تحرر من العسكرة.. سوريا الجديدة تطوي صفحة التجنيد الإجباري

منذ عقود على فرضه، شكّل التجنيد الإجباري السوري إحدى الركائز التي اعتمد عليها النظام لترسيخ هيمنته وتعزيز نفوذ المؤسسة العسكرية على حساب المجتمع. وهذا النموذج راكم، مع مرور الزمن، أعباء اجتماعية واقتصادية متزايدة، تفاقمت بشكل خاص خلال سنوات الثورة التي أنهكت الشباب وأثقلت كاهل العائلات.

اليوم، يأتي قرار إلغاء التجنيد الإجباري ليعكس إدراك السلطات الجديدة لتراجع جدوى الاستمرار في هذا النموذج، ولحجم الأعباء التي خلّفها على المجتمع. والواقع أن قرار الإلغاء يمثّل تحوّلًا جذريًّا في الفلسفة والبنية التاريخية للدولة السورية، فالقرار أطاح بآلية طالما استُخدمت لربط المجتمع بالمؤسسة العسكرية وإخضاعه لها.

هذا التحوّل نقطة فاصلة في مسار الدولة السورية، إذ يفتح الباب أمام علاقة جديدة بين الدولة والمواطنين، تقوم على المرونة والمشاركة الطوعية بدلًا من الإكراه، فهو يمنح الشباب مساحة أوسع من الحرية ويخفّف الضغوط عنهم وعن أسرهم، كما يمهّد الطريق لبناء جيش احترافي يتماشى مع التجارب الدولية للدول الحديثة.

وعلى المستوى الأوسع، يحمل القرار تداعيات استراتيجية عميقة تطال البنية الاقتصادية والاجتماعية، وتؤثر في استقرار القوات المسلحة والدولة، فضلًا عن إسهامه في تقليل الاحتقان الاجتماعي وتعزيز الشرعية السياسية للنظام. وبهذا، يشكّل قرار إلغاء التجنيد الإجباري خطوة ضرورية في مرحلة حساسة من تاريخ سوريا، وعلامة فارقة في مسار الإصلاح السياسي والاجتماعي والعسكري.

التجنيد الإجباري في سوريا: النشأة والتطور

منذ أواخر العهد العثماني، ارتبطت ذاكرة السوريين بفكرة سلبية عن التجنيد الإجباري، إذ كان يُنظر إليه كعبء ثقيل ينتزع الشباب قسرًا من أسرهم، مما جعله مرادفًا للقسر والحرمان في المخيال الجمعي.

مع ذلك، شهد التاريخ السوري مفارقة لافتة، فقد تطوّع آلاف السوريين طوعًا ودون مقابل للمشاركة في الحروب ضد “إسرائيل”، وهو ما يعكس أن الاعتراض لم يكن على الخدمة العسكرية بحدّ ذاتها، بل على فرضها بالإكراه وانتزاع حق الاختيار.

وفي عام 1919، حاولت الحكومة العربية في دمشق تأسيس جيش قوامه 18 ألف مقاتل، فأصدرت في أواخر العام نفسه أول قانون للتجنيد الإجباري بمدة خدمة ستة أشهر، غير أن هذا الجيش بقيادة يوسف العظمة انهار سريعًا في معركة ميسلون عام 1920 مع دخول الفرنسيين وبدء مرحلة الانتداب.

بعد الاستقلال ومع قيام الدولة السورية الحديثة، صدر القانون رقم 356 لعام 1947 الخاص بالخدمة الإلزامية، تبعه القانون 874 المنظِّم لشؤون التجنيد. وتشير سجلات وزارة الدفاع إلى أن أول دفعة من مواليد 1929 بلغ تعدادها 45 ألفًا.

وقد نصّ المرسوم التشريعي رقم 61 لعام 1950 على عقوبات قاسية بحق المتخلّفين عن التجنيد الإجباري، وصلت أحيانًا إلى الإعدام في حالات الفرار. ثم جاء القانون العسكري السوري رقم 115 لعام 1953 ليؤكّد أن الخدمة العسكرية واجب وطني يلتزم به كل مواطن سوري عند بلوغه السنّ القانونية.

