الفلسطيني وقضيته في مخيلة الرجل الأبيض

في عصر يوم أربعاء بارد من مارس/آذار 1946، وصلت حنّا آرندت – التي قدّمت نفسها فور وصولها باعتبارها ناجية من الموت – إلى المدينة البيضاء التي تحولت بالتدريج، تحت ثقل التاريخ وسخريته، إلى حاضرة مترامية الأطراف، ملوثة بالهواء ورذاذ البحر، نابضة بالحياة، والتي ستُعرف لاحقًا بتل أبيب. جاءت بدعوة من الحركة الصهيونية العُمّالية لتفقد سير عملية الاستيطان، ورؤيتها متجسدة هندسيًا في عشرات الكيبوتسات (المستوطنات)، التي بدا أنها أُنشئت على عجل من أجل الالتهام الجغرافي والإفراغ الديموغرافي لا أكثر.
أشادت آرندت بما رأته عيناها، وكتبت بيد واثقة وبخط امرأة ناضجة برقية أرسلت مباشرة إلى ما بات يُعرف بأوّل رئيس وزراء لـ “إسرائيل”، ديفيد بن غوريون:”عزيزي دودي، لامرأة مثلي فقدت كل شيء في أفران الغاز، فإن هذه الأرض هي أقل ما يمكن تقديمه لآلاف اليهود الذين تحوّلت عظامهم وجلودهم إلى رماد”.
لكن التاريخ، والزمن، والأحداث المتلاحقة، سيتكفلون بدفع آرندت إلى التراجع خطوتين إلى الوراء. لتعود وتقول إنها لا تريد أن تكون ما كرهت، وعلى اليهود جميعًا أن يتعلموا العبرة، وألّا يمارسوا الشيء نفسه الذي ذاقوه في أوروبا النازية: التطهير العرقي. كانت تشير بذلك إلى ما حدث في فلسطين من محاصرة قرى، قصف أحياء سكنية، تدمير منشآت وممتلكات للسكان الأصليين، وأخيرًا زرع الألغام بين الأنقاض لمنع المهجرين من العودة.
ربما كان التطهير العرقي في فلسطين هو ما جعل آرندت تتخلى جزئيًا عن منهجيتها الفلسفية البحتة إزاء قضايا المصير الإنساني، وتتجه إلى التنظير السياسي والأخلاقي، وهو ما تجلّى في أكثر كتبها إثارة للجدل والاحترام: “تفاهة الشر“، حيث قالت صراحة، ودون مواربة، إن الحكومة الإسرائيلية إن كانت ملزَمة بالحق الأخلاقي في محاكمة نازي تسبب في إفناء آلاف اليهود، فإنها ملزَمة بالقدر نفسه بمحاسبة من تسببوا في قتل وتهجير آلاف الفلسطينيين، لأن القضيتين – في جوهرهما – متطابقتان، وربما يكون ثمنهما الأخلاقي واحدًا.
ولم تكن آرندت الأولى ولا الأخيرة التي أبدت في كتاباتها موقفًا لا يخضع لخشونة الأيديولوجيا ولا لصلابة الانحيازات الفكرية تجاه القضية الفلسطينية، فقد تبعها عشرات الفلاسفة والمفكرين والكتّاب الغربيين الذين أشاروا إلى الفلسطيني وقضيته في أعمالهم الأدبية والتنظيرية، مع الحفاظ على بعدها الملحمي، باعتبارها مأساة تستحق الرثاء قبل أن تحتاج إلى التحليل.
