أسطول غزة: موجة التحدي ضد إسرائيل أصبحت أعلى من أن تُكسر

ترجمة وتحرير: نون بوست

لم يُبحروا بالصواريخ والرصاص وبالجيوش، بل بالخبز والدواء، والقناعة الراسخة أن الضمير ما يزال له صوت في هذا العالم.

كانت القوارب الأولى صغيرة وقليلة العدد، ومعظم الحملات تتألف من مركب واحد.

واليوم، يبحر أسطول الصمود العالمي بحجم لم يشهده العالم من قبل: أكثر من 50 سفينة تحمل مئات النشطاء والمحامين والبرلمانيين والصحفيين، من أكثر من 44 دولة.

من إسبانيا وإيطاليا وتونس واليونان، نهض الأسطول كرمز للتحدي، حاملاً على متنه الإنسانية المتناثرة في الأرض: كتّابًا وأطباء ورياضيين وفنانين، ورجالًا ونساءً عاديين، رفضوا أن يتركوا غزة تجوع في صمت.

في مواجهة غطرسة إسرائيل، الدولة التي تعتبر نفسها فوق المساءلة، وفي مواجهة واشنطن التي تحميها بقرارات الفيتو والقنابل، تجسد هذه السفن الهشة أقدم وأقوى أسلحة على الإطلاق: الصمود.

إنه رفض شعبٍ أن يُمحى، وإصراره على حقه في البقاء والحرية.

الاسم نفسه مشتق من الكلمة العربية “صمود” – الثبات. رفضٌ لمحو شعب من الوجود، وإصرار على حقه في البقاء والحرية.

ظلال التاريخ

وُلدت فكرة إرسال السفن إلى غزة في 2006، في ظل الحرب الإسرائيلية على لبنان.

بعد عامين، في 2008، وصلت سفينتان صغيرتان من حركة غزة الحرة إلى غزة بنجاح، وكسرتا الحصار لأول مرة. بين 2008 و2016، أطلقت الحركة 31 سفينة، وصلت خمس منها إلى غزة رغم القيود الإسرائيلية الصارمة.

ما بدأ بسفينتين، أصبح اليوم أكثر من 50 سفينة، أسطول يحمل أصوات العالم.

يلقي التاريخ بظلاله على هذه الرحلة.

في عام 1947، حملت سفينة أُطلق عليها “إكسودس1947” ناجين من الهولوكوست حاولوا الهجرة بشكل غير قانوني إلى فلسطين، لكن سلطات الانتداب البريطاني رفضتهم.

حوّل قادة الصهيونية تلك اللحظة إلى استعراض للمعاناة، مستغلين تعاطف الغرب الذي كان لا يزال متأثرا بالهولوكوست، واستثمروه لخدمة مشروعهم. وبسبب ذلك التعاطف جاء قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947، ومعه انطلقت نكبة 1948.

واليوم، من خلال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ومن خلال الغطرسة والاحتقار لأسطول الصمود الساعي لكسر حصار غزة، ترسم إسرائيل صورة معاكسة.

تخلق إسرائيل تعاطفًا أكبر هذه المرة، ليس مع المستعمِر، بل مع المستعمَر. وتخلق تضامنًا واسعًا، على نطاق عالمي، يسعى لتصحيح الظلم الذي وقع في 1947 و1948.

إذا كانت “إكسودس 1947” قد مهدت الطريق لإسرائيل، فإن “إكسودس 2025” تمثل نهضة العالم لتصحيح الخطأ وإعادة الحق لفلسطين بعد أكثر من قرن من سرقة الأرض.

لقد قال العالم كلمته. بجميع اللغات، وفي كل العواصم، ارتفعت الأصوات مطالبة بوقف الإبادة الجماعية. وحتى الأمم المتحدة التي كثيرا ما تشلها الانقسامات، عبّرت عن إرادة الشعوب بتوافق شبه كامل.

لكن إسرائيل أغمضت عينيها عن كل هذه النداءات، فيما استخدمت واشنطن حق الفيتو لإجهاض القرارات أو تجريدها من مضمونها قبل وصولها إلى مجلس الأمن.

وسط هذا الفراغ الأخلاقي، تحرك ضمير الإنسانية.

راية الإنسانية

أولى السفن صادرتها إسرائيل في مياه غزة وأُجبر ركابها على العودة إلى بلادهم. لكن المحاولات تكررت، وأصبحت أكثر عددا وأعلى صوتًا وأكثر تحديًا: عشرات السفن، مئات النشطاء، والعالم كله يبحر نحو غزة.

حتى قبل انطلاق السفن، استهدفتها الطائرات المسيرة الإسرائيلية مرتين بميناء سيدي بوسعيد في تونس، منتهكة سيادتها، كاشفة – مرة أخرى – عن الإفلات من العقاب الذي يسمح تل أبيب بأن تدوس على الحدود.

