التسلل الإسرائيلي إلى سوريا: الحرب والسلم وما بينهما

ما بين سبتمبر المنصرم وسبتمبر الجاري، جرت وتجري مياهٌ كثيرة تحت الحدود السياسية وبين المداولات الدبلوماسية في سوريا، انقلبت موازين وتغيّرت مواقع، تقدّمت قواتٌ وتراجعت أخرى، أمّا الأكثر ثباتًا فهو الشغف “الإسرائيلي” بالتوسّع والسعي لاستغلال الفجوة بين تغييرٍ وآخر لإحداثه.
بدءًا من التوسّع البري جنوبي لبنان وسوريا، واحتلال قمّة جبل الشيخ، واستحداث نقاط ومواقع عسكرية، وحتى التوسّع السياسي بالضغط على مسارات الأنظمة الغضّة في لبنان وسوريا لصالح أمنه وهيمنته، بالتهديد حينًا، وبالهجمات الجوية والاغتيالات والتدمير الممنهج حينًا آخر، وبالإملاءات السياسية أحيانًا كثيرة.
حتى أضحى التطبيع جزءًا من ديباجة الأنظمة العربية المحيطة بالمحتل، يردّدونه اتّقاءً لشرّه -كما يقولون-، وتعمل أنظمتهم السياسية والإعلامية على الترويج له، تحت بند الضرورة والعقلانية السياسية، بينما ترقص بقية المنظومة على النغم نفسه، تأييدًا وطربًا على اكتمال الحظيرة عن آخرها.
من الحنجلة الأولى حتى الرقصة الأخيرة، تُحاول هذه المادة الانطلاق من التموقع التاريخي لسوريا في الخطاب الصهيوني، حتى التموقع السياسي لها في المنظومة الرسمية والأمنية “الإسرائيلية”، وما صاحبها من مقترحات ومفاوضات، ولعبٍ على أوتار الثورة والتقسيمات الطائفية، انتهاءً بنجاح الثورة وتصدّرها كتهديدٍ أمني استراتيجي، يتم الالتفاف عليه “إسرائيليًا” عبر أدوات العسكر ورهانات السياسة، وحتى التطبيع، المجهول القادم الذي لا يُعلَم ما بعده، والشرّ الذي يلقط الجميع للحاق بقطاره، ثم يقولون: “يا دار ما دخلك شر”.
سوريا قلب الخريطة الأولى
لم تنفصل سوريا يومًا عن الذهن التوسّعي الصهيوني، بل استحوذت على حصة البدايات فيه، حين سعت جماعات صهيونية منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى شراء أراضٍ في المناطق الجنوبية منها، بهدف تشكيل نطاقٍ جغرافي صهيوني يتيح تطبيق الحدّ الأدنى من “إسرائيل الكبرى”، ويستفيد من ضعف الرقابة العثمانية على انتقال وبيع الأراضي خارج سنجقي القدس وعكّا.
ففي عام 1885، ابتاعت جمعية “بيت يهودا” خمسة عشر ألف دونم من أراضي بلدة الرمثانية في الجولان الأوسط، لكنها تخلّت عنها بعد عامٍ واحد نتيجة الصعوبات المالية. ثم عاودت الكرة بشراء ألف دونم من أراضي بلدة بير الشاغور في المنحدرات الغربية، وأقامت عليها أول “يشوف” (مستوطنة على النمط الاشتراكي الصهيوني) حمل اسم “بني يهودا”.
في الوقت نفسه، كان البارون إدموند جيمس دي روتشيلد –راعي الصهيونية الأول– قد استحوذ على 150 ألف دونم من أراضي الجولان وحوران، وتمكّن بحلول عام 1894 من تأمين التصاريح القانونية والسياسية لإنشاء مستوطنتي “راموت نفتالي” و “ريفاديا” على الأراضي السورية. كما أقدم المستوطنون على مدّ طريق يمتد من بحيرة الحولة، وأنشؤوا مشاتل نباتات لتعزيز وجودهم الاستيطاني.
لاحقًا، ومع توسع عمليات الصندوق القومي اليهودي، اشترت جمعية “بني يهودا” من الجمعية اليهودية أراضي جديدة، لكنها فشلت في إثبات ملكيتها وتخلّت عنها. أما جمعية “أغودات أخيم” المسجلة في روسيا فقد اشترت عام 1896 مئة ألف دونم من أراضي منطقتي فيق ودرعا. كما دخلت جمعية “شافي صهيون” الأمريكية على الخط، قبل أن تصدر السلطات العثمانية مرسومًا بطرد العائلات غير العثمانية من المنطقة بعد أن تنبّهت للزيادة اليهودية الغريبة في جنوب سوريا.
تدريجيًا، بدأت سوريا الكبرى تفقد جاذبيتها للاستيطان اليهودي، نتيجة تصاعد العداء العربي، وتشدد القوانين العثمانية، إضافة إلى الجفاف وانتشار الأمراض وانقطاع الطرق. وبحلول الانتداب الفرنسي لم يبق سوى استثمارات روتشيلد في حاصبيا وبانياس واليرموك، التي أدارتها جمعية الاستعمار اليهودي، وجمعت إيجاراتها من الفلاحين العرب.
عرض هذا المنشور على Instagram
وفي مؤتمر بازل الأول (1897)، جرى رسم ملامح الطموح الصهيوني وربط حدوده بمشاريع مائية وكهربائية، تبدأ من نهر الأردن مرورًا ببحيرة طبريا واليرموك وحتى الليطاني، وكلها منابع ترتبط جغرافيًا بسوريا وعمقها.
ثم قدّم حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية، خريطته الشهيرة لمؤتمر فرساي عام 1919، متضمنة أجزاء واسعة من جنوب سوريا، بما فيها حوران وجبل الدروز (جبل العرب حاليًا) والهضبة الجنوبية، مبرّرًا ذلك بالحاجة لتأمين مصادر المياه السطحية والجوفية. وفي رؤيته، يشكّل الوطن القومي اليهودي جسرًا اقتصاديًا يربط سوريا بالموانئ العالمية، ما دفع فرنسا لمحاولة تمرير فكرة “تطبيع مبكر” بين دمشق والمشروع الصهيوني، عبر الضغط على قيادات سورية مثل هاشم الأتاسي و فارس الخوري للقبول الضمني بالمشاريع اليهودية. وقد ظهرت الفكرة ذاتها في اتفاقية كليمنصو–فيصل التي طرحت السماح بهجرة يهودية “محدودة” إلى فلسطين مقابل الاعتراف بكيان عربي في سوريا، وهو ما رفضه الوفد السوري.