وخلال عقدي الخمسينيات والستينيات، تراوحت مدة الخدمة الإلزامية بين 18 و30 شهرًا، مع اختلاف مدتها بحسب المستوى التعليمي للمجند. وألزم القانون الذكور من سن الثامنة عشرة حتى الثانية والأربعين بأداء الخدمة، كما أتاح في بعض الحالات الحصول على إعفاء، سواء بدفع مبالغ مالية مرتفعة، أو لكون الشخص ابنًا وحيدًا، أو في حال الإصابة بأمراض خطيرة أو إعاقات جسدية.

ومع وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، عُزّزت مركزية التجنيد ليصبح أداة رئيسية للسيطرة وربط الشباب بالمؤسسة العسكرية. فتحوّل الجيش من مؤسسة يُفترض أنها لحماية الوطن إلى أداة بيد السلطة لحماية النظام وإخضاع المجتمع.

واستمرت الدساتير التالية بالتنصيص على الخدمة العسكرية الإلزامية، لكن شهدت مدة الخدمة عدة تغييرات. فبعد أن استمرت 30 شهرًا منذ عام 1968، جرى تخفيضها إلى سنتين عام 2005، ثم تراوحت بين 18 و24 شهرًا عام 2007، لتستقر عند 21 شهرًا عام 2008، مع إدراج الشباب لاحقًا في الاحتياط لفترة تمتد خمس سنوات، ما سمح للنظام بامتلاك قاعدة واسعة دائمة من الجنود تحت الطلب.

ثم في آذار/ مارس 2011، وصلت مدة الخدمة الإلزامية في سوريا إلى 18 شهرًا بعد سلسلة طويلة من التغييرات التشريعية التي طالت قانون التجنيد الإجباري، والذي خضع لنحو 25 تعديلًا، جاء معظمها بعد عام 2011.

كل هذه التعديلات التي مرّ بها قانون التجنيد الإجباري لم تكن منعزلة عن واقع المجتمع، إذ انعكست بصورة مباشرة على التعليم، حيث ارتبط مسار الطالب الدراسي ارتباطًا وثيقًا بسياسات التجنيد الإجباري. فلم يكن مستقبله الأكاديمي معزولًا عن حسابات الخدمة العسكرية، بل خضع لاعتبارات قيّدت خياراته وفرضت عليه مسارات محددة.

وعلى الصعيد الاجتماعي، شكّل التجنيد عبئًا ثقيلًا على الشباب وأسرهم، إذ حرمهم من فرص العمل أو استكمال الدراسة بالخارج، وقيّد حريتهم في السفر والتنقل والعمل، بعدما جعلت المؤسسة العسكرية تصاريح السفر والعمل خاضعة لإشرافها المباشر.

هذا الواقع انعكس أيضًا اقتصاديًّا على الأسر، خصوصًا تلك التي اعتمدت على دخل أبنائها قبل تجنيدهم، إذ فقدت موردًا أساسيًّا للمعيشة، وتكبّدت أحيانًا نفقات إضافية لدعم أبنائها أثناء فترة الخدمة. وترافق ذلك مع ضغوط نفسية عميقة وشعور دائم بالقهر نتيجة أداء خدمة مفروضة لم يخترها هؤلاء المجندون ولم يقتنعوا بجدواها.

في الواقع، اتسمت تجربة المجندين بالقسوة والإذلال، حيث بُنيت الحياة العسكرية على الطاعة العمياء للأوامر مهما كانت مخالفة للمنطق أو الأخلاق. وكان الهدف كسر إرادة المجند وصهره في منظومة الولاء للنظام.

وقد غلبت على الحياة العسكرية للمجندين إجباريًّا مظاهر العنف والإهانة والعلاقات القائمة على الخوف. ولم يتلقَّ معظمهم تدريبًا قتاليًّا جادًّا أو تعرّفوا إلى العلوم العسكرية، باستثناء تدريبات سطحية أو استعراضية، ما جعل التجنيد الإجباري أقرب إلى السخرة.

وللهروب من أسر التجنيد الإجباري، لجأ كثيرون إلى ابتكار حيل وأساليب متعددة، كان أبرزها تعمّد الرسوب في الدراسة أو إطالة سنوات الجامعة بشكل متعمّد، بغية الحصول على تأجيل دراسي يجنّبهم الاستدعاء المباشر.