عبء الرجل الأصفر
منذ النكبة وحتى اليوم، لم تكن فلسطين مجرد جغرافيا محتلة، بل تحوّلت إلى سؤال فلسفي وأدبي أربك الضمير الغربي، فبينما سعت البروباغندا الصهيونية إلى محوها من المخيال الغربي، بوصفها «مسمار عجلة الانطلاق» لتجميدها فكريًا ــ لما يمثله الغرب من قدرة سياسية وتكنولوجية على إحياء القضايا أو دفنها ــ ظلّت فلسطين، في غفوة من التاريخ والقدر، تنسلّ بهدوء إلى أضيق سراديب القاع الأوروبي، متسربة إلى الروايات والقصائد ومجادلات الفلسفة، وهناك وجد المفكرون والأدباء أنفسهم أمام سؤال لا فكاك منه: ماذا يعني أن تكون فلسطينيًا في عالم صاغ خرائطه المنتصرون؟
الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي زار القدس عام 1967 قبل أيام قليلة من حرب الخامس من حزيران/يونيو، وجد نفسه مضطرًا للاستماع إلى روايتين متناقضتين: رواية دولة ترى نفسها ضحية تهديد بالزوال «إذا ما أُلقِي بها في البحر»، ورواية شعب يعيش المنفى في أرض يدّعي أنها أرضه. قبل أن يخرج سارتر بردّ ربما أعدّه منذ الأزل، وكان بحاجة إلى تلك الزيارة ليطلقه دفعة واحدة، في كتابه “On Israel” (الصادر عام 1968). هناك أخضع “إسرائيل” لتقويم سلوكي أمام التاريخ، باستعراض هجومها على الدول العربية ظهيرة الخامس من حزيران، معتبرًا إياه طموحًا توسعيًا كامنًا في دخيلتها منذ إعلان قيامها، وليس كما روجت هي على لسان عسكرييها وساستها باعتباره «إجراءً وقائيًا» لحماية نفسها عبر ردع جيرانها وتفكيك قوتهم من المنبع. ومن هنا، فإن سارتر ــ عبر استدلالات واقعية وتاريخية زادتها حرب حزيران وضوحًا ــ رأى أن الرواية الأقرب إلى الاستحقاق، إن لم يكن التصديق، هي رواية السكان الأصليين، لأن ما تسلكه “إسرائيل” لا ينطوي على ما يؤيد سرديتها.
تلك الرؤية التي طرحها سارتر، بوصفه أول مفكر غربي يوجه نقدًا مباشرًا لسياسة “إسرائيل” تجاه محيطها الجغرافي، سيلتقطها نعوم تشومسكي ــ المفكر واللساني الأمريكي الجدير بالاحترام ــ الذي اعتبر أن القضية الفلسطينية امتحان أخلاقي للضمير الغربي، وانعكاس فجائي لكل ما تدعيه أمريكا وأوروبا من إحياء لقيم العدالة السياسية وتحرير المصير الإنساني.
فإذا كانت أمريكا ــ والقول هنا لتشومسكي ــ قد ضحّت بأكثر من عشرات الآلاف من شبابها لتحرير أوروبا من نير النازية، فإن من التضاد التاريخي والانعكاس الأخلاقي أن تلجأ إلى مغافلة القضية الفلسطينية وتجاهلها المتعمد للانتهاكات الإنسانية بحق السكان الأصليين، التي تمارسها “إسرائيل” في المناطق التي لا تخضع لسيادتها الكاملة، بفضل التكنولوجيا والتغطية الأمريكية.
أما ميشيل فوكو، الذي لم يكتب مباشرة عن فلسطين ولم تكن تعنيه في البداية لا من قريب ولا بعيد، إذ رأى أن أهميتها السياسية لا تتعدى الهواجس المحلية، فقد تحرر لاحقًا من هذه النظرة الفردانية، ووضعها على بساط البحث في محاضراته عن «السلطة والسيطرة». وهناك وصف الجيش الإسرائيلي بالمستعمر، وسلطته تجاه الفلسطينيين بسلطة قمعية على «الرجال الصفر» في مقابل «الرجل الأبيض»، في إشارة ساخرة إلى الأسلوب الخاطئ الذي تمارس به السلطة الحديثة عنفها المشروع.
فيما ذهب الفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار أبعد من الجميع، واصفًا القضية الفلسطينية بأنها تخطت وضعها المحلي والإقليمي الضيق، وأنه على العالم أن ينظر إليها باعتبارها مسألة كونية ذات بعد أممي.
أما جوديث بتلر فقد ربطت فلسطين بالنضالات العالمية ضد العنصرية والاستعمار، ورأت في حركة المقاطعة الأكاديمية والثقافية (BDS) أداة سياسية ــ فلسفية لتوسيع معنى التضامن العالمي مع فلسطين.
مجد المهزومين
لم يكن الفلسطيني في المخيلة الغربية مجرد ضحية هامشية، بل تحوّل إلى شخصية روائية متكررة، إلى رمز يطلّ من بين السطور كلما حاول الغرب إخفاءه. في الأدب الغربي، بدا الفلسطيني كوجهٍ مطرود من الأرض، وكظلّ يلاحق العالم أينما ذهب، ليصبح رمزًا للهزيمة التي لم تكتمل، بل للهزيمة التي تحولت إلى أيقونة، وهكذا تكوّن ما يمكن تسميته بـ”مجد المهزومين”، حيث يتجسد الفلسطيني في الروايات ليس بصفته ضحية صامتة، بل كصوت يفرض نفسه على خيال الآخر.