هذا الاهتمام الصهيوني بسوريا امتد إلى الشأن الداخلي. فقد اعتبر قادة الحركة الصهيونية أن الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد الانتداب الفرنسي “خطرٌ على الاستيطان اليهودي”، وفق وصف بن غوريون. ونتيجة لذلك، أبدت الحركة الصهيونية تأييدًا صريحًا للفرنسيين، بل نسّقت معهم استخباراتيًا لمراقبة تحركات الثوار ورصدهم.
وكانت هذه التقديرات في محلّها، إذ سرعان ما تحولت سوريا إلى مركز دعم سياسي وعسكري للفلسطينيين الرافضين للانتداب البريطاني والهجرة اليهودية. فأسس السوريون جمعيات مثل “لجنة الدفاع عن فلسطين” و “لجنة إنقاذ فلسطين”، وقدموا الرجال والمال والسلاح. ومن سوريا خرج الشيخ عز الدين القسام قائد الكفاح المسلّح، بينما حمل راية الكلمة والخطاب كلٌّ من عبد الرحمن الشهبندر و الشيخ محمد كامل قصاب. كما احتضن السوريون رموز الثورة الفلسطينية مثل عبد القادر الحسيني، وقدّموهم بالدعم المالي والعسكري.
لكن هذه المساهمة سرعان ما فقدت مضمونها بعد عام 1947، إذ دخلت الحسابات السياسية على الخط. وتجلّى ذلك حين رفض فوزي القاوقجي، قائد جيش الإنقاذ السوري، طلب عبد القادر الحسيني إمداده بالسلاح في معركة القسطل –رغم توفره– فسقطت القسطل واستُشهد الحسيني، وعاد القاوقجي خائبًا.
من الاشتباك إلى فضّ الاشتباك
مع نهاية حرب 1948، بقيت الحدود السورية–الإسرائيلية صامتة عند حدود الهزيمة، لكنها لم تهدأ؛ إذ ظلّت تغلي بهجمات متقطعة تتخللها فترات تهدئة، تترافق مع محاولات دبلوماسية لتقبّل الكيان الناشئ، فيما واصل الاحتلال التوغّل في الجولان والحُمّة، ثم التراجع حينًا آخر.
ضمن هذه المحاولات، برز عرض حسني الزعيم، قائد أول انقلاب عسكري في سوريا، الذي سعى للحصول على اعتراف دولي بانقلابه، فطرح توقيع اتفاق سلام مع “إسرائيل”، يشمل ترسيم حدود على حساب الأراضي السورية، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين مقابل دعم مالي أمريكي. لم يُعمر الزعيم في الحكم أكثر من خمسة أشهر، ليُطاح به وبمخططاته.
في المقابل، بدأت سلسلة اتفاقيات الهدنة مع دول الطوق، كان آخرها اتفاقية الهدنة السورية–الإسرائيلية (20 يوليو/تموز 1949)، التي أُنشئت بموجبها منطقة منزوعة السلاح في الحولة والجولان (25 كم² تضم قرى عربية سورية)، على أن تبقى هذه الخطوط مؤقتة، لا تُعتبر حدودًا سياسية نهائية. وقد تولّت لجنة مراقبة مشتركة بإشراف الأمم المتحدة متابعة الالتزام.
لكن بينما التزمت سوريا بخطوط الهدنة، واصلت “إسرائيل” هجماتها داخل المنطقة الفاصلة، خصوصًا بين 1951–1956، محاوِلة فرض وقائع زراعية واستيطانية، وتحويل مياه نهر الأردن إلى الداخل الفلسطيني المحتل، في مواجهة محاولات سورية رمزية عبر القصف أو التمركز العسكري.
من هدم المنازل وتشريد العائلات في الحميدية، إلى اقتحامات واعتقالات في #بيت_جن و #القنيطرة يواصل الاحتلال الإسرائيلي سياساته العدوانية بحق المدنيين، في الجنوب السوري#سوريا pic.twitter.com/NYEKW5gRyg
— نون سوريا (@NoonPostSY) June 17, 2025
مع مطلع الستينيات تكثفت الاشتباكات حول مشاريع المياه، فقصف الاحتلال مواقع الحفر السورية عام 1964، ثم اندلعت حرب الخامس من يونيو/حزيران 1967، التي شنّتها “إسرائيل” تحت شعار “الضربة الاستباقية”، فاحتلت كامل هضبة الجولان بما فيها المنطقة الفاصلة، ودمّرت القرى وهجّرت سكانها. وصار الاحتلال يصف تلك الحرب لاحقًا بـ “حرب المياه”.
أُقيم بعدها خط وقف إطلاق نار جديد (1967)، وظلت سوريا تحاول اختراقه بهجمات استنزاف، حتى شنت مع مصر حرب تشرين/أكتوبر 1973، حيث تمكنت القوات السورية من التوغل في عمق الجولان خلال يومين، قبل أن يتدخل الأمريكيون لصالح “إسرائيل” التي استعادت مواقعها بفضل تفوقها الجوي. بل تجاوزت ذلك بابتلاع مساحات إضافية من الجولان بعمق 20 كم ومساحة 500 كم²، شملت أجزاء من جبل الشيخ ومناطق قريبة من دمشق، ما عُد تهديدًا استراتيجيًا للعمق السوري.
أفضت المفاوضات المكثفة بعد الحرب إلى اتفاق فضّ الاشتباك (مايو/أيار 1974) بوساطة هنري كيسنجر. وبموجبه استعاد حافظ الأسد مدينة القنيطرة، دون توقيع اتفاق سلام، مقابل تكريس الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وضمان أمنه عبر قوات الأندوف UNDOF الأممية. ظهر الاتفاق حينها كتسوية اضطرارية: الأسد الذي رفض السلام وجد نفسه مجبرًا على ترتيب عسكري مؤقت يُبقي “حق الرد” مفتوحًا، بينما حوّلت “إسرائيل” جزءًا كبيرًا من الجولان إلى منطقة خارج أي حسابات عسكرية مستقبلية.
ولعلّ ما لخّص تلك المرحلة قول كيسنجر الشهير: “لا حرب بدون مصر، ولا سلام بدون سوريا”، أي أن غياب تسوية شاملة مع دمشق أبقى الشرق الأوسط رهينة توترات دائمة.
مسلسل المفاوضات: سوريا خارج النص والأداء
من حظيرة البقر، الثور فر.. وفقًا للشاعر أحمد مطر، فهذا فعليًا ما حصل عام 1977، حين خرجت مصر من الحظيرة العربية إلى حلبة التطبيع والسلام، عبر اتفاقية كامب ديفيد (1978) ومعاهدة السلام (1979). حينها وجدت سوريا نفسها مضطرة للحفاظ على موقفها الرافض “لإسرائيل” عبر الجهد السياسي بدلًا من العسكري.