التجنيد الإجباري بعد 2011

بعد عام 2011 دخل التجنيد الإجباري في سوريا مرحلة جديدة أكثر قسوة، اتسمت بالتمديد المستمر للخدمة وعدم تسريح الجنود بعد انتهاء مدتهم المحددة، ما أبقى الآلاف في صفوف الجيش أو الاحتياط لسنوات تراوحت بين 7 و9 أعوام.

شمل ذلك مختلف الفئات، بما فيهم الجامعيون، ولتعويض النقص العددي شنّ النظام حملات مداهمة منظمة لسوق الشباب إلى الجيش، شملت الملاحقة في الشوارع والمنازل واعتقال الفارّين من الخدمة على الحواجز.

انعكس هذا الواقع على المجتمع، إذ فقد الشباب فرصهم التعليمية والمهنية، وتحملت الأسر أعباء اقتصادية ونفسية مضاعفة، فيما لجأ كثيرون إلى الاختباء أو الهجرة هربًا من التجنيد. وزاد الوضع تعقيدًا مع تعديلات متلاحقة على قانون التجنيد، أبرزها تعديل عام 2023 الذي ألغى فعليًّا أي سقف زمني للخدمة الاحتياطية، ما جعل مصير الشباب معلّقًا إلى أجل غير مسمّى.

بالتوازي، فرض النظام ما عُرف بـ”نظام بدل الخدمة” كخيار مالي يسمح بالإعفاء أو تقليص مدة الخدمة مقابل مبالغ كبيرة تراوحت بين 7 و10 آلاف دولار، كما أتاح للشباب في الخارج دفع 5 آلاف دولار للإعفاء من الاحتياط. أما من تجاوز سن 42 عامًا دون أداء الخدمة، فقد فُرض عليه دفع 8 آلاف دولار، مع مصادرة أموال وأملاك كل من لم يؤدِّ التجنيد الإجباري أو يسدّد البدل.

استفاد النظام من هذه المبالغ بشكل واسع، ليس فقط عبر العائدات المباشرة، بل أيضًا من خلال ما رافقها من رشاوى ومعاملات جانبية شكّلت بيئة خصبة للفساد. وبرزت شبكات منظمة داخل جيش النظام وفّرت مصادر دخل إضافية، أبرزها “التفييش” (دفع المجند أموالًا مقابل البقاء في منزله)، و”التعفيش” (نهب ممتلكات المدنيين وفرض الإتاوات على الحواجز).

وهكذا، تحوّل التجنيد بعد 2011 إلى أداة مزدوجة للابتزاز البشري والمالي، أداة استنزفت الشباب وأثقلت المجتمع، قبل أن يصبح قرار إلغائه لاحقًا بمثابة قطيعة مع واحدة من أشد أدوات السيطرة قسوة في تاريخ الدولة السورية.

تداعيات إلغاء التجنيد الإجباري

البعد السياسي

على امتداد العقود الماضية، منح قانون التجنيد الإجباري النظام سلطات واسعة على المدنيين، إذ مثّل التجنيد الإجباري أعلى درجات الخضوع للنظام. وقد سعى النظام السابق إلى طبع قوانين التجنيد بصبغة مقدّسة، والسيطرة على العقل الجمعي للمجتمع عبر التعليم والإعلام، وزرع شعارات ومفاهيم وهمية لتعزيز الولاء على حساب الانتماء الوطني الحقيقي.

غير أن قرار إلغاء التجنيد الإجباري اليوم يشكّل تحوّلًا جوهريًّا في طبيعة العلاقة بين الدولة والمواطنين، فهو يضع حدًّا لدور التجنيد كأداة للإكراه والسيطرة، ويقلّص من نفوذ الضباط وسطوتهم السياسية.

وفي المقابل، يفتح القرار المجال لإعادة صياغة العلاقة بين المدنيين والعسكريين على أسس أكثر مرونة، بما يوازن بين كفاءة الجيش من جهة واحتياجات الشباب ومصالح المجتمع من جهة أخرى. كما يعكس توجّه النظام الحالي نحو إعادة صياغة العقد الاجتماعي بطريقة تمنح المواطنين مجالًا أوسع للمشاركة الطوعية والخيارات المدنية، بعيدًا عن الولاء المفروض بالقسر.

