مذكرة نووية مع أمريكا.. هل تفك أنقرة ارتهانها لروسيا؟

لا يقتصر تموضع تركيا الاستراتيجي كقوة مركزية في الشرق الأوسط وصاحبة وزن عالمي على الجوانب السياسية والاقتصادية فحسب، بل يمتد أيضًا إلى قطاع الطاقة النووية الذي تسعى من خلاله لتحقيق أهداف مزدوجة تخدم احتياجاتها الاقتصادية والأمنية، فبينما تستعد أنقرة لتشغيل أول وحدة من محطة “آق قويو” النووية بطاقة إجمالية تصل إلى 4800 ميغاواط نهاية عام 2025، تعمل بالتوازي على خطط لإنشاء محطتين إضافيتين في سينوب وتراقيا، بهدف رفع قدرتها النووية إلى 7.2 غيغاواط بحلول 2035 و20 غيغاواط بحلول 2050، مع إدخال المفاعلات الصغيرة (SMR) ضمن هذا المسار.

تدرك تركيا أن تنويع شراكاتها النووية مع قوى غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة يمثل خطوة إستراتيجية لتقليل اعتمادها على روسيا وحدها، وضمان تمويل مرن وتكنولوجيا متقدمة، إلى جانب تعزيز موقعها داخل منظومة الحلف الغربي وفتح المجال أمام مشاركة شركاتها المحلية في مشاريع نووية ذات بعد اقتصادي طويل الأمد.

وفي خطوة محورية ضمن هذه المسيرة، وقعت تركيا، مذكرة تفاهم مع الولايات المتحدة بشأن التعاون النووي المدني الاستراتيجي، وذلك في البيت الأبيض بحضور الرئيسين رجب طيب أردوغان ودونالد ترامب. يسلط هذا التقرير الضوء على أهمية التفاهم الجديد وجدواه في تحقيق الأهداف النووية لتركيا، مع مقارنته بتجربة الشراكة مع روسيا.

تفاصيل التفاهم 

جاء توقيع أنقرة وواشنطن على مذكرة تفاهم خلال زيارة أردوغان إلى البيت الأبيض في 25 أيلول / سبتمبر 2025، وأعلن عنه وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألبرسلان بايراقدار الذي وقع مع ووزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، على المذكرة، بحضور الرئيسين، كإشارة رمزية على دعم أعلى المستويات السياسية لهذا الاتفاق.

ترامب يستضيف أردوغان في البيت الأبيض

وفي إشارة إلى أهمية التفاهم المعلن، أكد بايرقدار بدء بلاده مسارًا جديدًا في مجال الطاقة النووية من شأنه تعميق الشراكة المتجذرة ومتعددة الأبعاد بين تركيا والولايات المتحدة”، واصفًا إطلاق هذه العملية الجديدة بأنها خطوة ستفتح المجال لمزيد من التعاون النووي بين البلدين.  

وفيما لم يتم التطرق إلى التفاصيل الفنية، إلا أن البلدين كانا يجريان مباحثات تشمل مشاريع محطات نووية كبيرة وتقنيات المفاعلات الصغيرة المدمجة (SMR)، إذ أكد مسؤولون أتراك في وقت سابق أن المحادثات مع واشنطن تشمل بناء محطات طاقة نووية كبيرة الحجم وكذلك تطوير مفاعلات نووية صغيرة، وذلك سواء في مواقع المحطات القائمة أو مواقع جديدة تخطط أنقرة لإنشائها. 

وبيد أن التفاهم يأتي في إطار حكومي إستراتيجي، لكن يُتوقع أن يدفع بمشاركة شركات وخبرات القطاع النووي الأمريكي في مشاريع تركيا المقبلة. وقد كشفت اجتماعات على هامش التفاهم عن اهتمام شركات أمريكية رائدة؛ فعلى سبيل المثال، عقد الوزير بايراقدار لقاءً في نيويورك مع نائبة رئيس شركة “Westinghouse Electric” الأمريكية لمناقشة التعاون في بناء مفاعلات نووية كبيرة وتقنيات المفاعلات المدمجة الصغيرة.   

فرصة اقتصادية مهمة 

لطالما سعت أنقرة في مباحثاتها مع واشنطن إلى شراكة نووية مع الثانية من شأنها تأمين تمويل مرن وتقنيات متقدمة لمشروعاتها النووية الجديدة السلمية، وأبدت بالمقابل الولايات المتحدة، استعدادًا بتمويل هذه المشاريع، إذ قال المستشار في وزارة الخارجية الأميركية، جاستن فريدمان، إن وكالات التمويل الأميركية مستعدة لتمويل مشاريع الطاقة النووية في تركيا، وخاصة المفاعلات النووية المعيارية الصغيرة، لكنها تنتظر مقترحات قابلة للتطبيق.

وأشار فريدمان إلى أن بنك الاستيراد والتصدير الأمريكي (EXIM) ومؤسسة تمويل التنمية الدولية (DFC) أصدرتا خطابات اهتمام بقيمة تفوق 17 مليار دولار لمشاريع مفاعلات في رومانيا وبولندا، والآن تنظران إلى تركيا بوصفها وجهة محتملة للاستثمار النووي، ما يوحي بأن الكرة في ملعب أنقرة لبلورة خطة أعمال واضحة كي يتطابق “المشروع مع المال” حسب التعبير المسؤول الأمريكي.

لكن بخلاف التعاون النووي التركي الروسي المتمثل بمحطة “آقويو”، والذي اعتمد على استثمار وتمويل روسي كامل للمشروع، فإن النموذج الأمريكي لا يقوم على تمويل حكومي مباشر كهبة أو منحة، بل يرتكز على تسهيلات ائتمانية واستثمارات تجارية مدعومة حكوميًا، أي أن الشركات والمستثمرين الأمريكيين سيشاركون في ضخ الأموال والتقنيات، بدعم من مؤسسات مالية حكومية لتأمين القروض. 

