أزمة الهوية العربية بين الفردانية الرقمية والانتماء الجماعي

يجد العالم العربي نفسه، اليوم، في مواجهة تحدٍّ وجوديّ، يتجاوز حدود التكنولوجيا بكونها مجرد أدوات رقمية، ليلامس جوهر هويته الثقافية، ففي ظل الطوفان الجارف للعولمة الرقمية، لم تعد تكنولوجيا الإعلام والاتصال تشكل نجاحا تقنيا فحسب، بل تحولت إلى منظومة ثقافية متكاملة تلقّن وتنقل مبادئ وقناعات وتمثلات جديدة، ربما تكون بعيدة وغريبة عن البيئة العربية. هذا المشهد المتسارع يفرض على المنطقة أزمة هوية عميقة، إذ تصطدم فيه ثقافة غربية مهيمنة بهوية عربية متجذرة في قيمها وتراثها.

إن التحدي لا يكمن في كيفية الاستفادة من التكنولوجيا، بل في كيفية الموازنة بين هذا الانفتاح الحضاري الشامل وبين الحفاظ على الأصالة والخصوصية الثقافية التي طالما كانت مصدر الانتماء والتمثيل.

في هذا المقال نحاول مناقشة التحديات المعقّدة من زوايا متعدّدة، بدءًا من الهيمنة الثقافية وتأثيرها في التمثّلات الاجتماعية، مرورًا بتحوّلات اللغة والهوية الفردانية، وصولًا إلى الطرح الذي يمكن أن يحوّل التكنولوجيا من أداة تهديد إلى محرّك للنهضة الحضارية.

الهيمنة الثقافية الرقمية

لا تقتصر التكنولوجيا على كونها مجرّد وسيلة تواصل، بل تتجلّى في تحوّلها إلى فاعل ثقافي قادر على إعادة تشكيل الوعي البشري وتنميط الهويّات الثقافية، إذ تميل هذه المنظومة الرقمية إلى اختزال جميع الثقافات في ثقافة واحدة، هي ثقافة الطرف الأقوى تكنولوجيًّا واقتصاديًّا. وهذا التفوّق التكنولوجي الغربي، وفي مقدمته الأمريكي، بات مظهرًا واضحًا للهيمنة الثقافية التي تؤدي إلى تفكيك الثقافات الوطنية ونشر منظومة قيم مغايرة، قد تكون في كثير من الأحيان ثقافة استهلاكية بحتة.

إنّ هذه العملية ليست عشوائية، بل هي سلسلة من الأسباب والنتائج؛ فالتفوّق التكنولوجي الغربي يفضي إلى إنتاج محتوى رقمي ضخم ومؤثّر، يفرض أنماطًا سلوكية وقيمية دخيلة لا تتماهى مع المجتمعات العربية. أما المحتوى المتدفّق، المروِّج لقيم الاستهلاك الغربي والفردانية، فإنّه يتغلغل في نسيج الحياة اليومية عبر منصّات التواصل الاجتماعي، مسبّبًا تآكلًا تدريجيًّا للقيم المحلية، ومولّدًا أزمة هوية لدى الشباب العربي. تكشف هذه الرؤية أنّ التكنولوجيا ليست وسيلة محايدة يمكن توظيفها ببساطة، بل هي حاملة لقيم أيديولوجية وتمثّلات ثقافية ينبغي التعامل معها بوعي وحذر شديدين.

بين الانتماء الوهمي والعزلة الحقيقية

يعيش الشباب العربي، بوصفه الفئة الأكثر استخدامًا للوسائل الرقمية، في “عالم خيالي” بعيد عن مجتمعاتهم وأسرهم. ورغم أنّ التكنولوجيا سمحت بإنشاء “فضاءات للتعبير الفردي والجماعي” لم تكن متاحة من قبل، تشير دراسات إلى أنّ مدة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي تتنبأ بـ”العزلة الاجتماعية” و”تشتّت الهوية”.