فانطلقت بدءًا من عام 1982 في دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية، واستثمرت في كل من يقف في وجه “إسرائيل”، وحاولت تأسيس تحالفات مع القادة العرب مثل الملك الأردني حسين بن طلال. لكن حرب الخليج وانهيار الاتحاد السوفيتي، وارتماء مصر في الحضن الأمريكي، تسبب في سحب العرب واحدًا تلو الآخر نحو طاولة التطبيع.
حتى أفرزت جهود الولايات المتحدة عن جمع الدول العربية، سوريا ولبنان والأردن، على طاولة واحدة، في مؤتمر مدريد عام 1991، لتُؤرخ تلك اللحظة كأول اجتماعٍ علني رسمي على طاولة واحدة بين العرب وعدوهم، يتبادلون فيه المطالب والتنازلات.
في المؤتمر “إياه” حضرت سوريا كطرفٍ أساسي ومحوري في المفاوضات، حيث مثل بعثتها الدبلوماسية السفير السوري في واشنطن وليد المعلم، وجلست على طاولة واحدة مع الوفد “الإسرائيلي” الذي قاده رئيس الوزراء إسحق شامير، في مشهد غير مسبوق، لن يُكتب له أن يتكرر مرةً أخرى.
لا سيما وأن الجانب “الإسرائيلي” شارك مدفوعًا بضغط أمريكي، رافضًا منذ البداية المطلب السوري بالانسحاب الكامل من الجولان حتى خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، والمطلب الفلسطيني بالاعتراف بمنظمة التحرير وحق الفلسطينيين في تقرير المصير، والمطلب الأردني بتحقيق ترتيبات حدودية أمنية.
ونتيجة تبعثر المطالب العربية، والإصرار “الإسرائيلي” على السلام من دون مقابل، وغياب ضمانات دولية ملزمة، واستغلال المؤتمر لفتح مسارات جانبية عربية-إسرائيلية، انتهى دون أي نتيجة تُذكر، معززًا مقولة شامير نفسه وتطميناته لجمهوره: “سنذهب إلى مدريد، وسنتحدث، ونتحدث، ونتحدث… إلى أن ينسحب العالم”.
خلال العامين اللاحقين، ظل إلحاح المسار السوري قائمًا، وازداد تأكيدًا بوصول إسحق رابين لمنصب رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي لم يدخر جهدًا في تصفير عدادات الحرب مع الأنظمة العربية، من خلال المفاوضات السرية مع الوفد الفلسطيني في أوسلو، ومسارات التفاوض مع الأردن، وأخيرًا المسار السوري.
بعد عامين من مدريد كانت أوسلو قد نضجت بما فيه الكفاية، لتخرج إلى العلن كاتفاق سلام، وجد قبولًا دوليًا وعربيًا طاغيًا، باستثناء الرفض السوري له، وخاصة من قبل الرئيس حافظ الأسد، الذي ذخر جهده لمهاجمته سياسيًا وإعلاميًا، باعتباره تكرارًا للخروج المصري من الحظيرة العربية، وتغييبًا للتنسيق مع البقية التي تجمعها عداوة مع محتلٍ نفسه، وتكريسًا للاحتلال بإضفاء شرعية دولية عليه.
وهو ما دفع الأسد لدعم الفصائل المعارضة لمنظمة التحرير، مثل حماس والجهاد والجبهة الشعبية القيادة العامة وكتائب الصاعقة، على حساب علاقته مع المنظمة التي رفض الاعتراف بصيغتها المستجدة ما بعد أوسلو، لتتحول دمشق إلى مركز للمقاومة الفلسطينية غير الرسمية، مقابل السلطة الفلسطينية بقيادة عرفات.
رغم ذلك ظل المسار السوري مجمدًا، ومصممًا على مرجعية أممية لأي عملية تفاوض، وتأكيد مستمر على قراري مجلس الأمن 242/338، حتى قدم رابين ما عُرف لاحقًا بـ “وديعة رابين“، متعهدًا بشكلٍ شفوي للولايات المتحدة، بالانسحاب الكامل من الجولان حتى حدود حزيران/ يونيو 1967.
مدينة لا تشبه غيرها، عاشت الاحتلال والخذلان، ووقفت شاهدة على الانسحابات.. تعرف لسيرة #القنيطرة.#رائحة_المدن pic.twitter.com/94gdxR9acN
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 13, 2025
على أن يسبق ذلك موافقة سورية على الانصياع للشروط الأمنية الإسرائيلية، والتطبيع الكامل للعلاقات معها، وتطبيق ترتيبات أمنية خاصة في الجولان والجنوب السوري، من بينها مناطق منزوعة السلاح، ومساحات مراقبة إقليمية، وقيود على حجم وانتشار القوات السورية بقربها، والتزام سوري بضمان أمن “إسرائيل” ووقف دعم المقاومة، والالتزام بترتيبات أمن مائي “إسرائيلي”.
لم يطل المقام بـ “وديعة رابين” طويلًا، ولم تلجأ الإدارة الأمريكية لكشفها بشكلٍ رسمي، لكنها سربتها للجانب السوري في صيف 1994 عبر مبعوثها دينيس روس، الذي فشل في تحويلها إلى جسر ثقة حقيقي أمام تشكيك السوريين بها، ومطالبتهم بتأكيدات خطية مباشرة من رابين، وبضمانات واضحة ملزمة.
وهكذا خسرت الوديعة قيمتها، لأنها كانت مشروطة بتجاوب السوريين مع المطالب الأمنية الإسرائيلية، ولأنها لم تكن مكتوبة أو موثقة أو مباشرة، وإنما جاءت كوعدٍ أقرب إلى النكث أكثر منه إلى التحقق، ولأن رابين اغتيل عام 1995 قبل أن تتحول إلى اتفاقٍ حقيقي، بينما لم تكن الإدارة “الإسرائيلية” التي جاءت بعده معنية بأي اتفاق يتم فيه الانسحاب من الجولان، تحت أي ظرفٍ كان.
وهكذا ظلت المفاوضات السورية-الإسرائيلية تتقلب بين الجمود والتعثر، بدءًا من بيريز الذي خلف رابين لكنه لم يحمل وديعته، مرورًا بنتنياهو في ولايته الأولى الذي رفض مبدأ الانسحاب الكامل من الجولان، حتى عام 1999 حين فاز إيهود باراك برئاسة الحكومة الإسرائيلية وحاول إعادة إحياء المفاوضات بالموافقة الضمنية على تفاهمات رابين.