الأبعاد الاجتماعية

على مدى عقود، شكّل التجنيد الإجباري في سوريا أحد أبرز مظاهر عسكرة الدولة والمجتمع، إذ تحوّل إلى أداة للسيطرة على الشباب وإعادة إنتاج الولاء للنظام. وارتبط بقيود واسعة على التعليم والعمل والتنقّل، ما حرم أجيالًا كاملة من متابعة مساراتهم التعليمية أو المهنية بحرية. كما أسهم في تفكك النسيج الاجتماعي حين استُخدم المجندون إجباريًّا في الصراعات الداخلية أو في تنفيذ عمليات أمنية ضد المدنيين والمعارضين.

ومع قرار إلغاء التجنيد الإجباري، تدخل سوريا مرحلة جديدة تمثّل نقطة تحوّل كبرى في علاقة الدولة بالمجتمع. إذ يتيح القرار للشباب فرصًا أوسع للانخراط في سوق العمل أو متابعة التعليم أو الانخراط في مشاريع اجتماعية ومدنية، بما يقلّل الضغوط النفسية والاجتماعية التي راكمتها الخدمة الإلزامية.

على المستوى الأسري، يمنح القرار ارتياحًا كبيرًا للعائلات من خلال إعادة توجيه وقت الشباب ومواردهم نحو التعليم والعمل والاستقرار الاجتماعي، ويعزّز الإحساس بالأمان داخل البيت. أما على المستوى المجتمعي، فيحدّ من دور الجيش كأداة قسرية، ويتيح له أن يظهر بصورة أكثر مهنية واحترافية، باعتباره مؤسسة في خدمة الشعب لا سلطة فوقه.

ومن هذا المنطلق، يحق للشباب أن يحددوا بأنفسهم الكيفية التي يخدمون بها وطنهم. فخدمة الوطن لا تنحصر في الانضمام إلى الجيش، بل تمتد لتشمل مجالات مدنية وتعليمية ومهنية متعددة. ومن ثم، فإن احترام حرية الاختيار وضمان أن يكون القرار نابعًا من إرادة فردية بعيدة عن أي إكراه، يعدّ شرطًا أساسيًّا لصون المواطنة الحقيقية.

الأبعاد الاقتصادية

شكّل التجنيد الإجباري السوري عبئًا اقتصاديًّا مزدوجًا على الشباب السوري وعائلاتهم. فبالنسبة للشباب، كان يعني فقدان فرص مهنية مبكرة وتأخير الدخول إلى سوق العمل لفترة تمتد بين سنة وثلاث سنوات، من دون أي تعويض مادي يوازي هذا الانقطاع. أما بالنسبة للأسر، فقد اضطرت لتحمّل أعباء مالية إضافية لدعم أبنائها خلال فترة الخدمة، ما زاد من الضغوط الاقتصادية عليها.

هذا الاقتطاع من سنوات الشباب الإنتاجية مثّل خسارة مباشرة للاقتصاد الوطني، إذ حرم القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة من مساهمة شريحة واسعة من الكفاءات. فلو افترضنا أن العمر الإنتاجي للمواطن ما بين 20 و60 عامًا، فإن التجنيد الإجباري الذي يستمر ثلاث سنوات يعني عمليًّا حرمان الاقتصاد من نحو 10% من طاقته الإنتاجية الممكنة.

وبالتالي، مع قرار إلغاء التجنيد الإجباري، ينفتح المجال أمام الشباب للاندماج المبكر في سوق العمل أو متابعة تعليمهم في الخارج من دون الانقطاع القسري السابق. ويمثّل هذا القرار انفراجًا للأسر التي لم تعد مضطرة لتخصيص موارد مالية إضافية لدعم أبنائها أثناء الخدمة الإلزامية. وهكذا، لا يقتصر أثر القرار على تخفيف الأعباء الفردية والعائلية، بل يمتد ليمنح الاقتصاد الوطني دفعة إنتاجية جديدة، من خلال استثمار أكثر كفاءة للوقت والموارد البشرية.