اقتصاديًا، تطمح تركيا إلى عوائد استراتيجية طويلة الأجل من توسيع برنامجها النووي، فهي تستورد نحو 99% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة، الأمر الذي يجعل اقتصادها رهينًا لتقلبات الأسعار والإمدادات الخارجية، ومن خلال بناء محطات نووية جديدة، تسعى أنقرة إلى تنويع مزيج الطاقة وخفض فاتورة الاستيراد، فالمفاعلات النووية ستؤمن توليدًا ثابتًا للكهرباء على مدى عقود بكلفة تشغيلية مستقرة نسبيًا، مما يحمي الاقتصاد التركي من صدمات أسواق الغاز ويقلل العجز في الميزان التجاري على المدى البعيد، وأي محطة مستقبلية بدعم أمريكي ستسهم في نسبة مهمة من الإنتاج الكهربائي وتساعد في تلبية النمو في الاستهلاك المحلي الذي يزداد سنويًا.

كما تسعى أنقرة لتحقيق مكاسب على صعيد الصناعات المحلية من هذه المشاريع أيضًا، فالمشاريع النووية الضخمة توفر فرص عمل واسعة في الإنشاء والتشغيل، وتنشّط قطاعات صناعية مساندة ما يفتح فرصة أمام سلاسل الإمداد التركية للمشاركة في عقود التوريد والبناء للمحطات الجديدة خاصة.

في السياق ذاته، أشار فريدمان أن الشركات التركية تمتلك بالفعل خبرات في تزويد مشاريع نووية عالمية بمكونات وخدمات، معربًا عن اعتقاده بأن “من الطبيعي أن ترغب الشركات الأمريكية بالاستفادة من تلك الخبرات مع تقدم المشاريع النووية في تركيا”.

تركيا أمام نموذجين للشراكة النووية 

لا شك أن خبرات تركيا النووية تشكلت مع انطلاق أول محطة للطاقة النووية في البلاد بالشراكة مع روسيا، والتي فتحت الطريق أمام وضع خطط لمحطتين إضافيتين في سينوب وتراقيا، فقد مثل مشروع محطة “آقويو” في مرسين حجر الأساس لدخول تركيا العصر النووي، لكنه في الوقت ذاته أثار جدلاً واسعًا، خاصة أن النموذج المتّبع يقوم على صيغة البناء والتملك والتشغيل (BOO)، ما منح روسيا موقعًا استراتيجيًا داخل بنية الطاقة التركية، هذا الاعتماد المفرط أثار قلقًا متزايدًا في أنقرة وحلف الناتو، خصوصًا مع تصاعد التوترات بين موسكو والغرب.

محطة آقويو، وكالة سبوتنيك

وترى الخبيرة في الطاقة، سارة خان، أن هذا النموذج يضع تركيا في موقف ضعيف لأن جميع مراحل تشغيل المحطة مرتبطة بالجانب الروسي، ما يجعلها عرضة لضغوط سياسية أو لعواقب أي عقوبات مفروضة على موسكو. وتشدد على ضرورة إدارة المشروع بحذر وامتلاك خطط بديلة.

المخاوف الأمنية والدبلوماسية تتضاعف أيضًا بسبب ما يمثله المشروع من رمز لتوسع النفوذ الروسي في منطقة حساسة، فضلًا عن شبهات استخدام قنوات التمويل الخاصة به للالتفاف على العقوبات الغربية. ويؤكد أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أنقرة، د. علي مصطفى، أن اعتماد تركيا على “روساتوم” لتشغيل المحطة بالكامل يعزز نفوذ موسكو في قطاع الطاقة التركي، ما يستدعي وضع إستراتيجية واضحة لتقليل المخاطر المحتملة.

وعلى المستوى الفني، يُنفَّذ المشروع باستخدام أربعة مفاعلات روسية من نوع VVER-1200 بقدرة إجمالية 4800 ميغاواط، على أن تتولى روسيا أيضًا توريد الوقود النووي وإدارة النفايات، وهو ما يعمّق الارتباط التقني طويل الأمد.

في المقابل، يتيح النموذج الأمريكي الجديد لأنقرة فرصة تحقيق توازن استراتيجي عبر تنويع الشركاء وتقليل الاعتماد على روسيا من دون مواجهتها مباشرة، فهو يقوم على تمويل متنوع يشمل استثمارات شركات خاصة وقروضًا ميسرة مع مساهمة تركية محتملة، بما يوزّع المخاطر والعوائد بدلًا من تحميلها لطرف واحد.

كما يعتمد على تقنيات غربية متطورة مثل مفاعلات الماء المضغوط الأمريكية (تصميم AP1000 لشركة Westinghouse) للمحطات الكبيرة، إضافة إلى المفاعلات الصغيرة المدمجة (SMRs)، ما يمنح تركيا مرونة في اختيار التقنيات الأنسب لاحتياجاتها ويقلل ارتهانها لمصدر واحد للتكنولوجيا.

بالمحصلة، يمثل التفاهم النووي بين أنقرة وواشنطن نقطة انعطاف مهمة في مسيرة تركيا النووية؛ فهو يندرج ضمن حسابات إستراتيجية أوسع تتعلق بموقع تركيا بين الشرق والغرب، فبينما رسّخ مشروع “آق قويو” النفوذ الروسي في البنية التحتية التركية، يفتح التعاون مع الولايات المتحدة الباب أمام تنويع الشركاء وتوزيع المخاطر، ما يمنح أنقرة مساحة أوسع للمناورة بين التحالفات.