لكنه عاد من خلال وفده المفاوض في مفاوضات شبردزتاون، وأخرج نقاط خلاف جديدة، رفض من خلالها خط حزيران/ يونيو 1967، في مقابل خط الانتداب البريطاني-الفرنسي 1923، الذي يحرم سوريا من حقها في الوصول والسيادة على الشاطئ الشمالي الشرقي من بحيرة طبريا، كما طلب ترتيبات أمنية جديدة ونصب محطات إنذار مبكر في الأراضي السورية، وقدم تطبيعًا تدريجيًا قبل الموافقة على الانسحاب. بينما اشترط الوفد السوري العودة إلى حدود 1967، وحقه في ضفته على بحيرة طبريا وسيادته الكاملة عليها، ورفض أي تطبيع حتى الانسحاب الكامل.
ونتيجة الجمود المتكرر انتهت الجولة بدون بيانٍ ختامي، قبل أن تتجدد في مارس/ آذار 2000، حين قدم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون اقتراحات إسرائيلية في لقاء مباشر مع حافظ الأسد، لم تعترف سوى بسيادة رمزية سورية على جزء من شاطئ بحيرة طبريا وانسحاب جزئي من الجولان، لينتهي اللقاء خلال دقائق، بدون نتيجة.
بالمحصلة، أدرك “الإسرائيليون” أن الجبهة السورية تقف وحدها ما بعد 1973، فأعملوا حيلهم العسكرية والسياسية لزعزعتها، بدءًا بمفاوضات جانبية، وتوقيع اتفاقيات سلام مع محيطها العربي، تركتها منبوذة وحيدة، لا تملك خيار الحرب ولا رفاهية السلم، الذي قدمته “إسرائيل” لها مشروطًا بالأمن الإسرائيلي القومي والمائي والسيادة الجوية والاستخباراتية، بينما وقف السوريون في انتظار اللحظة المناسبة لاستعادة ما فُقد، وتحرير ما احتُل من الأرض والإنسان.
من التسلل إلى التدخل
مع موت الأسد الأب منتصف عام 2000، تسلّم ابنه بشار مقاليد الحكم، لكن الحاكم الطارئ لسوريا لم يُؤخذ على محمل الجد عربيًا أو “إسرائيليًا”، وظل مساره الذي حدّد فيه أن “السلام خيار استراتيجي” لاستعادة كامل الجولان حتى خط 4 حزيران/ يونيو 1967، مجرد خطابٍ يتكرر سنويًا في جلسات البرلمان والمناسبات الوطنية.
وهو ما حفّز الحكومات “الإسرائيلية” (باراك ومن ثم شارون) على اعتبار الأراضي السورية مشاعًا لها، مستثمرة أحداث 11 من سبتمبر لتصنيف دمشق ضمن محور الشر، والتضييق عليها لاحقًا عبر الضغوط الأمريكية، والاتهامات الدولية بدعم المقاومة العراقية، والقصف المتكرر في العمق السوري.
وكان مطلع ذلك غارة عين الصاحب في أكتوبر/ تشرين الأول 2003، وهي أول هجوم “إسرائيلي” منذ حرب 1973، حيث استهدف سلاح الجو معسكر تدريب لحركة الجهاد الإسلامي في بلدة عين الصاحب بريف دمشق. بينما برّرت “إسرائيل” هجومها بأنه رد على عملية استشهادية في حيفا، وردٌّ على الإرهاب شبيه برد الولايات المتحدة على أحداث سبتمبر.
بعدها بعامين تفاقم العزل الدولي لسوريا ونظامها، لا سيما بعد عملية اغتيال رفيق الحريري، واندلاع ثورة الأرز إثرها، وتحميل دمشق المسؤولية السياسية عنه وإجبارها على الانسحاب من لبنان، بعد سلسلة ضغوط دولية وإقليمية هائلة، وصدور قرار مجلس الأمن 1559، الذي طالب بانسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، -والمقصود قوات الردع العربية السورية-.
مرةً أخرى استثمرت “إسرائيل” في التقهقر السوري وعملت على تقليم المزيد من أظافره، فشنّت عام 2007 غارة على موقع الكُبر في دير الزور، بعد ثلاثة أعوامٍ من الجهد الاستخباراتي المركز مع وكالة المخابرات المركزية وشبكة المخابرات الأمريكية، ما تسبب في تدمير مفاعلٍ نووي قيد الإنشاء، بشراكة سورية وإيرانية وبجهد علمي تقدّمه كوريا الشمالية.
عملية تدمير الكُبر حملت اسم “عملية البستان“، واعتُبرت اختبارًا لقدرات الردع السورية، كشف ضعف الدفاعات الجوية والأرضية السورية، وتأكيدًا للهيمنة الاستخباراتية والجوية “الإسرائيلية” على الشرق الأوسط. وهو ما عبّر عنه وزير الدفاع حينها أفيغدور ليبرمان بالقول: “الكل في الشرق الأوسط سيعمل جيدًا لاستيعاب المعادلة”.
ربما هذا الاستيعاب هو ما حفّز أطرافًا تركية وسورية لإعادة إحياء المفاوضات غير المباشرة مع حكومة أولمرت، لكن جمود المطالب عند لحظة 1973، واندلاع حرب غزة 2008، ورفض “إسرائيل” لأي تنازل، قطع التواصل، محوّلًا العلاقة “الإسرائيلية”–السورية إلى “عداوة يمكن التعايش معها”.
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، بالتزامن مع ثورات الربيع العربي، سارعت مراكز الأبحاث والدراسات السياسية لإعداد سلسلة دراسات وتقييم لمسار الثورة ومآلاتها على الأمن “الإسرائيلي”، بالتوازي مع حذرٍ دبلوماسي بالغ، وتصريحات رسمية (مثل موشيه يعالون، أفيغدور ليبرمان، بنيامين نتنياهو) تؤكد أن “إسرائيل” لن تتدخل عسكريًا في الشأن السوري، وأنه لا وجود لأي رغبة “إسرائيلية” في التدخل المباشر لإسقاط النظام، حتى لا يُستخدم ذلك كدعاية للنظام بأنه يقاتل “إسرائيل”.
بينما وضعت مراكز الأبحاث، ومن بينها معهد دراسات الأمن القومي “الإسرائيلي”، سيناريوهات عدة منها: انزلاق سوريا إلى حربٍ أهلية طويلة الأمد، أو سيطرة جماعات جهادية إسلامية على الجنوب السوري، أو سقوط الأسد بلا بديل، وحتى تراجع سيطرته المركزية.
كان الترجيح “الإسرائيلي” من بينها هو استمرار النظام، لا سيما وأنه يحظى بدعمٍ إيراني وروسي قوي، مقابل معارضة مفككة بين الجيش الحر والإسلاميين وغيرهم من الجماعات المتناحرة. وعليه فستصبح سوريا ساحة صراعٍ إقليمي طويل الأمد، تلعب فيها أذرعٌ مختلفة من إيران وتركيا والخليج وأمريكا وروسيا.
