خبراء: شح السيولة يفاقم أزمة الثقة في المصارف السورية

في ظل التحوّلات الاقتصادية المتسارعة التي تشهدها سوريا، يبرز قطاع المصارف كأحد المفاصل الحيوية التي لا يمكن تجاوزها في أي مشروع إصلاحي أو انفتاح اقتصادي. فمع تصاعد الحديث عن تحرير التجارة، وتوسيع نطاق الاستثمار، والانفتاح على الأسواق الإقليمية والدولية، تزداد الحاجة إلى منظومة مصرفية قادرة على مواكبة هذه المتغيرات، لا من حيث التمويل فحسب، بل من حيث البنية القانونية والتقنية والثقة المجتمعية.
الواقع المصرفي الحالي في سوريا لا يزال يعاني من اختناقات مزمنة، أبرزها ضعف الأدوات المالية، وتراجع الثقة لدى الفاعلين الاقتصاديين، وغياب التحديث التشريعي الذي يواكب ما وصلت إليه المصارف في الدول المجاورة. وبينما تتجه الحكومة نحو الانفتاح، تبقى المصارف مطالبة بإعادة تعريف دورها، وتطوير أدواتها، وتبنّي سياسات أكثر مرونة وشفافية، تتيح لها أن تكون شريكًا حقيقيًّا في التنمية، لا مجرد وسيط تقليدي للتمويل.
في هذا التقرير، نرصد ملامح الواقع المصرفي الراهن وآخر أحداثه، ونستعرض ما هو مطلوب من المصارف السورية لمواكبة انفتاح الأسواق، كما نقف عند الفجوة بين المصارف المحلية ونظيراتها الخارجية من حيث القوانين والأدوات، ونستعرض نظرة التاجر والصناعي والخبراء إلى هذا القطاع، بين تطلعات التمويل، ومخاوف البيروقراطية، وتحديات الثقة.
أزمة السيولة وطموحات الإصلاح النقدي
يعاني معظم المتعاملين مع المصارف السورية من أزمة حادّة في سحب الودائع، وسط حالة من تجفيف السيولة امتدت من التجار والصناعيين والمستوردين لتطال حتى الموظفين، الذين يواجهون صعوبات متكرّرة في الحصول على كامل رواتبهم عبر الصرّافات الآلية، ما خلق طوابير انتظار للحصول على مستحقاتهم. وفي هذا السياق، أكّد حاكم مصرف سوريا المركزي أن المصرف في حالة حوار دائم مع المصارف المحلية بهدف التوصّل إلى آلية تضمن حرية السحب دون قيود، مشدّدًا على أن استمرار الوضع الراهن غير اقتصادي ولا يمكن القبول باستمراره.
وفي تصريحات إعلامية حديثة، توقّع حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، أن يضمّ القطاع المصرفي السوري خلال خمس سنوات ما بين 30 إلى 35 مصرفًا، محليًّا وأجنبيًّا، مع سياسة نقدية فعّالة قادرة على تحقيق النمو واستقرار الأسعار. كما ذكر أن العمل جارٍ على منح تراخيص لمصارف جديدة، ضمن خطة إصلاحية تهدف إلى تنويع القطاع المصرفي، وتحقيق التوازن بين المصارف التقليدية والمصارف ذات الطابع الاستثماري أو التخصّصي.
ولكن حصرية أشار أيضًا إلى أن القطاع المصرفي يعاني من نقص السيولة نتيجة الأزمة اللبنانية وتراجع الثقة، وأن الإقراض شبه متوقّف. ويجري العمل على معالجة هذه الأزمة برؤية واضحة لإعادة دور المصارف كوسيط مالي فعّال، وفق قوله. ويعمل المصرف، بحسب الحاكم، على تحسين نظم جمع البيانات ومؤشرات الأسعار، لتوجيه السياسات النقدية بدقّة أكبر، ومواجهة التضخّم بشكل علمي ومدروس.
أما الخطوة التي تُعَدّ تحوّلًا تاريخيًّا للقطاع المصرفي السوري، فكانت في يونيو/ حزيران 2025، حيث أعلن حاكم مصرف سوريا المركزي عن تنفيذ أول عملية تحويل مصرفي دولي عبر نظام “سويفت” منذ اندلاع الحرب قبل 14 عامًا، والتي تمّت من بنك سوري إلى بنك إيطالي.