في البداية، فسر نظام الرئيس قيس سعيد الحادث باشتعال كابل كهربائي، ثم اعترف لاحقًا بأنه كان هجومًا متعمدًا، لكنه امتنع عن كشف المعتدي.

وقف حكام العالم مكتوفي الأيدي، بعضهم عاجز، وبعضهم متواطئ، ومعظمهم أيديه ملطخة بالدماء. انشغل القادة العرب بتحصين عروشهم، وفضلوا الضمانات الأمريكية على الكرامة العربية.

أما مصر، الجارة التي تحمل أنفاس غزة الأخيرة بين يديها، فقد كشفت عن قبحها بلا مواربة: رفضت السماح للأسطول بالرسو في موانئها، ومنعت مواطنيها من الانضمام، وأغلقت حدودها بإحكام، بينما يفتك الجوع والموت بشعب كامل بجوارها.

أظهرت أوروبا ازدواجيتها أيضًا: تحدثت إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا بوضوح أخلاقي نادر، بينما واصلت لندن وباريس وبرلين على تصدير الأسلحة والتغطية على الانتهاكات. وفي بروكسل، تم تعطيل العقوبات، وتُرك القتلة بلا مساءلة.

لم تتحرك الحكومات، بل تحركت الشعوب. لم يحمل الرؤساء ولا البرلمانات راية الإنسانية، بل حملها رجال ونساء أحرار.

في إيطاليا، أجبرت الاحتجاجات والإضرابات الجماهيرية حكومة جورجيا ميلوني اليمينية المتطرفة على إرسال سفينة حربية، ليس في مياهها فحسب، بل خارجها، لحماية أسطول الصمود. أما في إسبانيا، فقد ذهب رئيس الوزراء بيدرو سانشيز أبعد من ذلك، ووعد بمرافقة بحرية لحراسة الأسطول طوال رحلته.

في هذه اللحظات، انقلب ميزان القوة: بدا الأقوياء في موقف ضعف، يرتجفون أمام مدنيين عُزّل في البحر،  بينما حمل الضعفاء قوة أعظم – وضوحًا أخلاقيًا لا يُقهر.

هذا ما يرعب بنيامين نتنياهو.

الموجة تتغير

لمدة عامين، شنت إسرائيل إبادة جماعية مفتوحة: قصف المنازل، ذبح العائلات، تدمير كل مقومات الحياة، وتجويع شعب لإرغامه على الخضوع. إلى جانب هذه المذبحة، نسجت أكاذيبها، وقالت إنها لا تقتل المدنيين، وأنها لا تجوّع غزة.

لكن أسطول الصمود يكشف القناع. يحمل الأسطول صحفيين يبثون مباشرة من بين الأمواج، وممثلين ورياضيين وفنانين لا يمكن وصمهم بـ”الإرهاب“. إنه يحمل مرآة، وإسرائيل لا تخاف شيئًا أكثر من انعكاس صورتها فيها.

أسطول الصمود ليس حدثًا معزولًا، بل يمثل ذروة موجة طويلة من النضال.

في عام 2008، وصلت سفينتان إلى غزة، وفي 2010 اقتحمت قوات كوماندوز إسرائيلية سفينة مافي مرمرة في المياه الدولية، وقتلت عشرة نشطاء.

في 2011، تم منع معظم سفن أسطول الحرية الثاني من مغادرة الموانئ اليونانية تحت وطأة ضغوط دبلوماسية.

وفي عامي 2015 و2016، تمت مصادرة “قارب النساء إلى غزة” و”أسطول الحرية الثالث“، بينما تم اعتراض أسطول “من أجل مستقبل عادل لفلسطين” في 2018.

وفي عام 2025، ارتقت إسرائيل إلى مستوى جديد من العدوان، مستخدمة القرصنة الجوية: ففي مايو/ أيار، استهدفت الطائرات المسيرة سفينة “الضمير”. وفي يونيو/ حزيران، صادرت “مادلين”، ثم اعترضت “حنظلة” في يوليو/ تموز، وأُجبر أسطول الصمود العالمي على التراجع في أغسطس/ آب بعد هجوم بالطائرات المسيرة في المياه الدولية.

لم تخترق أي سفينة الحصار منذ سنوات، ومع ذلك لم تتوقف المحاولات. التضامن لا يمكن أن يغرق، والضمير لا يُحاصر.

وُلدت فكرة إرسال أول سفينة في عام 2006. وبعد ما يقرب من عقدين، ما بدأ بسفينتين صغيرتين أصبح اليوم أسطولًا يضم أكثر من 50 سفينة.

درس هذه السنوات الثماني عشر واضح: مدّ التحدي ضد المشروع الصهيوني يرتفع مع كل رحلة.

ومع أسطول الصمود، تجاوز هذا المد عتبة جديدة: فالنضال العالمي من أجل فلسطين حرة يبحر اليوم نحو وجهته الحتمية، نحو النصر.

المصدر: ميدل إيست آي