وبدراسة تداعيات كل سيناريو على الأمن “الإسرائيلي”، كان المفضل منها هو استمرار نظام الأسد، حتى لو كان ضعيفًا، لا سيما وأنه استطاع الحفاظ على هدوء جبهة الجولان منذ السبعينيات، -وهو ما دفع رئيس جهاز الموساد أفرايم هاليفي للقول إن الأسد هو رجل تل أبيب في دمشق-. ولتعزيز سيناريو بقاء الأسد، لجأت المستويات العسكرية لإعادة ترتيب أولوياتها، فكثفت مع بداية 2013 غاراتها داخل سوريا لضرب قوافل السلاح ومنع حزب الله من الوصول إلى السلاح الكيماوي أو الصواريخ المتطورة.
ثم استبدلت المستويات السياسية لهجتها بالإعلان صراحة أنها لا تستبعد التدخل عسكريًا إذا حصلت المعارضة السورية على أسلحة كيماوية، أو تمركزت قوات جهادية قريبًا من حدود الجولان، أو سقط النظام بشكلٍ شامل ومباشر. حيث حذّر نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي سيلفان شالوم من أن تراجع سيطرة النظام السوري واحتمال سقوطه قد يدفع “إسرائيل” إلى القيام بعمليات عسكرية.
التدخل “الإسرائيلي” لم يقف عند حدود قصف قوافل أسلحة المعارضة الإسلامية وحزب الله، ومخازن الأسلحة السورية في دمشق وحلب وحمص واللاذقية، ومواقع الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الشيعية (حزب الله، فاطميون، زينبيون)، واستهداف مطاري حلب واللاذقية، بل تنوّع لأشكالٍ متعددة، عُرفت باستراتيجية “المعركة بين الحروب” (MABAM)، التي مثّلت عنوان الأمن القومي “الإسرائيلي” قبل الطوفان.
من أشكال التدخل “الإسرائيلي”: دعم بعض فصائل المعارضة بشكلٍ محدود لخلق منطقة عازلة غير رسمية قرب الجولان، ابتداءً من 2013 بإطلاق حملة “الجار الطيب“، التي سعت من خلالها لنقل جرحى من المعارضة السورية وعلاجهم في المشافي “الإسرائيلية” في الجولان وصفد، وتقديم دعم لوجستي وغذائي لبعض القرى الدرزية قرب خط وقف إطلاق النار 1973.
هناك أيضًا التدخل الاستخباراتي، الذي تم من خلاله اختراق الأراضي السورية وجمع معلومات عن تحركات إيران وحزب الله، ما حفّز الموساد ووحدة الاستخبارات لاحقًا لاغتيال شخصيات مرتبطة بالبرنامج النووي أو نقل السلاح من خبراء إيرانيين وسوريين (مثل جهاد مغنية 2015). حيث استُخدمت فيه الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة والطلعات الجوية للحفاظ على هيمنة استخباراتية دائمة على العمق السوري.
وبالتوازي مع فقدان الأسد سيطرته على أجزاء واسعة من سوريا، وتقدم المعارضة في إدلب مطلع 2015، وتهديد دمشق والساحل، وتوسع تنظيم داعش، انطلق التدخل الروسي عبر حملة جوية واسعة من قاعدة حميميم، التي جرى إنشاؤها على عجلٍ في اللاذقية، كما ترافق ذلك مع وجود بحري روسي في طرطوس، وإرسال قوات خاصة، ونفوذ كبيرٍ للمستشارين العسكريين الروس على المسؤولين والقادة السوريين.
وهنا استثمرت “إسرائيل” في التدخل الروسي لصالح الأسد، بتنظيم آلية تنسيق عسكري مع موسكو لمنع الصدام، وهو ما سمح لها بمواصلة تدخلها العسكري والاستخباراتي واللوجستي على الأرض السورية، مقابل عدم تهديد مصالح موسكو ووجودها المباشر.
كما انضم التدخل السيبراني “الإسرائيلي” إلى أشكال تدخلها في سوريا، حيث أطلقت انطلاقًا من 2017 موجة هجمات سيبرانية على أنظمة الرادار والدفاع الجوي السوري، وأنظمة القيادة والسيطرة، وشبكة الاتصالات، معتمدة أساليب مختلفة تراوحت بين التشويش والخداع والتطفّل والتعطيل.
اللافت أن تنوع أشكال التدخل “الإسرائيلي” وعمق اختراقها، لم يقترن بأي سعيٍ لإسقاط الأسد، لكنها هدفت دومًا لتحسين شروط بقائه بما يخدم أمن الكيان، مثل إضعاف الوجود الإيراني، ومنع حزب الله من التموضع في الجولان، ومنعه من الحصول على أسلحة كاسرة للتوازن، والوقوف في وجه أي تقدم تحققه جهات “غير مرغوبة” إسرائيليًا من المعارضة.
في الواقع، ورغم الجهد العسكري “الإسرائيلي” المهيمن في سوريا، إلا أن الخطاب الرسمي -خاصة ما بعد 2015- اعتبر سوريا جزءًا من محور إيراني معادٍ له، من الأفضل تقليم أظفاره باستمرار بدلًا من الدخول معه في مواجهة غير محسوبة. وبينما ركز الأسد جهده للبقاء على رأس السلطة، واضعًا شعبه أمام خيارات من قبيل “الأسد أو لا أحد” و”الأسد أو نحرق البلد”، فضلت “إسرائيل” خوض حربٍ جوية مدروسة، لا تُشعل الجبهة ولا تدفع الأسد للخروج من عنق “نحتفظ بحق الرد” إلى الرد نفسه.
من الغسيل إلى التلميع
بحلول عام 2020 كانت العلاقة بين “إسرائيل” وسوريا في أفضل أحوالها “إسرائيليًا”، فالضربات الجوية على المطارات والمخازن والجنوب السوري منتظمة وسلسة، والنظام السوري يرزح تحت الضغط المالي والعزلة الدولية والكراهية الداخلية، وهناك وجود روسي منسق له، وخط ساخن لتجنب الاحتكاك الجوي بين الطيران الروسي الذي يستهدف السوريين، والطيران “الإسرائيلي” الذي يستهدف حلفاءهم وأعداءهم.
ولا حاجة لأي مفاوضات علنية أو سرية، بينما يترنح الخطاب السوري الرسمي بين التركيز قولًا على “إسرائيل” كعدو مركزي -رغم انعدام الفعل العسكري ضده- والتركيز فعلًا على شعبه كعدوٍ حقيقي يتم ضربه بالقنابل الكيماوية والبراميل الحارقة، وملء السجون عن آخرها بالمعتقلين والمغيبين من أبنائه.
