جذور الموقف الإسباني من فلسطين: التاريخ واليسار والمجتمع المدني

لعقود طويلة، أقامت الدول الأوروبية علاقاتها مع “إسرائيل” على قاعدة الدعم الاستراتيجي، متأثرةً بالإرث التاريخي المرتبط بالمحرقة، وبالتحالف مع الولايات المتحدة، وبشبكات المصالح في مجالات الدفاع والتجارة والتكنولوجيا، فتمسكت تلك الدول بخطاب سياسي يؤيد “إسرائيل” في انتهاكاتها وممارساتها القمعية ضد الفلسطينيين تحت شعار “حق الدفاع عن النفس”، وتجنبت الإقرار بهذه الانتهاكات والممارسات، إلا أن حرب غزة الأخيرة شكّلت نقطة تحوّل بارزة في مواقفها تجاه فلسطين، إذ دفعت سياسات الإبادة الجماعية التي انتهجتها “إسرائيل” ضد المدنيين في غزة إلى بروز انقسام في مواقف تلك الدول تجاه تل أبيب.
تجلّت ملامح هذا الانقسام في اتجاهين رئيسين؛ دول واصلت تمسكها بالدعم التقليدي لـ”إسرائيل” مثل ألمانيا، المستندة إلى الشراكات العسكرية والإرث السياسي، في مقابل دول أخرى تبنّت مواقف أكثر نقدًا وتقدّمًا، مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا.
وفي قلب هذا المشهد، برزت إسبانيا كأكثر الدول وضوحًا وجرأة في مواجهة سياسات “إسرائيل”، إذ تخلّت عن التعاطف الخطابي معها ولجأت إلى اتخاذ إجراءات ملموسة، مثل زيادة المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، إلى جانب الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين.
يأتي هذا المقال ليضيء على جذور الدعم الإسباني لفلسطين، مستعرضًا أبعاده المتعلقة بالإرث التاريخي الممتد منذ عزلة نظام فرانكو، وصعود الأحزاب اليسارية ودورها في صياغة الخطاب السياسي تجاه فلسطين، وإسهامات المجتمع المدني الإسباني في تعزيز وتجذير موقف إسبانيا الداعم للقضية الفلسطينية.
الإرث التاريخي
لا يمكن فهم طبيعة العلاقات بين إسبانيا وفلسطين اليوم دون العودة إلى الإرث التاريخي الذي شكل الأسس الدبلوماسية والسياسية لهذا التوجه، فخلال عهد فرانكو، عاشت إسبانيا عزلة دولية بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة قربها من دول المحور، ما دفع النظام للبحث عن منافذ جديدة عبر العالم العربي.
في هذا السياق، برزت فلسطين باعتبارها جزءًا من استراتيجية مدريد لكسر العزلة وتعزيز موقعها الإقليمي، إذ امتنعت عن إقامة علاقات رسمية مع “إسرائيل” ورفضت التصويت على خطة تقسيم فلسطين، ما أرسى قاعدة لموقف إسباني متوازن قائم على الحساسية التاريخية والسياسية تجاه القضية الفلسطينية.
مع مرور الوقت، اتخذ هذا التوجه شكلًا أكثر وضوحًا عبر خطوات عملية على الصعيد الدولي، مثل إدانة الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب 1967، ورفض استخدام قواعدها العسكرية لإرسال أسلحة خلال حرب أكتوبر 1973، ودعم القرارات الأممية التي أكدت حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعيًا له.
مع انتقال إسبانيا إلى الديمقراطية بعد نهاية حقبة فرانكو، شهدت السياسة الخارجية الإسبانية تحولًا واضحًا تجاه القضايا الدولية، لا سيما القضية الفلسطينية، فقد اكتسبت مواقف دعم فلسطين عمقًا أكبر من خلال تأثير الأحزاب اليسارية، التي أصبحت قوة فاعلة في صياغة الخطاب السياسي للدولة. وقد لعب الحزب الاشتراكي دورًا محوريًا في تعزيز الدعم السياسي والدبلوماسي، واستضافة رموز فلسطينية، ورعاية مؤتمرات سلام مثل مؤتمر مدريد عام 1991.
كما ساهم الوعي الثقافي والاجتماعي للمجتمع الإسباني، المرتبط بتاريخ الأندلس وروابطه الممتدة مع العالم العربي، في تقوية التعاطف مع الفلسطينيين، ليصبح موقف إسبانيا تجاه فلسطين امتدادًا طبيعيًا لإرث تاريخي متراكم، يجمع بين الاعتبارات الأخلاقية والتقاليد السياسية ويستمر حتى السياسة الإسبانية المعاصرة.
