسلطات الرسمية، والآخر تزعمه رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بمسمى التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة “صمود”.
ولم ينجُ التحالف الجديد من بوادر الانشقاق، حيث جمّد التيار الثوري الديمقراطي الذي يرأسه ياسر عرمان أنشطته في بعض مؤسسات الائتلاف نتيجة لخلافات تنظيمية.
وظل الائتلاف يتحدث عن إنهاء النزاع بطرق سلمية وإعادة السلطة إلى المدنيين عبر عملية سياسية، دون توضيح طرق تحقيق ذلك، كما لم يستطع إنتاج خطاب مقنع يعالج إفرازات الحرب مثل وجود حكومتين في السودان تتنازعان في الشرعية، وانتشار الميليشيات وتوسع نفوذها، إضافة إلى الأزمة الإنسانية والانتهاكات والنزوح.
يواجه نحو 24.6 مليون شخص في السودان أزمة غذائية حادة بينهم 2 مليون على حافة المجاعة و700 ألف طفل مهددون بسوء تغذية حاد فيما سُجلت أكثر من 105 آلاف إصابة بالكوليرا والقرّابة و2,600 وفاة حتى سبتمبر وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. pic.twitter.com/hcfoJ56KLQ
— نون بوست (@NoonPost) September 12, 2025
الواقع يقول، وهذا ليس تشاؤمًا، بأن التحالف الذي فشل في إقناع بعض أطرافه بعدم الذهاب مع الميليشيا لتكوين حكومة موازية عرضت وحدة السودان للخطر، قد لا يستطيع فعل شيء آخر في ظل انعدام الثقة بينه وبين الجيش والدعم السريع.
وقيدت النيابة العامة دعاوى تصل العقوبة فيها إلى الإعدام ضد قادة تحالف “صمود”، على رأسهم حمدوك، وهذا أول ما يعرقل فعالية القوى المدنية في نقاش ما آلت إليه الأوضاع في السودان.
وهذا الانقسام الذي حدث في تحالف “تقدم” انطبق أيضًا على الأحزاب السياسية، حيث انقسم التجمع الاتحادي إلى قيادتين، واحدة تقف مع الجيش وأخرى ضد استمرار النزاع، كما انشقت قيادات من المؤتمر السوداني وانضمت إلى الميليشيا.
ووصل الأمر في حزب الأمة القومي إلى الانقسام إلى ثلاثة تيارات، أولها يقوده رئيسه الجنرال المتقاعد من الجيش فضل الله برمة ناصر وانضم إلى الميليشيا بدواعٍ قبلية، فيما الثاني يقف مع الجيش بذريعة حماية الدولة، والأخير يرفض الحرب ويدعو إلى حل سياسي شامل.
هذه الانقسامات أدت عمليًا إلى تفكيك المشهد المدني، بحيث لم تعد هناك قوة قادرة على الادعاء بأنها تمثل الشارع السوداني أو تحمل مشروعًا موحدًا لإنهاء الحرب.
الخوف من المحاسبة
يوضح القانوني طارق عبد الله أن أطراف النزاع تركز على تفكيك القوى المدنية أكثر من الصراع المسلح، حيث لا تريد مجتمعًا مدنيًا فاعلًا يتساءل عن مصادر تمويل الحرب، بما في ذلك السيطرة على مناجم الذهب والضرائب والنفط والإمداد الخارجي.
ويقول لـ نون بوست إن الطرفين استمالا قوى سياسية تردد سردية استمرار الحرب، حيث تتحدث المؤيدة للجيش عن ضرورة دعمه للحفاظ على الدولة، فيما التي تؤيد الدعم السريع تُجادل عن عدم عدالة الدولة فيما يُعرف بنظرية الهامش، بعد أن فندت الأيام جميع ذرائع الميليشيا حول اندلاع النزاع.
وفي ذات السياق، يؤكد المحلل السياسي الفاضل محيي الدين عدم وجود مصلحة لأطراف النزاع في طرح قضايا الحقوق المدنية والتحول الديمقراطي والتعدد السياسي وحرية التعبير وكشف الانتهاكات.