في الوقت ذاته كانت المنطقة العربية تشهد جملة تحولات، من بينها انتقال العلاقات “الإسرائيلية”-الإماراتية من السر إلى العلن، ودخول كل من البحرين والمغرب والسودان إلى حلبتها، وزيارة رئيس الوزراء “الإسرائيلي” نتنياهو لكلٍ من عُمان والبحرين والإمارات والمغرب، وتكثيف اللقاءات الدبلوماسية مع ليبيا والمملكة العربية السعودية، وسعي الدول العربية لكسب رضا ترامب في ولايته الأولى عبر التقرب سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا وعسكريًا من “إسرائيل”.
مظاهرات تعمّ الشمال السوري رفضًا للتطبيع والمصالحة مع نظام الأسد. pic.twitter.com/RzaTIuuQUc
— نون بوست (@NoonPost) December 30, 2022
الآثار الجانبية للتطبيع الإبراهيمي لم تلبث أن بدأت تسري في المستويات السورية الرسمية، خاصة بعد انطلاق موجات الغسيل والتلميع الخليجي لدمشق، والسعي لإعادتها إلى الجامعة العربية، وهو ما تابعته مراكز الأبحاث “الإسرائيلية” بريبة، مثل (مركز بيغن–السادات BESA، ومعهد الأمن القومي INSS).
تصدّر ذلك سعيًا إماراتيًا لإبراز مكانة أبو ظبي كقوة إقليمية مؤثرة قادرة على اللعب على أكثر من وترٍ في الوقت ذاته، بدءًا بإعادة فتح السفارة الإماراتية في دمشق عام 2018، ثم اتصال محمد بن زايد بالأسد عام 2021، وما لحقه من زيارة الأسد للإمارات عام 2022، التي طُرحت خلالها ملفات مثل إعادة دمج سوريا في الحظيرة العربية لمواجهة النفوذ التركي والإيراني، وضخ الاستثمارات والشركات الإماراتية في السوق السوري لإعادة الإعمار.
تزامن سعي الإمارات مع انفتاحٍ أردني ملحّ على إعادة فتح المعابر مع سوريا، وتنشيط خط الغاز العربي عبر سوريا، مدفوعًا بحاجتها لحماية حدودها الشمالية من تهريب المخدرات (الكبتاغون) والأسلحة للجماعات المسلحة – وهو إلحاح إسرائيلي أيضًا لأن هذه الحدود هي ممر تهريب الأسلحة الرئيسي للضفة الغربية –، ورغبتها في تخفيف العبء الاقتصادي للاجئين السوريين على أراضيها بتأمين عودة تدريجية لهم.
ثم مطلع عام 2023 انخرطت كُل من عُمان والبحرين والمملكة العربية السعودية بمسار التطبيع السوري، لا سيما بعد اتفاق الأخيرة مع إيران برعاية صينية، وافتتاحها قمة جدة (مايو 2023) بإعادة الأسد إلى الجامعة العربية، في محاولة ملتوية لتقليص النفوذ الإيراني عبر الانفتاح بدلًا عن القطيعة.
وما بين الخطوة والأخيرة، ظلت التقديرات “الإسرائيلية” تُرجع أن الإمارات قد تلمّح للأسد بأن العودة للحضن العربي يمر عبر قبول قواعد اللعبة الجديدة، التي أصبح التطبيع مع “إسرائيل” وفقًا لها مقبولًا، دون أن يعني ذلك مسارعة الأسد لقبول التطبيع، لا سيما وأن “عداوته المركزية لإسرائيل” هي ورقته الرابحة داخليًا.
محذّرةً في الوقت ذاته من أن التطبيع قد يُعقّد حسابات “إسرائيل” العسكرية، خاصة إذا عادت شرعية النظام إقليميًا، أو تم تسليح الجيش السوري، أو إعادة تأهيل سوريا اقتصاديًا بما يسمح لها باستعادة دورها التقليدي كجبهة مواجهة، أو باكتساب هوامش مناورة إضافية له.
بينما أكد المستوى الرسمي (السياسي والأمني) في تصريحاتٍ مختلفة أن أي انفتاحٍ عربي على دمشق يجب ألا يُترجم إلى تخفيف الضغوط على الوجود الإيراني أو شحنات السلاح إلى حزب الله، وهو ما عبّرت عنه الصحف “الإسرائيلية” بالقول: “التطبيع العربي مع دمشق لن يغيّر حقيقة أن سوريا ساحة للنفوذ الإيراني”، و”الأسد يعود من العزلة رغم جرائمه لكن يبقى رهينة إيران وروسيا”.
فوق السطح كان العالم العربي يتهيأ لموجة تطبيعٍ إبراهيمي جديدة، هذه المرة تقودها السعودية وتدفع إليها عدة دول عربية وإسلامية، أما تحته فقد خرج انفجار الطوفان في السابع من أكتوبر 2023 ليربك المنطقة العربية بأكملها، ويعيد ترتيب أولويات “إسرائيل” نحو الأمن وفائض الأمن أولًا وأخيرًا.
لذا ما إن اندمجت المقاومة في لبنان (حزب الله ولاحقًا فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية السنية) في مسار الطوفان، حتى سارعت “إسرائيل” لإطلاق موجة استهدافات واسعة ضد مواقع وقيادات فلسطينية ولبنانية وإيرانية داخل سوريا، وارتفعت الضربات الجوية بشكلٍ ملحوظ لتشمل مستودعات وقواعد إطلاق.
بينما توسع الميدان اللبناني على حساب السوري، ما حوّل الأخير لمنصة دعمٍ وتمرير أسلحة وتخفيف ثقلٍ قتالي، في مستوى الاشتباك والمواجهة مع “إسرائيل”، وإن كان النظام السوري قد أطلق سلسلة بيانات مؤيدة للمقاومة ومنددة بالعدوان، إلا أن التطبيع العربي فرض نفسه على دمشق، ما دفعها للحد من دعمها العملي للمقاومة، وتقييدها لأي عملٍ عسكري واسع ينطلق من أراضيها ضد الاحتلال، حتى من جانب فصائل المقاومة.
كما رُصدت مساعٍ رسمية لتقييد تحركات بعض الفصائل الفلسطينية داخل سوريا، والضغط عليها لإيقاف استخدام الجنوب السوري كمنصة لإطلاق الصواريخ، ما دفع بعض المصادر “الإسرائيلية” والبحثية لوصف دمشق بأنها كانت تريد منع التصعيد المباشر عبر الجبهة السورية حتى لا يجرها إلى حرب شاملة تهدد بقاء النظام.