دور الأحزاب اليسارية
تعود جذور تأثير الأحزاب اليسارية في تشكيل موقف إسبانيا الداعم لفلسطين إلى ما بعد سقوط نظام فرانكو في منتصف السبعينات، عندما بدأت إسبانيا في إعادة بناء هويتها السياسية والديمقراطية، ففي تلك الفترة، برز الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني (PSOE) كقوة رئيسية في الساحة السياسية، حيث فاز في الانتخابات العامة عام 1982 تحت قيادة فيليبي غونثاليث.
وقد منح هذا الفوز الحزب فرصة لتوجيه السياسة الخارجية الإسبانية، بما في ذلك مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، فخلال فترة حكمه، بدأت إسبانيا في تبني مواقف أكثر دعمًا للقضية الفلسطينية، حيث أيدت حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وقد جاء هذا التوجه مدعومًا من قبل الأحزاب اليسارية الأخرى.
ولعلّ أبرز الأمثلة على أساليب الضغط التي استخدمتها الأحزاب اليسارية يعود إلى عام 2024، عندما طالب حزب بوديموس وحزب سومار الحكومة الإسبانية بالاعتراف الفوري بدولة فلسطين وفرض حظر على بيع الأسلحة لـ”إسرائيل”.
إسهامات المجتمع المدني الإسباني
طالما لعب المجتمع المدني الإسباني دورًا أساسيًا في تعزيز الدعم للقضية الفلسطينية، فقد أبدى الإسبان تقليديًا تضامنًا واسعًا مع الفلسطينيين، وكانوا ولا يزالون ينظرون إلى الفلسطينيين باعتبارهم طرفًا مظلومًا يناضل لاستعادة حقوقه وبناء دولته المستقلة. وقد عززت الانتفاضات الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ 1967 هذا الانطباع، ما دفع قطاعات واسعة من المجتمع الإسباني لتأييد فلسطين بطرق مختلفة، من الدعم الرمزي إلى حملات التوعية والمبادرات الإنسانية.
تجلّت قوة المجتمع المدني الإسباني في تنظيم مبادرات وهيئات رسمية وغير رسمية تعزز حضور القضية الفلسطينية، مثل لجنة المنظمات غير الحكومية المعنية بفلسطين التي أُنشئت رسميًا عام 1991، ومجموعة المنظمات غير الحكومية من أجل فلسطين عام 2001، وشبكة التضامن ضد احتلال فلسطين (RESCOP) عام 2005. وقد عملت هذه الهيئات على توثيق الانتهاكات، ونقل صورة الواقع الميداني إلى الرأي العام، وإقامة مشاريع إنسانية وتنموية في غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع المنظمات الفلسطينية، وإيصال صوت المجتمع المدني الإسباني إلى المنتديات الدولية، ما أسهم في خلق بيئة دعم متكاملة ومتواصلة للقضية الفلسطينية.
كما توسع هذا الدعم ليشمل ميادين غير سياسية تقليدية، بما فيها الرياضة والفن والتعليم والتكنولوجيا، فقد شهدت إسبانيا حملات تضامن رياضية عالمية، مثل الدعوة لمقاطعة مشاركة المنتخب الإسرائيلي في البطولات، وحملات فنية وثقافية تهدف إلى إبراز معاناة الفلسطينيين وتعزيز التعاطف معهم، إلى جانب برامج تعليمية وورش عمل حول تاريخ وثقافة فلسطين. كما استُخدمت الوسائل الرقمية والاجتماعية لتوسيع نطاق الوعي، وجمع التبرعات، وإنشاء جسور بين المجتمع الإسباني والفلسطيني.
ختامًا، يتضح أن موقف إسبانيا تجاه فلسطين لا يُختزل في سياسات الحكومات المتعاقبة، بل يجد جذوره في الوعي الشعبي والثقافة المتراكمة عبر التاريخ، مما يجعل دعمها لفلسطين أكثر رسوخًا واستمرارية، حتى وإن تباينت حدّته باختلاف القوى الحاكمة.
المراجع:
– من الانحياز إلى التصدع: أفق التحول في المواقف الأوروبية من حرب الإبادة في غزة، ورقة تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
– Mohamed Buheji and Aamir Hasan, Spain’s Empathy for Gaza as a Model for the World and the Communities.