وفقًا لدليل المصارف الصادر عن مصرف سوريا المركزي، يبلغ عدد المصارف العاملة في البلاد 23 مصرفًا مرخّصًا، تتوزع بين 6 مصارف عامة مملوكة للدولة، و17 مصرفًا خاصًّا، منها 4 مصارف إسلامية، هذا التوزيع يعكس تنوّعًا في الخدمات المصرفية بين التقليدية والإسلامية، لكنه لا يزال بحاجة إلى تحديث تشريعي وتقني لمواكبة الانفتاح الاقتصادي، وجذب الاستثمارات، وتعزيز الثقة المجتمعية في النظام المالي.
بعد استعراض ما سبق حول الواقع المصرفي السوري والتوجهات الإصلاحية التي أعلن عنها حاكم مصرف سوريا المركزي، تبرز الحاجة للإجابة عن تساؤلات جوهرية تتعلّق بأهم العقبات التي تعترض القطاع المصرفي، وكيفية استعادة الثقة به في ظل الانفتاح الاقتصادي، وكيف يمكن أن يكون شريكًا في الإعمار والتنمية.
في تصريح يعكس واقع القطاع المصرفي السوري وتحدياته، وصف منير هارون، الرئيس التنفيذي لبنك بيمو السعودي الفرنسي للتمويل الأصغر، القطاع المصرفي في سوريا بأنه “متعطّش للعمل”، لكنه في الوقت ذاته “متخوّف من أي تقلبات غير محسوبة قد تنتج عن تغييرات جيوسياسية أو اقتصادية أو أمنية”. وأعرب في تصريحه لـ”نون بوست” عن تفاؤله بأن عام 2026 قد يشهد بداية استعادة العافية المصرفية، استنادًا إلى الإصلاحات المالية والنقدية المرتقبة.
وذكر هارون أبرز التحديات التي تواجه القطاع المصرفي السوري تتركز بالعودة إلى النظام المالي العالمي واستعادة الحوالات المالية لوضعها الطبيعي.
إضافة إلى ضبط سعر الصرف ومنع التقلبات المفاجئة، ويكمل هارون بأن إعادة دورة الإنتاج والصناعة هي من التحديات أيضًا ويضاف لها شحّ السيولة وعدم توافر النقد اللازم للحركة التجارية، وإعادة بناء الثقة بالقطاع المصرفي، وتفعيل الدفع الإلكتروني والتحوّل الرقمي في المعاملات، وآخر التحديات هي جاهزية المصارف للانفتاح الاقتصادي.
وأكّد هارون أن جميع المصارف السورية باتت جاهزة لمواكبة الانفتاح الاقتصادي داخليًّا وخارجيًّا، مشيرًا إلى وجود ضبط حقيقي لبيئة الامتثال الداخلي، ورغبة صادقة لدى إدارات المصارف للعب دور حيوي في عملية إعادة الإعمار ودعم الاستثمارات الخارجية القادمة إلى سوريا.
وشدّد هارون على أن القطاع المصرفي يحتاج إلى جملة من المتطلّبات البنيوية والتشريعية، أبرزها: رفع رؤوس الأموال في جميع المصارف لمواجهة الطلب المرتفع على التمويل، إضافة إلى حديث قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويضيف هارون أن تطوير آلية الاستعلام الائتماني من جملة المتطلبات ذات الأهمية إضافة إلى تفعيل المحاكم المصرفية بشكل حقيقي، وأخيرًا تعزيز البنية التحتية لأنظمة الدفع الإلكتروني وتقليل الاعتماد على النقد.
وأشار إلى أن العديد من المصارف تمتلك تطبيقات إلكترونية تسهم في تقليل زمن المعاملات وتسهيل عمليات الدفع، إلا أن بعض المصارف لا تزال تفتقر إلى تطبيقات رقمية رغم مرور أكثر من 15 عامًا على وجودها في السوق. كما أن هناك حاجة ملحّة لتحديث مراكز البيانات لمواكبة الزخم المتوقع في العمليات المصرفية غير التقليدية.