كما أن العلاقة بين التكنولوجيا والعزلة تمثّل “مفارقة” حقيقية؛ ففي الوقت الذي توفّر فيه التكنولوجيا تواصلاً رقميًا واسعًا، تبقى جودة هذا التواصل ضعيفة وتفتقر إلى العمق والاتصال العاطفي الذي تتميّز به العلاقات الواقعية. هذا التحوّل من العلاقات الاجتماعية “العميقة” إلى العلاقات “السطحية” يولّد شعورًا متزايدًا بالوحدة والانفصال، ويدفع الأفراد إلى البحث عن بدائل وهمية في العالم الافتراضي، ما يعمّق من عزلتهم الفعلية ويزيد من تشتّت هويتهم، كما يؤثر هذا النمط من التفاعل الرقمي بشكل مباشر في جودة الوقت العائلي، ويخلق ما يُعرف بـ”العزلة الرقمية” داخل البيت الواحد.

“الفرد الكبسولة”

تُعدّ الفردانية مدرسة فلسفية تُعلي من قيمة الفرد وحريته الشخصية واستقلاله الذاتي فوق المجتمع. وفي المجتمعات العربية، التي لطالما قُدّمت فيها الروابط الاجتماعية على الفرد، جاءت الثورة الرقمية بمثابة محفّز قوي لظهور “الفرد والفردانية”، إذ أتاح الفضاء الرقمي مساحات واسعة للأفراد للتعبير عن “ذواتهم الفردية وهويّاتهم الأولية”.

لكن ظهور شخصيات مثل “البلوجرز” و”المؤثرين” عكس هذا التحوّل بوضوح؛ فهؤلاء الأفراد، الذين غالبًا ما يوجّهون نقدًا لحكوماتهم ومجتمعاتهم، يعبّرون عن وجهات نظر شخصية، في خيار فردي بامتياز كان نادر الوجود بهذا الشكل في الماضي. ولم تكن التكنولوجيا هي التي خلقت هذه النزعة الفردانية من العدم، بل مثّلت “بيئة حاضنة” لميول كامنة كانت مقموعة بفعل الضغط الاجتماعي التقليدي والأنماط البطريركية في بنية الأسرة والقبيلة.

هذا التمكين الرقمي خلق صراعًا بين هوية افتراضية تتغذّى على نزعات الحداثة والعولمة، وهوية أصيلة مشبعة بالتراث، ما أدى إلى تآكل أركان النظام الاجتماعي التقليدي وأسهم في تغيير مفاهيم الانتماء. وقد حمل هذا التحوّل بعض الأبعاد الإيجابية، مثل التحرر من مفاهيم ترتبط بالسلطوية والاستبداد، سواء السياسي أو المجتمعي.

التوازن الهش

لا تقتصر آثار الفردانية الرقمية على الجانب النفسي والسلوكي فحسب، بل تمتد لتطال عادات وتقاليد المجتمع، فعلى سبيل المثال، فإن التوجّه نحو المظاهر الفاخرة التي يروّج لها المؤثرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى ارتفاع ملحوظ في تكاليف الزواج، في ظاهرة يصفها البعض بأنها “تقليد أعمى”. ورغم أن التكنولوجيا عزّزت التواصل عن بُعد بين أفراد الأسرة، إلا أنها قلّلت من جودة الوقت العائلي المباشر، مما أفرز عزلة رقمية داخل البيت الواحد.

ويعيش الشباب العربي صراعًا داخليًا، إذ يحاولون الحفاظ على توازن صعب بين قيمهم الثقافية، ومنها ما هو ديني وعائلي أصيل، وبين تأثير الثقافات الغربية التي يتعرضون لها يوميًا. وتبرز الهوية الرقمية لديهم كصورة مغايرة للهوية التقليدية؛ فبينما كانت الهوية التقليدية ترتكز على الانتماء الجماعي (للعائلة، القبيلة، والأمة) وعلى العلاقات الأسرية المتينة والتفاعلات المباشرة وجهًا لوجه، تتجه الهوية الرقمية نحو الفردانية والانتماء للذات والأصدقاء الافتراضيين عبر علاقات سطحية. وفي حين تتجذّر القيم والعادات في التراث والتقاليد، تصبح نظيرتها في العالم الرقمي متقلبة تتأثر بـ”الترندات”، ويتحوّل التعبير من الأطر الجماعية إلى الأساليب الفردية التي يمثلها “البلوجرز” والمؤثرون.

