حرب ترامب مع المؤسسات العلمية.. مسكنات الألم والتوحّد نموذجًا

بطريقة ترامب المعهودة في تبسيط كلامه واختصاره، صرح الرئيس الأمريكي خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض يوم 22 سبتمبر/أيلول 2025 بأن دواء التايلنول “ليس جيدًا”، خاصة للحوامل لارتباطه بمرض التوحد.
نستعرض في هذا التقرير الحقائق العلمية حول الباراسيتامول أو ما يدعى بـ”الأسيتامينوفين”، وهو الاسم العلمي للمادة الفعالة المسوَّقة تجاريًا تحت أسماء تايلنول وبنادول، بوصفها أكثر مسكنات الألم وخافضات الحرارة استخدامًا منذ عقود، ونناقش علاقته بمرض التوحّد بحسب ما تقوله أحدث الدراسات، ونرصد مواقف المنظمات الصحية الدولية من هذه المزاعم، ثم نعرج على الخلفية الأوسع لخطاب ترامب وحزبه المحافظ تجاه العلوم الطبية واللقاحات.
ماذا تقول الدراسات العلمية عن الباراسيتامول والتوحّد؟
يمكن القول إن تصريحات الإدارة الأمريكية بتسبب الباراسيتامول في التوحد تمثل خلطًا فوضويًا للأبحاث مع بهرجة إعلامية ثقيلة، إذ جرى انتقاء بعض الدراسات التي يمكن تصنيفها كنظريات أولية والترويج لها، مع تجاهل الأبحاث المتقنة، ما أحدث بلبلة على مستويات عدّة.
في المؤتمر، لم يأتِ ذكرُ أحدث وأوسع الأبحاث حول ارتباط هذا الدواء بمرض التوحد، وهي دراسة شملت تحليل بيانات 2.5 مليون طفل، وتوصلت إلى أنه لا توجد زيادة في احتمال الإصابة بالتوحد عندما أُخذت العوامل الوراثية بعين الاعتبار.
إن مزاعم ارتباط الباراسيتامول بالتوحد تستند إلى خلط بين مفهومي “الارتباط” و”السببية”، فعلميًا، هناك اختلاف جوهري بينهما؛ فقد تُظهر ورقة إحصاءات تفيد بأن مبيعات المثلجات ونِسَب الجرائم ترتفعان في فصل الصيف، ما يعني وجود ارتباط بينهما، لكن ذلك قطعًا لا يعني أن أحدهما مُسبِّب للآخر!
وقد ضرب الكاتب الرئيسي للورقة التي استشهد بها ترامب في المؤتمر مثال “المثلجات والجرائم” هذا خلال حديثه لصحيفة نيويورك تايمز، وأضاف أن النتيجة النهائية التي توصل إليها لا تعني أن مسكن الألم يسبب التوحد، كما أشار إلى احتمال وجود أسباب أخرى لدى النساء اللواتي تناولن الأسيتامينوفين أثناء الحمل قد أدت إلى هذه النتائج.
أحد “الأغطية العلمية” التي استند إليها المؤتمر جاء على لسان مفوض إدارة الغذاء والدواء (FDA)، الذي اقتبس من أعمال عميد كلية الصحة العامة في هارفارد أندريا باتشاريلّي لتدعيم التحذير من استخدام الأسيتامينوفين أثناء الحمل، غير أنّ صحيفة نيويورك تايمز أظهرت أن باتشاريلّي كان قد تقاضى نحو 150 ألف دولار لقاء شهادته كخبير في دعوى عام 2023 ضد دواء تايلنول؛ وهي شهادة رفضتها القاضية الفيدرالية بسبب تعمّد انتقاء أبحاث معيّنة وتجاهل أخرى تدلّ على دور العوامل الجينية في اضطراب طيف التوحّد.
تسييس العلم المستمر
بعد الفوضى التي أحدثها ترامب، سارعت معظم المنظمات ووزارات الصحة حول العالم، كمنظمة الصحة العالمية، والوكالة الأوروبية للأدوية، وهيئة الدواء البريطانية، وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، والأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال، ووزارة الصحة المصرية، إلى التأكيد بأن الباراسيتامول يبقى خيارًا آمنًا عند الحاجة أثناء الحمل، مع الإشارة على ضرورة استخدامه بأقل جرعة ولأقصر مدة ممكنة، وأنه لا يوجد أي دليل علمي قاطع يربطه بمرض التوحّد، كمت اعتبرت تصريحات ترامب ذات طابع سياسي وشعبوي أكثر من كونها مبنية على حقائق طبية.