جان جينيه كان من أوائل الكتّاب الذين التقطوا هذا الحضور، ففي كتابه “أربع ساعات في شاتيلا” (1982) يكتب الفلسطيني ككائن يتحدى النسيان، وكوجه يرفض أن يتحول إلى مجرد خبر في الصحف. لم يكن نص جينيه رواية بالمعنى التقليدي، لكنه حمل نَفَسًا روائيًا قائمًا على السرد والتفصيل، ليضع الفلسطيني في مركز الحكاية كندبة شاهدة على عجز العالم.
أما الروائي البريطاني جون لو كاريه فقد أعاد تشكيل صورة الفلسطيني في روايته الشهيرة The Little Drummer Girl” (1983)”، حيث قدّم شخصية الفلسطيني لا كإرهابي، كما أرادت الدعاية الغربية، بل كإنسان معقّد، يعيش مأزق المنفى ويواجه خيانة السياسة. هذا العمل نقل الفلسطيني من حدود الأخبار إلى فضاء الأدب الشعبي العالمي، ليصل إلى جمهور لم يكن يقرأ القضية في الصحف.
ومن بعيد، كتب غابرييل غارسيا ماركيز روايته “موت معلن” (1981)، وفيها يظهر بطلها “سنتياغو نصار”، شاب من أصول عربية (سورية/فلسطينية)، ليصبح حضوره تجسيدًا رمزيا للغريب المطارد في مجتمعٍ يصرّ على إدانته قبل أن يُحاكم. شخصية نصار، بقدر ما هي فردية، تحمل في طياتها إشارات إلى المهاجر العربي/الفلسطيني الذي لا يجد لنفسه حماية في عالم يرفض الاعتراف ببراءته. عبر هذه الإشارة، دخل الفلسطيني – ولو متخفيًا – إلى قلب واحدة من أعظم الروايات العالمية، ليُكرَّس كصوت المهزوم الذي يظلّ شاخصًا في الذاكرة.
وفي الرواية الأمريكية، وجدنا صدى آخر عند غور فيدال، الذي جعل من فلسطين رمزًا للنفاق الغربي في نصوصه السياسية، بينما نقلت الكاتبة الكندية “نانسي هيوستن” في روايتها Fault Lines (2006) حضور الفلسطيني عبر ذاكرة عائلية متشابكة مع الحروب والاحتلال، لتكشف أن القضية لا تخص الشرق وحده، بل تمتد في الوعي الغربي إلى الأجيال الجديدة.
كما تسللت فلسطين إلى النصوص اللاتينية عبر أرييل دورفمان، الذي ربط بين مأساة الفلسطينيين والمنفيين في ظل الديكتاتوريات، مؤكدًا أن القضية الفلسطينية ليست معزولة بل جزء من خريطة عالمية للمقهورين. وفي سياق آخر، قدّمت الروائية الأمريكية من أصول فلسطينية سوزان أبو الهوى روايتها “صباحات في جنين” (2010)، التي أرّخت بأدب ملحمي رحلة عائلة فلسطينية عبر أربعة أجيال منذ النكبة، لتغدو واحدة من أكثر الروايات تأثيرًا وانتشارًا في نقل المأساة الفلسطينية إلى القارئ الغربي.
بهذه الأعمال، لم يعد الفلسطيني في الأدب الغربي مجرد ضحية أو هامش في الحكاية، بل صار مركزًا يفرض على النصوص أن تدور حوله، حتى حين يُقدَّم في صورة المهزوم. وهذا بالضبط هو “مجد المهزومين”: أن يجد الفلسطيني لنفسه مكانًا في الخيال الروائي، وأن يتحول من موضوع يُراد محوه إلى بطلٍ يطلّ من بين الصفحات، يربك السرديات الرسمية ويثبت أن الهزيمة ليست نهاية الحكاية، بل بدايتها.
هكذا بدا حضور الفلسطيني في الفلسفة والرواية الغربية: قطعة حلوى مُغلّفة بأغلفة أدبية براقة، لكنها محشوّة بمرارة الاستعباد. سيتذوقها القارئ الغربي كشيء غريب ومثير في آن، لكنه لم يسأل كثيرًا عن الأرض التي نُزعت من تحت أقدام أصحابها، ولا عن الدم الذي سُكب ليصير سطورًا تصل إلى رفوف المكتبات. كما الشيكولاتة التي نتلذذ بطعمها دون أن نفكر في عرق الأطفال المستعبَدين في مزارع الكاكاو، جاء الفلسطيني في الأدب الغربي ليذكّر العالم بأن خلف الحكاية دائمًا جرح، وأن كل لذة أدبية تخفي في أعماقها مرارة الاستلاب.