إلى جانب ذلك، تواجه اللغة العربية تحديات غير مسبوقة في الفضاء الرقمي، إذ تتراجع مكانتها لصالح اللهجات العامية واختصارات الكلمات الشائعة في الكتابة على الإنترنت. ويرى باحثون أن هذا الاتجاه يهدد الوحدة اللغوية ويفقد العربية الفصحى مكانتها. لكن التهديد ليس اجتماعيًا فحسب، بل هو أيضًا “هيكلي وتقني” في جوهره. فاللغة العربية تتميز ببنية نحوية وصرفية معقدة ونظام اشتقاقي واسع، وهو ما يشكّل عائقًا أمام أنظمة المعالجة الآلية للغة. ويضاف إلى ذلك غياب التشكيل في معظم النصوص المكتوبة، مما يجعل عملية الفهم الآلي أكثر تعقيدًا.

هذا التحدي التقني يعمّق بدوره التراجع الاجتماعي؛ فغياب الموارد الرقمية الكافية باللغة العربية، مثل قواعد البيانات الضخمة والأدوات المتخصصة، يحدّ من قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على فهمها وتحليلها بدقة. وينتج عن هذا النقص قلّة في المحتوى العربي المتطور، ما يدفع المستخدمين العرب إلى هجرة المحتوى العربي والاعتماد على اللغات الأجنبية، أو اللجوء إلى أشكال مبسّطة ومشوّهة من العربية.

الشائعات الرقمية

أصبحت الشائعات الرقمية، القائمة على معلومات مجهولة المصدر، من أخطر الأسلحة التي تهدّد المجتمعات ومصداقية ما يجري داخلها، إذ قد يفوق خطرها أحيانًا أدوات القوة التقليدية في الصراعات السياسية. وتجد هذه الشائعات بيئتها الخصبة في تطبيقات التواصل الاجتماعي، حيث سهولة النقل وسرعته، إلى جانب إمكانيات تزييف الصور والفيديوهات. وقد شهد العالم العربي نماذج عديدة لشائعات استهدفت الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مثل الترويج لمعلومات مغلوطة حول قرارات حكومية أو مشاريع تنموية.

ولا يكشف انتشار الشائعات عن سوء استخدام التكنولوجيا فقط، بل يفضح أيضًا “الهشاشة الاجتماعية” العميقة. فالمجتمعات التي تعاني من ضعف الثقة بالمصادر الرسمية وتكاثر الأزمات فيها تكون أكثر عرضة للشائعات الهادفة إلى زعزعة الاستقرار وتضليل الرأي العام. وتبرز قضية الخصوصية الرقمية كأحد أكبر التحديات التي تواجه الهوية في المجتمعات العربية؛ فمع تزايد الاعتماد على البيانات الشخصية في الفضاء الإلكتروني، تتضاعف مخاطر انتهاك الخصوصية من خلال التنقيب عن البيانات، ومحاولات التصيّد والاحتيال الإلكتروني، ونشر البرمجيات الضارة.

وهذه المخاطر ليست مجرد حوادث فردية، بل هي “ظواهر اجتماعية” مرتبطة بضعف الوعي الرقمي لدى الأفراد وغياب الأطر القانونية الكافية. ويضع هذا الواقع الأفراد أمام تحديات نفسية واجتماعية، حيث يعيشون صراعًا بين الرغبة في التعبير الحر عن الذات وهاجس انتهاك الخصوصية. وتتجسّد المسؤولية هنا في ضرورة أن تضع المؤسسات أطرًا قانونية عادلة وشفافة لحماية الهوية الرقمية، وأن يتحمّل الأفراد مسؤولية التحقق من المعلومات قبل نشرها، والتزام الحذر في مشاركة بياناتهم الشخصية.