العلاقة مع القطاعين الصناعي والتجاري
وفيما يتعلّق بعلاقة المصارف السورية مع القطاعين الصناعي والتجاري، أبدى هارون أسفه لما وصفه بـ”القرارات غير الحكيمة وغير المدروسة الأثر” التي صدرت عن الجهات الوصائية خلال سنوات حرب الأسد على السوريين، والتي أدّت إلى فقدان الثقة بالمصارف، ودفع الصناعيين والتجار نحو التعامل مع مصارف خارجية، ما ساهم في هجرة رؤوس الأموال السورية إلى لبنان وتركيا، وفاقم أزمة السيولة بعد التحرير، ودفع الكثيرين إلى الإحجام عن التعامل المصرفي.
ويرى هارون أن قدرة المصارف السورية على تمويل المشاريع الإنتاجية لا تزال ضعيفة، بسبب رؤوس الأموال المحدودة مقارنة بحجم المشاريع المطلوبة، إضافة إلى شحّ السيولة، وارتفاع المخاطر التشغيلية، وتقلبات سعر الصرف، والحاجة إلى تشريعات جاذبة لرؤوس الأموال.
واختتم هارون حديثه بالتأكيد على جملةٍ من الخطوات الضرورية لاستعادة الثقة بالقطاع المصرفي السوري، تبدأ بالالتزام بالشفافية الكاملة والمصارحة بالوضع الحقيقي للمصارف، وفتح المجال للتعامل الرسمي بالدولار ضمن قوانين واضحة، مع تمكين المصارف من بيع الدولار لجميع المواطنين ولجميع الأغراض. كما شدّد على أهمية توفير السيولة الكافية بالليرة السورية والقطع الأجنبي لتلبية طلبات المودعين، إلى جانب تفعيل الدفع الإلكتروني بشكل حقيقي وتوفير أدوات نجاحه عبر الاستعانة بشركات الاتصالات لتقديم الخدمات المصرفية الإلكترونية. واعتبر أن تطبيق الحوكمة الصحيحة في مختلف المستويات الإدارية، وخصوصًا في المصارف الحكومية، مع نشر تقارير دورية عن أعمالها ونتائجها، هو السبيل لتعزيز الشفافية وترسيخ ثقة المودعين.المصارف فقدت دورها
الخبير المصرفي أنس فيومي، معاون مدير المصرف العقاري السوري سابقًا، أكد أن المصارف فقدت دورها الحيوي في دعم الحركة الاقتصادية، وتحولت خلال السنوات الأخيرة إلى مؤسسات تؤدي عمليات محدودة من سحب وإيداع وتحويل، ضمن ضوابط سيولة صارمة، ما أفقدها تأثيرها التنموي والمالي.
وأشار فيومي، في تصريح لـ”نون بوست”، إلى أن المصارف السورية ما تزال تراوح مكانها رغم مرور نحو عشرة أشهر على التغييرات السياسية والاقتصادية في البلاد، من دون أن تظهر مؤشرات على تحولها إلى أدوات تنموية فاعلة. واعتبر أن غياب التحديث الإداري والتنظيمي، إلى جانب الخشية من الجهات الرقابية، يقيّد عمل المصارف ويمنعها من مواكبة طموحات مصرف سوريا المركزي.
وأوضح أن حجة “قلّة السيولة” التي تتكرر في الخطاب الرسمي تخفي وراءها مشكلات أعمق تتعلق بضعف الكفاءة وترهّل الإجراءات، مشيرًا إلى أن ضوابط السيولة المفروضة منذ نحو عقد من الزمن أضعفت الثقة بالنظام المصرفي، ودفع أصحاب رؤوس الأموال للاحتفاظ بأموالهم خارج المصارف أو تحويلها إلى عملات أجنبية، ما أدّى إلى تراجع دور المصارف كوسيط مالي في العلاقات التجارية، وتوقف شبه كامل في منح القروض.
ولفت فيومي إلى وجود فجوة واضحة بين ما يُصرَّح به وما يُطبَّق فعليًّا، مستشهدًا بمثال حول الإيداعات المصرفية الناتجة عن البيوع العقارية، حيث لا تزال المصارف تقيّد سحب الحوالات بمبلغ لا يتجاوز 500 ألف ليرة أسبوعيًّا، متسائلًا عن مدى قبول بائع عقار بقيمة تتجاوز المليار ليرة بهذا الوضع.