خلط الحابل بالنابل والاجتهاد في تسييس العلم لخدمة مصالح سياسية واقتصادية ليس جديدًا على ترامب؛ فتاريخه مع المؤسسات العلمية والجامعات حافل بالتشكيك والصدام، ومن يتابع مجلة “نيتشر” العلمية مثلًا يلاحظ أن نشرتها الأسبوعية لا تكاد تخلو من مقال يدين مشاغبات الرئيس الأمريكي، كتقليص التمويل أو قطعه، وفرض قيود سياسية على تمويل الباحثين وغيرها من الأفعال.
هذا الدأب الذي يتبعه ساكن البيت الأبيض في استخدام التمويل الفيدرالي لتحقيق مآربه ودعم مساعي حزبه الجمهوري معروف جيدًا؛ فهو لا يفوّت فرصة للترويج لمبادئ حزبه، وكان آخرها خطابه في الأمم المتحدة الذي شنّ فيه هجومًا على ما هبّ ودبّ، وكان من جملة ما استهدفه اللقاحات واللاجئون والتغيّر المناخي والبصمة الكربونية. ويمكن القول إن القاسم المشترك بينها في خطابه كان أثرها السلبي على الاقتصاد.
يتجلّى هذا العامل الاقتصادي السياسي الصحي بوضوح من خلال حرب ترامب على العديد من الجامعات والمراكز البحثية، وسحب التمويل منها، واتهامها بمعاداة السامية. وهو ما يتماشى مع تصاعد نزعة الشك بالعلم داخل الأوساط المحافظة الأمريكية، ومحاربة الأجانب والوافدين والتضييق عليهم قدر المستطاع أو ترحيلهم، سعيًا لتطبيق وثيقة الحزب الجمهوري التي توصي بجعل الجامعات «أماكن آمنة ووطنية مرة أخرى».
وفي هذا الصدد، أشار الدكتور عبد الله العسيري، نائب وزير الصحة السكانية بوزارة الصحة في المملكة العربية السعودية، إلى الضرر الكبير الذي تنتجه مثل هذه التصريحات المسطّحة والبعيدة عن الدراسات العلمية المحكمة، وأنها ستؤدي إلى وقف تمويل الأبحاث العلمية المتقدمة المختصة بفهم مرض التوحد، والتي تُقدَّر بملايين الدولارات، ما سينعكس سلبًا على العديد من الأطفال والأسر التي تعاني من هذا المرض.
لذا حين يطلق ترامب مثل هذه التصريحات حول الباراسيتامول أو اللقاحات، فإنه يخاطب شريحة من جمهوره تتبنّى نظريات المؤامرة أو تتوجّس من العلوم، ما يكسبه تأييدها ولو على حساب الدقّة العلمية.
الكثير من المغالطات
توالت المغالطات واحدة تلو الأخرى خلال اللقاء الصحفي؛ فقد أُعلن فيه أيضًا عن حلّ سحري سيُنقذ “مئات وآلاف الأطفال المصابين بالتوحّد”، إلا أنّ الأبحاث التي أُجريت على دواء “ليوكوفورين” المشار إليه كعلاج للتوحد لا تزال أولية ومحدودة للغاية وتشمل فئةً معينة من المصابين.
ولم ينسَ ترامب في المؤتمر أن يذكر اللقاحات ويثير الشكوك حولها كعادته، وأن يشير إلى أن الآميش لا يصابون بالتوحد، متجاهلًا أن معدلات التشخيص لديهم أقل بسبب تجنبهم معظم أشكال الطب الحديث؛ أما حين يلجؤون إلى الرعاية الطبية فتُكتشَف بالفعل حالات التوحد.
ووسط هذه السجالات تظل الضحية الأولى لـ”حرب” التوحد ومسكنات الألم هي الأم؛ تلك التي قال لها ترامب من منبره، متبجّحًا: “tough it out” أو “شدّي حيلك وتحمّلي كم يوم”، متساهلًا مع المخاطر التي قد تلحق بها إذا لم تتعامل مع الحُمّى أو الوجع، ومشيحًا ببصره عن الأضرار التي تسبب بها، وعن العبء الذي سيقع على عاتق المختصين والأطباء لتصحيح المعلومات ومعالجة خيبة الأمل الزائفة لدى أهالي المرضى.
وختامًا، تبقى نصيحة الأطباء والخبراء على حالها: الاستمرار في استخدام الباراسيتامول عند الحاجة أثناء الحمل وبأقل جرعة ولأقصر مدة ممكنة، باعتباره الخيار الأكثر أمانًا لمعالجة الألم والحُمّى في هذه الفترة، مع التأكيد أن عدم العلاج قد يشكّل خطرًا على الجنين، في حين أن البدائل الأخرى من المسكنات مثل الإيبوبروفين والأسبرين مثبتة أضرارها على الحامل والجنين، لذلك يبقى الباراسيتامول دواءً موصى به عند اللزوم وتحت إشراف طبي.