عرض هذا المنشور على Instagram
أما على الحدود الجنوبية فقد فعّلت “إسرائيل” إجراءاتها الأمنية، ورفعت من وتيرة عمليات التمشيط والمداهمات داخل المناطق القريبة من الحدود، بالتوازي مع سعي لرفع التنسيق الروسي لضمان تحركات جوية سريعة وبدون مخاطرة، ودبلوماسية عربية (السعودية – الإمارات – الأردن – مصر) حاولت إقناع الأسد بالابتعاد عن إيران، وإبقاء الجبهة السورية هادئة، ومنع حزب الله أو الميليشيات الإيرانية من استخدام الأراضي السورية ضد “إسرائيل”، بحجة أن ذلك يجعله عُرضة للاستهداف “الإسرائيلي”، ويعرقل إعادة الإعمار والانفتاح العربي معه.
فعليًا، لم تكن جنوب سوريا جبهة حربية بالمعنى الفعلي، لا سيما وأن التجريف “الإسرائيلي” تركها مكشوفة ومخترقة أمنيًا وجويًا منذ عقود، لكن توقف الحرب على الجبهة اللبنانية في نوفمبر 2024، امتد إليها تلقائيًا، ومنح الأسد لحظاتٍ قصيرة من التقاط الأنفاس، بينما كان نظامه قد بدأ يتآكل، بينما ازدادت الهجمات المنظمة على مناطقه وقواته، وبدأت جماعات المعارضة تلملم صفوفها لمعركة جديدة معه.
سوريا الجديدة: أمامك تطبيعٌ عند أول منعطف
بضعة أيامٍ فقط وكانت دفاعات النظام في انهيارٍ متتابع بينما تتوسع سيطرة مقاتلي المعارضة بدءًا من الشمال الغربي حتى مدن مركزية، وانتهاءً بفرار الأسد على متن طائرة متجهًا إلى الإمارات ومن ثم روسيا، ليُستتبع ذلك بإعلان سقوطه التام في الثامن من ديسمبر 2024.
لم تلبث “إسرائيل” أكثر من 24 ساعة حتى سارع جيشها لاستدعاء مخططات توسعه القديمة، تحت مُسمى “سهم باشان”، لتحتل قمة جبل الشيخ السوري، وثلاث قرى في الريف السوري، فيما فرضت حظر التجوال على سُكان خمس قرى أخرى، لتسيطر على 1200 كم² من الجولان، بالتوازي مع جهدٍ جوي شمل حملة ضرباتٍ عارمة طالت نحو 80% من قدرات الجيش السوري، بما في ذلك الطائرات والمروحيات والدبابات والسفن الحربية.
جاء ذلك بعد ساعات من إعلان رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو انهيار اتفاق “فضّ الاشتباك” الموقع مع سوريا عام 1974، وإصداره أوامر للجيش بالاستيلاء على المنطقة العازلة (مساحتها 235 كيلومترا مربعا) التي تنتشر فيها قوات “أندوف” التابعة للأمم المتحدة.
ومنذ اللحظة الأولى رفع المستويان السياسي والعسكري شعار “جبل الحرمون لنا ولن ننزل عنه”، بينما تصاعد الجهد العسكري البري والجوي تباعًا لتقليم أظافر النظام الجديد – حتى قبل أن تنمو –، بدءًا بجولات استطلاعٍ برية، واجتماعات ميدانية مع وجهاء محليين، وعمليات تفتيش وعمليات إبعاد مسلّحين من مناطق قريبة من حدود الجولان، والسيطرة على المزيد من القرى في درعا والقنيطرة.
وخلال أقل من شهرٍ واحد كان العمق السوري قد تعرض لأكثر من 300 ضربة، بينما بلغ معدل الضربات العام ضربة واحدة متنوعة الأداة كل 3-4 أيام على الأقل، استهدفت مقرات أمنية واستخباراتية سورية وإيرانية ومخازن أسلحة روسية تم إخلاؤها، ومواقع تدريب تركية.
ورغم أن القيادة السورية الجديدة سارعت في وقتٍ مبكر للتأكيد المتكرر على حُسن نواياها، وعدم رغبتها في تهديد أي من الأقاليم المجاورة، وسعيها للانسجام مع المحيط العام، وانفتاحها على المشاريع التي تُسهم في تخفيف العزلة الدولية، ورفع العقوبات عن سوريا، وإعادة إعمارها وإحياء اقتصادها، إلا أن “إسرائيل” فضّلت الاستمرار في نهج التقليم دون هوادة.
عوامل أخرى مختلفة لعبت في التوازنات القائمة بين سوريا و”إسرائيل”، فالتدخل والدعم التركي للقيادة الجديدة بالتوازي مع خطابٍ تصعيدي ضد “إسرائيل”، وحالة النفور العربي من الدور التركي المستتبع بحفاوة قطرية، والرغبة السورية في الحفاظ على علاقة طيبة مع الجميع، دفعتها لإعادة التموضع نحو الإمارات والسعودية على حساب تركيا وقطر، ما أتاح دورًا أكبر للإمارات ومحورها.
انعكس ذلك بإطلاق الإمارات قناة اتصال غير رسمية، منتصف إبريل 2025، بين دمشق وتل أبيب، لمناقشة القضايا الأمنية وتبادل المعلومات الاستخبارية وبناء الثقة، بينما فسّرت جهات إعلامية ميل الجانب السوري للإمارات دونًا عن غيرها في هذا الملف، بأنها ترى في الإمارات شريكًا ممكنًا لفتح الأبواب، من خلال تقديم تسهيلات أمنية وتخفيف تصعيد دون تطبيع كامل.
وهو ما تُرجم خلال أقل من شهرٍ واحد، حين أعرب الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع – خلال لقائه مندوبين أمريكيين – عن انفتاحه على الانضمام إلى “اتفاقات إبراهيم” (Abraham Accords) وتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، بشرط أن توقف الأخيرة أفعالها العسكرية داخل سوريا وتحترم وحدة الأراضي السورية.
الأردن أيضًا انسجم مع التيار حين أطلق محادثات مع سوريا الجديدة، بوساطة الولايات المتحدة، لضمان الأمن المشترك، ومنع التهريب ومنع تموضع ميليشيات على حدود سوريا–الأردن، واعتُبرت هذه النقاط شروطًا “إسرائيلية”-إقليمية لضمان أي تهدئة أو تطبيع أمني، شمل ذلك أيضًا جزرة المساعدات الحيوية من المساهمة في مد خطوط الكهرباء والغاز.
السعودية أيضًا تركت بصمتها في مسار التطبيع حين نقلت رسائل أمريكية-“إسرائيلية” واضحة إلى قيادة دمشق (الحكومة الانتقالية) تطالبها بإنهاء حضور إيران والميليشيات، والالتزام بضوابط على الحدود كشرط لأي تهدئة أو انخراط إقليمي، وتُقدّم – الجزرة إياها – الدعم الاقتصادي والإسهام بإعادة الإعمار، وتوفير غطاء سياسي إقليمي يسمح لدمشق بالتحرك نحو تسوية أمنية كمقابل.