وحول قدرة المصارف على مواكبة الانفتاح الاقتصادي، رأى فيومي أن المصارف الخاصة تبدو أكثر جاهزية بفضل التزامها بضوابط العمل المصرفي وتحديث برمجياتها، في حين تتفاوت المصارف العامة في هذه القدرة، بسبب ضعف التحديث التقني، والأهم من ذلك ضعف كفاءة الكوادر الإدارية التي تعاني من آثار التعيينات غير المهنية في العقود السابقة.
وشدّد فيومي على ضرورة إعادة تعريف دور المصارف في النشاط الاستثماري، ليشمل تقديم الاستشارات المالية، والمساهمة في دراسات الجدوى، وتمويل المشاريع، بل والمشاركة في إدارتها، كما هو الحال في بعض المصارف العالمية. ودعا إلى إعادة دراسة قوانين إحداث المصارف وتضمينها بنودًا تتيح لها المساهمة الفعلية في مشاريع إعادة الإعمار، ضمن رؤية استراتيجية وطنية واضحة للمرحلة المقبلة.
وأشار إلى أن المصارف العامة تفتقر إلى الأنظمة البرمجية الحديثة، نتيجة سنوات المقاطعة، كما تفتقر إلى كوادر مؤهلة للتعامل مع الانفتاح الاقتصادي المتوقع، ما يستدعي وضع استراتيجية وطنية واضحة للمرحلة المقبلة. ورغم ذلك، أثنى على تعليمات مجلس النقد والتسليف التي واكبت متطلبات العمل المصرفي، حتى في فترات المقاطعة، وخاصة ما يتعلّق بمقررات “بازل” وضوابط التحويلات المالية.
وبيّن فيومي أن العلاقة بين المصارف والقطاعات الإنتاجية، الصناعية والتجارية، وحتى الأفراد، تشوبها حالة من انعدام الثقة، بسبب ضوابط السيولة التي تعيق تلبية الاحتياجات المالية، بما في ذلك أجور العمالة. ودعا إلى معاملة هذه الفئات بشكل خاص، نظرًا لأهميتها في مرحلة إعادة الإعمار، وإعادة بناء الثقة معها.
وفيما يتعلّق بالإقراض، رأى فيومي أنه لا أفق حاليًّا لعودة القروض، لكنه شدّد على ضرورة تحديد أولويات التمويل وفق رؤية حكومية واضحة، تبدأ بالقطاع الزراعي لدعم الأمن الغذائي، ثم قطاع إعادة إعمار المنشآت الصناعية، تليه القطاعات الخدمية والسياحية.
واختتم فيومي حديثه بالتأكيد على أهمية دور مصرف سوريا المركزي في إعادة بناء الثقة، عبر تحرير السيولة وتحديث التعليمات، متوقعًا أن تشكّل مرحلة استبدال النقود وإصدار الليرة الجديدة نقطة تحوّل نوعية في عمل المصارف، خاصة العامة منها.
معاناة كبيرة والعودة إلى الثلاثينيات
أوضح النائب السابق لرئيس غرفة تجارة دمشق، محمد الحلاق، ورئيس إحدى الجمعيات الخيرية، أن العلاقة الحالية مع المصارف السورية تحوّلت إلى عبء ثقيل، متمنيًا لو أن البلاد عادت إلى أيام الثلاثينيات “بلا مصارف أو بطاقات”، على حدّ تعبيره، نظرًا لما يواجهه من معاناة كبيرة في سحب أموال الجمعية الخيرية التي يديرها.
وبيّن الحلاق، في حديثه لـ”نون بوست”، أنه يبذل جهدًا بالغًا لسحب الأموال المخصصة للجمعية، رغم وجود تعليمات من مصرف سوريا المركزي تمنح الأولوية للجمعيات الخيرية في عمليات التسديد، خصوصًا في فترات الذروة مثل شهري شعبان ورمضان، حيث ترتفع قيمة التبرعات لتصل أحيانًا إلى نحو 700 مليون ليرة سورية. وأضاف: “نحن فعليًّا نشحد هذه التبرعات من المصرف”، في إشارة إلى صعوبة الحصول عليها رغم أنها مودَعة في الحسابات المصرفية.