التكنولوجيا كأداة للحفاظ على التراث واللغة

بدلاً من الاستسلام للتحديات، بدأت الجهود تتجه نحو “استراتيجية معاكسة”، حيث تُستخدم التكنولوجيا نفسها لترسيخ التمثلات الثقافية، وفي مقدمتها اللغة العربية. فقد أدركت المجامع اللغوية العربية أهمية تحديث المعاجم وإضافة مصطلحات جديدة تواكب التطورات العلمية والتكنولوجية، كما برزت مبادرات واعدة، مثل مشروع “الذخيرة العربية” الذي يهدف إلى إنشاء بنك آلي للنصوص القديمة والحديثة، ومشاريع أخرى لرقمنة المعجم العربي.

هذه الجهود، المدعومة بمشاريع الذكاء الاصطناعي للغة العربية مثل “AraBERT” ومنصات مثل “Araby.AI”، تحوّل التكنولوجيا من عامل تهديد إلى أداة تمكين. فعندما تتبنى الحكومات والمؤسسات الأكاديمية استراتيجيات متكاملة لتعزيز الموارد الرقمية باللغة العربية، تتحسّن قدرات الذكاء الاصطناعي على معالجة النصوص بدقة، مما يزيد من حجم المحتوى العربي الأصيل وتطبيقاته، ويعزز حضور اللغة العربية وحيويتها في الفضاء الرقمي.

كذلك، يمكن للتكنولوجيا أن تكون وسيلة فعّالة للحفاظ على التمثلات الثقافية العربية وتفعيلها، بما في ذلك التراث. فالتراث ليس مجرد ماضٍ يُحفظ في المتاحف، بل “أصل حي” يمكن تفعيله رقمياً. وقد ظهرت بالفعل مبادرات مهمّة في هذا السياق، مثل “مبادرة التراث الرقمي المستدام” التي توفّر أدوات تكنولوجية لإطلاق إمكانات التراث في العالم الرقمي. ويبرز هنا دور “مركز توثيق التراث” في مصر، الذي يستخدم تقنيات متقدمة مثل الرقمنة ثلاثية الأبعاد، والواقع الافتراضي والمعزز، ونظم المعلومات الجغرافية لتوثيق المواقع الأثرية والمعالم التاريخية.

إن رقمنة التراث ليست مجرد عملية حفظ، بل هي أيضًا “أداة للوصول والترويج السياحي”، إذ تتيح للأفراد من مختلف أنحاء العالم استكشاف المواقع التراثية عبر جولات افتراضية، ما يعزز الوعي بقيمة التراث ويحوّله إلى مصدر اقتصادي وثقافي مستدام. كما أن تحدي التوازن بين التكنولوجيا والهوية الثقافية ليس شأنًا عربيًا محضًا، بل هو تحدٍ “كوني” تواجهه دول كبرى ذات جذور حضارية عريقة، مثل الصين واليابان. فقد عملت الصين، من خلال استراتيجيتها الرقمية، على توظيف التكنولوجيا للحفاظ على ثقافتها التقليدية والترويج لها عالميًا عبر الأفلام والدراما التلفزيونية. وتكشف هذه التجارب أن الحل لا يكمن في الاستهلاك السلبي للتكنولوجيا، بل في “صناعة” محتوى ثقافي أصيل باستخدام أدواتها.

في النهاية، تظل التكنولوجيا سلاحًا ذا حدّين، فهي تطرح تحديات وفرصًا أمام الهوية الثقافية العربية. فبينما تواجه المجتمعات العربية مخاطر الهيمنة الثقافية وتآكل القيم وتهميش اللغة وانتشار الشائعات، تتيح التكنولوجيا، في المقابل، إمكانيات لدمقرطة المعرفة، ورقمنة التراث، ودعم اللغة العربية عبر الذكاء الاصطناعي. إن الحفاظ على الهوية ليس عملًا دفاعيًا بحتًا، بل مشروع حضاري يتطلب توازنًا واعيًا بين الأصالة والانفتاح. ويتطلب ذلك استراتيجية شاملة تشمل التعليم، وتطوير الأطر القانونية، وتسخير التكنولوجيا في توثيق التراث ونشره. وفي هذا الإطار، تتحمّل الحكومات والمؤسسات والأفراد مسؤولية كبرى لتحويل هذا التحدي إلى فرصة، تضمن بقاء الهوية العربية حيّة وفاعلة في المشهد الرقمي العالمي.