ويضيف لـ نون بوست إن القادة العسكريين لا يريدون انتهاء الحرب خشية المساءلة عن الانتهاكات التي ارتُكبت في سياق النزاع، كما أن وقفها يعني إبعادهم عن الحكم وتسليم السلطة إلى القوى المدنية، لذلك الحل الأمثل أمامهم هو تفكيكها عبر تجريمها وملاحقة كوادرها وإعلاء شأن الجماعات المسلحة باعتبارها تُدافع عن الوطن.
وضرب محيي الدين مثالًا بحديث رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان المتكرر بضرورة عودة السياسيين إلى رشدهم للترحيب بهم، وهذا قول يضعهم في دائرة التجريم رغم أنهم يطالبون بإنهاء النزاع الذي أدى إلى انهيار في جميع مناحي الحياة، بما في ذلك الانقسام الأهلي.
البرهان: أيِّ سياسي معارض يرجع لرشده وصوابه سيجد الساحة السياسية مرحبة به
الترجمة: اي سياسي يقول بل بس مرحب به.. اي سياسي بقول نعم للسلام يتمنع من الجوازات ولو جاء بورتسودان يتم اعتقاله pic.twitter.com/c7RC1eerR2
— Amel Alhassan (@alhassan_amel) September 19, 2025
المستقبل هو العنف
حاليًا، لا تستطيع أي قوى مدنية تناهض استمرار الحرب، سواء في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش أو الدعم السريع، عقد مؤتمرات تنظيمية أو ندوات عامة أو تنظيم احتجاجات، حيث لا تملك غير منصات التواصل الاجتماعي والمقابلات في وسائل الإعلام.
وساهم تواجد معظم قادة القوى السياسية والمدنية الرافضين للنزاع في دول أخرى مثل إثيوبيا وأوغندا وكينيا، في احتكار طرفي النزاع وحلفائهما للفضاء العام للترويج لسرديات الحرب والمعارك والتجنيد وبث مزيد من الخوف في نفوس المواطنين.
إن عدم وجود صوت ثالث يدعو إلى حل سياسي يعني تحول عسكرة الفضاء العام إلى نمط حياة، وانكماش مساحة الأمل في مستقبل آمن. لكن الأهم من ذلك أن القرارات التي تهم قطاعًا واسعًا من السودانيين، بما يشمل حق الحياة ذاته، تُتخذ على ضوء التطورات الحربية، وهذا يقود إلى الاستبداد، وبذلك يصبح السلاح أداة للشرعية.
ولا يملك السودانيون في الوقت الراهن غير الخضوع لسلطة الجيش أو الارتهان لسطوة الميليشيا، بما يرسخ الولاءات الضيقة والاستقطاب الأهلي، لتكون المحصلة النهائية فقدان الهوية الوطنية الجامعة، خاصة بعد أن تحولت البلاد إلى مناطق متنازع عليها.
وأدى انهيار القوى المدنية إلى جعل السودان عُرضة للتدخلات الخارجية، حيث ظهر ذلك بوضوح في عدم مشاركة الأحزاب والائتلافات في أجندة المشاورات التي أجراها الاتحاد الإفريقي في الفترة السابقة، والمشاورات التي أُعلن تنظيمها في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
مصدر رفيع في تحالف “صمود” لـ”الشرق”:
📌 تلقينا دعوة من الاتحاد الإفريقي و”إيقاد” والأمم المتحدة والجامعة العربية لاجتماعات في إثيوبيا من 6 إلى 10 أكتوبر
📌 لن نشارك في اجتماعات أديس أبابا لتحفظاتنا على “تصميم” عملية المشاورات بين الأطراف المدنية السودانية
📌 نتحفظ على نهج… pic.twitter.com/VZbygbzzm5
— الشرق للأخبار – السودان (@AsharqNewsSUD) September 22, 2025
في المحصلة النهائية، إن تفكيك القوى المدنية والسياسية ليس نتيجة للحرب، بل هدف نجح أطرافها في تنفيذه، ليصبح العنف هو الشرعية الوحيدة، حيث بات الفضاء العام ساحة للولاء الإجباري بدلًا من الجدال والنقاش. إذ من يرفض الحرب ويطالب بالسلام غير المشروط يُجرَّم.