وأشار إلى أن المصارف، رغم توافُرها، لم تعد تحقق الغاية الإيجابية التي أُنشئت من أجلها، بل باتت تشكّل عبئًا على المؤسسات التجارية، خاصة فيما يتعلّق بتداول العملات الورقية المهترئة، واستجرار الأوراق النقدية ذات القيمة المنخفضة، ما يزيد من الأعباء التشغيلية.
واستذكر الحلاق مرحلة سابقة كانت فيها العلاقة بين المصارف والقطاع التجاري والصناعي علاقة دعم حقيقية، حين كان الإقراض متاحًا بنِسَب فوائد منطقية لا تتجاوز 9%، قبل أن تتحوّل إلى نِسَب مرتفعة وصلت إلى 22% و23%، ما جعل القروض عبئًا إضافيًّا على الصناعيين والتجار، وأدّى إلى عزوف الكثيرين عن الاقتراض.
وأكّد أن التاجر والصناعي يعاني أشدّ المعاناة في التعامل مع المصارف، ما أدّى إلى إحجام الناس عن التعامل المصرفي، وتراجع الإيداعات، وزيادة السحوبات، الأمر الذي خلق أزمة مركّبة داخل القطاع.
وتطرّق الحلاق إلى أزمة التمويل بعد التحرير، حيث لم تعد المصارف قادرة على منح القروض، رغم وجود مستثمرين قادرين على تمويل جزء من مشاريعهم، لكنهم اصطدموا بتوقف عمليات الفراغ والطابو والرهن نتيجة الظروف الراهنة، ما أدّى إلى توقف العديد من الفعاليات الصناعية والتجارية والعمرانية.
وأوضح أن انخفاض سعر صرف الدولار مؤخرًا دفع التجار إلى إعادة النظر في جدوى الاقتراض، إذ لم يعد من المنطقي الحصول على قرض بفائدة تصل إلى 23% في ظل تراجع الدولار، ما تسبّب في تشوّهات داخل قطاع الأعمال، خارجة عن إرادة الجميع، وأضعف دور المصارف في تمويل النشاط الاقتصادي.
وأشار الحلاق إلى أن من أبرز العقبات التي تواجه القطاع المصرفي السوري اليوم هي انعدام الثقة بين أصحاب الأموال والمصارف، نتيجة عدم الإفراج عن المبالغ المودَعة وشحّ السيولة، وهي أزمة طالت مختلف الفئات، من القطاع التجاري والصناعي إلى الأفراد العاديين. وأضاف أن منصة تمويل المستوردات التي كانت معتمدة سابقًا ساهمت في تعميق الأزمة، وأثّرت على أداء القطاع المصرفي، وألقت بظلالها على صغار وكبار المودعين، ما أدّى إلى تراكم الإشكاليات وتشابكها داخل المنظومة المالية، وانعكس ذلك على جميع المفاصل المرتبطة بالأشخاص والمؤسسات التجارية والصناعية.
ورغم هذه الظروف، أكّد الحلاق أنه لا يزال يثق بالقطاع المصرفي السوري، قائلًا: “أثق به، كل آليات العمل ووثائقه متابعة ومراقبة من المركزي”، لكنه أشار إلى وجود إحجام واسع عن التعامل مع المصارف، مرجعًا ذلك إلى تعليمات مصرف سوريا المركزي المرتبطة بشحّ السيولة وظروف تشغيلية مختلفة.
وتطرّق إلى قضية الشريك الاستراتيجي للمصرف، فإذا كان من دولة تعاني من إشكاليات مصرفية، فإن ذلك ينعكس سلبًا على المصرف السوري، أما إذا كان الشريك يتبع لدولة قوية ومستقرة مصرفيًّا، “فأنا أثق به بشكل جيّد جدًّا”، على حدّ قوله.