الأبعاد العسكرية والأمنية

لا يقتصر أثر إلغاء التجنيد الإجباري على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، بل يمتد ليشكّل تحوّلًا هيكليًّا في بنية الجيش السوري واستراتيجيته الأمنية. فمنذ عقود، اعتمد الجيش السابق على قاعدة واسعة من المجندين الإلزاميين، ما وفّر له العدد الكبير من دون أن يحقق المستوى المطلوب من الكفاءة. أما اليوم، فإن الانتقال إلى نموذج الجيش التطوّعي يمثّل منعطفًا استراتيجيًّا في طبيعة المؤسسة العسكرية.

إن الانتقال إلى نظام قائم على المتطوعين يتيح اعتماد برامج تدريب متطورة وحوافز مالية ومعنوية لجذب العناصر الأكفأ، كما يفتح المجال أمام إعادة توزيع الموارد والميزانية بشكل أكثر فاعلية عبر تقليص عدد المجندين وتوجيه الإنفاق نحو رفع مستوى التدريب والتجهيزات. وبهذا، يتحول الجيش إلى قوة أكثر مرونة.

في الوقت نفسه، قد يفتح النظام التطوعي سوقًا جديدة للوظائف العسكرية، ويخلق مناخًا ملائمًا يشجّع على الانخراط الحر بعيدًا عن فلسفة الإجبار التي لطالما أضعفت الانتماء والإبداع. وإذا ما ارتبط التجنيد الاختياري باختبارات دقيقة ومزايا واضحة كتلك الموجودة في الكليات العسكرية، فإن ذلك سيسهم في رفع مستوى الاحترافية والانضباط، ويجعل الجيش أكثر تكيفًا مع المتغيرات الأمنية والإستراتيجية.

تاريخيًّا، أظهرت التجارب العالمية أن الاعتماد على التجنيد الإجباري لم يعد فعّالًا في الحروب الحديثة. على سبيل المثال، خلال حرب العراق عام 2003، كان تعداد الجيش العراقي الإجباري نحو 1,311,000 مجند، في حين بلغ إجمالي قوات الجيش الأمريكي والبريطاني وحلفائهم 589,799 مجندًا اختياريًّا.

رغم تفوّق الجيش العراقي العددي، لم يصمد أمام القوات الغربية، إذ استسلمت العديد من كتائب الجيش العراقي من دون قتال، بينما قاومت المقاومة الاختيارية بشكل فعّال. هذه التجربة تثبت أن العدد الكبير للمجندين الإجباريين لا يضمن الكفاءة أو القدرة القتالية الحقيقية.

العالم اليوم يقيس كفاءة الجيوش على أساس الكمّ الاحترافي لا الكمّ العددي، حيث يعتمد الأداء العسكري على كفاءة الفرد، إرادته، مهاراته، والتجهيزات الحديثة المتاحة له. لذلك، أدركت الكثير من الدول المتقدمة عدم كفاءة نظام التجنيد الإجباري، وألغته لصالح نظام التجنيد الاختياري الذي يخضع فيه المتطوع لامتحانات دقيقة مقابل مزايا وتحفيزات متعددة تشجّع على التطوع.

وبالتالي، يُعتبر التجنيد التطوّعي الذي تقوم به الحكومة السورية حاليًّا نموذجًا عالميًّا متبعًا في العديد من الدول القوية عسكريًّا، لما يوفره من مزايا استراتيجية واضحة، مثل تعزيز الانضباط والكفاءة القتالية، إضافة إلى إمكانية تخصيص الموارد بشكل أفضل وتطوير برامج تدريب متقدمة من دون الضغط الاجتماعي والاقتصادي على الشباب والأسر.

ختامًا، يُعدّ قرار إلغاء التجنيد الإجباري خطوة منطقية وضرورية في مرحلة دقيقة من تاريخ سوريا، إذ يمثّل ركيزة لإصلاحات أوسع تمتد إلى البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فهو يخفّف عن الشباب وأسرهم الأعباء النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ويقلّل من الاحتقان الداخلي، ويعيد للدولة جزءًا من شرعيتها المجتمعية.

وعلى الصعيد العسكري، يفتح القرار المجال لبناء جيش أكثر احترافية ومرونة قائم على مبدأ التطوع، بما يعكس صورة دولة حديثة تسعى إلى التوازن بين احتياجاتها الأمنية وحقوق مواطنيها.