اللافت أن المستويات “الإسرائيلية” حددت ما تريده مسبقًا من الإدارة السورية الجديدة، ورسمت آليات التنفيذ والفاعلين فيه، ففي خطة “درع أبراهام” الصادرة عن التحالف الإقليمي لأمن “إسرائيل” والمنبثقة عن مؤتمر غربي (أمريكي-إسرائيلي في الغالب) عُقد مطلع 2025، وهي المؤسسة الشهيرة التي رفعت يافطة يظهر فيها نتنياهو متوسطًا الزعماء العرب، ومن ضمنهم الشرع، إبان العدوان على إيران.
حدد راسمو السياسة “الإسرائيلية” مستقبل العلاقة مع سوريا، وفق منظور: توقيع اتفاقية عدم اعتداء بالتوازي مع دمجها في المعسكر العربي المعتدل، وركزت الخطة على أن الاتفاقية ستكون محسّنة بما يضمن بقاء قواتها في مرتفعات الجولان، وأن “إسرائيل” ستعمل – ستستخدم – الشركاء الإقليميين لضمان قيام الحكومة السورية بالحفاظ على أمن الأقليات العرقية، ومنع عودة النفوذ الإيراني.
كما فصّلت أولوياتها الأمنية في الخطة، من قبيل احتفاظها بالحرية العملياتية لإحباط التهديدات الاستراتيجية من الأراضي السورية ومنع تهريب الأسلحة إلى لبنان والأردن والضفة الغربية، وهو ما يعني هيمنتها على السماء والبحر والحدود السورية، مشترطة استباق دمج سوريا إقليميًا بنزع الصفة الجهادية لها.
المُثير، أن “إسرائيل” التي تجمعها اتصالات فنية deconfliction talks مع تركيا، لتجنّب التصادم العسكري ولتنسيق عملياتهما في الأجواء السورية لمنع الحوادث غير المقصودة، اختارت تركيا بلدًا وسيطًا للتنسيق الأمني مع سوريا للحفاظ على واقع أمني مستقر داخل البلاد.
ما الذي تحقق من ذلك حتى الآن؟
فتح قنوات تفاهم أمنية مباشرة ومن ثم غير مباشرة بين دمشق وتل أبيب، برعاية – لتل أبيب – وضغطٍ – على دمشق – أمريكي وعربي، يُطرح من خلالها مشاريع ونماذج لتسويات أمنية ومناطق منزوعة السلاح، مقرونة بعروض لإعادة إعمار مبدئية، ورفع عقوبات جزئي، وحفاوة من ترامب والمجموعة الأوروبية.
ما الذي لم يتحقق؟
ما زالت سوريا تُطالب باستعادة الجولان، وضمان أمنها وسيادتها، وازدياد حضورها الدولي، وعودتها اقتصاديًا وسياسيًا إلى خريطة العالم، بينما يمشي دبلوماسيوها على حافة الكلمات خشية أن يزلّ أحدهم فيؤذي الحس “الإسرائيلي” الأمني المرهف، فيما تتسرب التصريحات – من مصادر أجنبية دائمًا – عن قناة اتصالٍ هنا وهناك واستعدادٍ لتوقيع اتفاق سلامٍ أو حُسن نوايا.
ما المطروح حاليًا؟
المخطط “الإسرائيلي” بصلافته الأولى، من 1973 حتى اليوم: لا تموضع إيراني، لا صبغة جهادية، لا خطوط ومواصلات لحزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية، لا انسحاب من الجولان أو القنيطرة أو جبل الشيخ، لا ارتماء كامل في الحضن التركي – الحضن الإماراتي أدفأ –، هيمنة مرنة على الجو والبحر وقدرة على التدخل السريع استخباراتيًا وعسكريًا.
ما المتوقع؟
وفقًا لتأكيد الرئيس السوري أحمد الشرع، خلال تواجده تحت مظلة الأمم المتحدة في نيويورك، فهناك ضرورة للتوصل لاتفاق أمني بين سوريا و”إسرائيل”، محذرًا من حدوث اضطرابات جديدة في الشرق الأوسط إن لم يتم ذلك، رغم أنه أشار إلى أن قصف القصر الجمهوري مطلع مايو الماضي إعلان حرب.
الشرع قال خلال جلسة حوارية نظّمها في نيويورك مركز الأبحاث الأميركي ومعهد الشرق الأوسط: “لسنا نحن من يسبّب المشاكل لإسرائيل، نحن نخاف من إسرائيل وليس العكس”، ثم ألقى باللوم على “إسرائيل” لأنها تؤخّر المفاوضات وتواصل انتهاك المجال الجوي واختراق الأراضي السورية وتدافع عن مصالح الأقلية الدرزية، ثم استبعد أي اعتراف سوري بالكيان في الوقت الراهن.
رويترز عن أربعة مصادر:
📌 جهود التوصل لاتفاق أمني بين سوريا و”إسرائيل” تعثرت في اللحظات الأخيرة
📌 كان الاتفاق يهدف إلى إنشاء منطقة منزوعة السلاح تشمل محافظة السويداء
📌 العقبة تكمن في طلب “إسرائيل” السماح لها بفتح “ممر إنساني” إلى محافظة السويداء بجنوب سوريا pic.twitter.com/5aekz8UpEl— نون سوريا (@NoonPostSY) September 26, 2025
وهكذا، يغدو المتوقع والمشروط تطبيق المخطط “الإسرائيلي” نفسه، وفق قول وزير الخارجية الإسرائيلي: “تطبيع العلاقات مع سوريا سيتم فقط إذا بقيت الجولان تحت السيطرة الإسرائيلية”. وهكذا لا اعتراف متبادل ولا اتفاق سلام، وإنما اتفاق خفض تصعيد، يُتيح لسوريا تدفق الأموال والاستثمارات، والانسجام في التحالف الإقليمي لأمن “إسرائيل”، بينما تقوم أبو ظبي وأنقرة بدور الوسيط الاستخباراتي الأمني بين الجهتين، للحفاظ على التهدئة وتبادل المعلومات، وإشراف القيادة السورية نفسها على تقليم أظافرها بما لا يستدعي ضرباتٍ أو تدخلًا عسكريًا “إسرائيليًا” محرجًا لسيادتها.
يُحقق هذا التوقع مصالح مختلف الأطراف: تحفظ “إسرائيل” أمنها وهيمنتها، تلتقط سوريا أنفاسها وأموالها، تتموضع الإمارات في زاوية المشرف الخبير بالعلاقات التطبيعية، بينما تحافظ تركيا على خطاب سياسي متطرفٍ ضد “إسرائيل” وعلى علاقات أمنية منسجمة معه.. ويا دار ما دخلك شر.