وأضاف: “الثقة موجودة، ولكن لا أتعامل مع المصارف بسبب تعليمات المركزي”، مشيرًا إلى إيمانه بأن تعديل العملة وتبديلها سيؤدي إلى ارتفاع كبير في مستوى الثقة، شريطة أن تتم العملية بآليات مرِنة تستند إلى خبرات ميدانية “تعرف الوجع وكيف تعالجه”. واعتبر أن الأقوال الرسمية لها تأثير قوي، وأنه من خلال آليات واقعية على الأرض، يمكن الخروج من أزمة الثقة، والوصول إلى تعاملات أكثر شفافية، وسياسات وإجراءات واضحة ومستقرة.
وأكّد أن المصارف السورية غير قادرة حاليًّا على مواكبة الانفتاح الاقتصادي، لكنها تمتلك القدرة على ترميم نفسها بسرعة في حال توافُر شركاء استراتيجيين، مشيرًا إلى أن بعض المصارف بدأت فعلًا التعاون مع شركاء لتطوير آليات العمل، خاصة بعد فقدان الكوادر والخبرات خلال الأزمة، وظهور متطلّبات جديدة مثل الاعتمادات المستندية والتحويلات النقدية التي فرضتها العقوبات السابقة.
وفي سياق تقييمه لقدرة المصارف على المساهمة في إعادة الإعمار والتنمية، شدّد الحلاق على ضرورة زيادة رؤوس الأموال التي لا تتجاوز حاليًّا 3.9 مليار دولار، وفقًا لتصريحات حاكم مصرف سوريا المركزي، واصفًا الرقم بـ”المتواضع”. وأكّد أن تضاعف رؤوس الأموال شرط أساسي لتمكين المصارف من أداء دورها في التمويل والإقراض، بما ينعكس إيجابًا على القطاع والمساهمين.
وفيما يخص التعامل مع المصارف الخارجية، اعتبر الحلاق أن التجربة مع الدول العربية، خصوصًا لبنان، كانت سيئة جدًّا، داعيًا الحكومة السورية إلى بذل جهود لاسترداد الأموال السورية المحتجزة هناك، والتي وصفها بـ”السرقات” التي طالت أصحاب الأموال السوريين، مقدّرًا حجمها بين 20 و40 مليار دولار، ومطالبًا باستعادتها، لما لذلك من أثر كبير في دعم التنمية.
وأشار إلى أن المصارف الأجنبية تتعامل بثقة وأريحية أعلى، وتتوسع في خدماتها الإلكترونية أكثر من الفروع، وتتميّز بوجود نظام “الحد الأدنى المضمون”. كما أن 90% من المصارف الأجنبية لا تتقاضى عمولات على الحسابات الجارية، خلافًا للمصارف السورية التي تفرض عمولات على معظم العمليات.
ولفت الحلاق إلى افتقار سوريا لبطاقات الدفع المحلية والخارجية، والتطبيقات المصرفية الحديثة، مشدّدًا على ضرورة إتاحة الإيداع بكافة العملات، وتيسير السحب، وخفض العمولات. وأكّد أن المصرف يجب أن يمتلك نموذجًا ربحيًّا لا يعتمد فقط على اقتطاع العمولات، بل على أدوات مالية متطورة.
وختم بالتأكيد على أهمية رفع رؤوس الأموال لتمكين المصارف من ممارسة دورها التنموي، وأيضًا في بيع وشراء القطع الأجنبي والتحويلات، بما يتماشى مع رؤى مصرف سوريا المركزي، داعيًا إلى خطة واضحة لتحقيق هذه الأهداف، ومؤكّدًا أن القطاع المصرفي السوري قادر على استعادة الثقة إذا توفّرت الإرادة والخطط التنفيذية المدروسة.
نهاية القول: في خضم أزمة ثقة متجذّرة، وسيولة شحيحة تخنق الحركة الاقتصادية، تتراجع المصارف السورية عن أداء دورها التنموي، وتتحول من أدوات دعم إلى عبء على المؤسسات والأفراد. ورغم امتلاكها بُنى قابلة للتفعيل، فإن غياب الشركاء الاستراتيجيين وتراكم الإشكاليات التنظيمية يضعف قدرتها على مواكبة الانفتاح أو تمويل الإعمار. ومع كل ذلك، تبقى إمكانية النهوض قائمة إذا ما اقترنت الإرادة بخطة واقعية تعرف وجع السوق وتملك أدوات علاجه.