بين النجاة اليومية وإضعاف الدولة: الاقتصاد الموازي معضلة المغرب الكبير

يشكّل الاقتصاد الموازي، أو الاقتصاد غير الرسمي، في بلدان المغرب الكبير، ظاهرةً اقتصاديةً واجتماعيةً متجذّرة، تنبع من تراكماتٍ هيكليةٍ وسياساتية، كما أن لها، في الوقت ذاته، أبعادًا إيجابية من ناحية التكيّف الاجتماعي، وأبعادًا سلبية من ناحية التأثير على موارد الدول وتنمية اقتصاداتها الرسمية. فالاقتصاد غير الرسمي يشمل مجموعةً واسعةً من النشاطات، انطلاقًا من الباعة الجائلين، والأنشطة الحرفية الصغيرة غير المسجّلة قانونيًا، وصولًا إلى المقاولات التي تتملّص من التزاماتٍ ضريبيةٍ أو تضليلٍ في التصريحات، وأحيانًا التهريب والأنشطة المستترة. ويطرح هذا الموضوع أسئلةً كثيرة عن الأسباب التي تؤدي إلى انتشار الاقتصاد الموازي في المنطقة المغاربية، وعن فوائده الاجتماعية ومخاطره على الدولة والاقتصاد الرسمي.

الأسباب الهيكلية لانتشار الاقتصاد الموازي

من المشاهد اليومية المألوفة في مختلف المدن المغاربية، نجد باعةً يعرضون سلعهم على قارعة الطريق، وأفرادًا يملكون سياراتٍ يستعملونها لنقل المسافرين بجانب الأسواق أو بمحاذاة محطات النقل البري. كما تنتشر ورشاتٌ صغيرة للنجارة والسمكرة، وحرفيون يعرضون خدماتهم في أماكن متفرقة دون مقراتٍ ثابتة، إلى جانب ورشات خياطةٍ سريةٍ تتخذ من بعض المساكن الفردية مقراتٍ لنشاطها الإنتاجي. حتى الأساتذة والمعلمون ينخرطون في هذا الاقتصاد عبر تقديم دروسٍ خصوصيةٍ داخل منازلهم أو في فضاءاتٍ غير مرخّصة، فضلًا عن أنشطةٍ كثيرةٍ أخرى لا تُمارَس في إطارٍ رسمي.

ولعل المشترك بين هذه الأنشطة أنها لا تمتلك سجلاتٍ تجارية، ولا تؤدي الضرائب المستحقة، ولا تلتزم بالشروط القانونية المفروضة على ممارسة المهن، وهو ما يضعها جميعًا في خانة الاقتصاد غير الرسمي.

باعة يفترشون بضاعتهم في أحد شوارع المغرب

وفي هذا السياق، يشير تقرير المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب إلى أن نسبةً كبيرةً من الوحدات الإنتاجيّة غير الرسمية تُنشأ بدافع الضرورة الاقتصادية، وأن النساء يدخلن هذا القطاع بنِسبٍ أعلى من الرجال لأسبابٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّة.

وما يزال الاقتصاد الموازي واسع الانتشار في المغرب، فرغم تسجيل تراجعٍ طفيف خلال العقد الماضي، إذ انخفضت نسبة الأسر التي تمتلك وحدات إنتاجٍ غير رسمية من 15.5% عام 2014 إلى 14.3% عام 2023، مع بقاء الظاهرة أكثر وضوحًا في الأسر الكبيرة، حيث تدير أسرةٌ من كلّ أربعٍ تضمّ ثمانية أفراد أو أكثر نشاطًا غير رسمي.

أمّا في تونس، فقد سبق لعبد الرزاق حواص، الناطق الرسمي باسم الجمعية الوطنية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة، أن صرّح بأن الاقتصاد الموازي يستحوذ على نحو 65 بالمائة من حجم اقتصاد البلاد، معتبرًا أن هذه النسبة تعكس عمق الأزمة الهيكلية التي يعيشها المشهد الاقتصادي في تونس.

بينما في الجزائر، فوفقًا لدراسةٍ تحليليةٍ للفترة بين 2000 و2022، يُقدَّر أن الاقتصاد غير الرسمي يشكّل حوالي 31.72 بالمئة من الناتج الداخلي الخام، كما بيّنت النتائج أن زيادةً بنسبة 1 بالمئة في حجم الاقتصاد الموازي تؤدّي إلى انخفاضٍ في النمو الاقتصادي الرسمي بنسبة 1.02 بالمئة على المدى الطويل، مما يشير إلى أن توسّع هذا الاقتصاد يُضعف قدرة الاقتصاد الرسمي على النمو، ويُسهم في تآكل الموارد والإيرادات العامة، ويؤثر سلبًا على السياسات الاقتصادية للدولة.

في حين تشير الأرقام إلى أن الاقتصاد الموازي يُمثّل نحو 40 بالمئة من الناتج المحلي الخام لموريتانيا. وتُساهم عدةُ عوامل في انتشار الاقتصاد غير الرسمي في المنطقة المغاربية، من بينها:

أوّلًا، ضعفُ فرصِ العملِ الرسمي، الذي يُعدّ عاملًا رئيسًا يدفع الكثيرين نحو القطاع غير المنظم، فارتفاع البطالة، خصوصًا بين الشباب والنساء، يجعل من العمل الموازي أو غير الرسمي ملجأً متاحًا، لا سيما في المناطق الريفية أو البعيدة عن المراكز الحضرية، حيث الفرص قليلة.
ثانيًا، التفاوتُ التنموي بين المدن والمناطق الريفية، يُسهم في خلق فجوةٍ كبيرةٍ في البُنى التحتية وفي الخدمات والوصول إلى الأسواق، حيث إن المناطق الريفية غالبًا ما تفتقر إلى الشروط القانونية والتنظيمية التي تُسهّل عمل المؤسسات الرسمية، مما يدفع الأنشطة إلى أن تتم بشكلٍ غير رسمي.
ثالثًا، التعقيداتُ الإدارية تُشكّل عائقًا كبيرًا أمام التزام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بالقوانين والتنظيمات. فالكلفة الزمنية والإجرائية التي تستغرقها الرخص والوثائق والمنازعات القضائية… تُثقل كاهل من يريد أن يسلك المسار القانوني. كما أن بعض العاملين يعتبرون أن تشريعات الضرائب والمساهمات الاجتماعية مرتفعةٌ وغيرُ متناسبةٍ مع الربح المحتمل، مما يجعلهم يميلون إلى البقاء في الاقتصاد الموازي.
رابعًا، غيابُ أو ضعفُ الحوافز لتسوية الوضعية القانونية يُعمّق المشكلة. فحين لا يشعر الفاعلون بأن الانتقال إلى الرسميّة سيُحقّق لهم فوائدَ ملموسةً (كالحماية الاجتماعية، والتسهيلات الضريبية، والوصول إلى التمويل، والتغطية الصحية)، يبقون خارج الإطار الرسمي.
هذا إلى جانب ضعف الرقابة في بعض الأماكن، مما يُعطي صبغةً من التساهل أو حتى التواطؤ ضمنيًّا تجاه الأنشطة غير الرسمية.

الفوائد الاجتماعية للاقتصاد الموازي

رغم التحديات التي يفرضها، إلا أن الاقتصاد الموازي يُقدّم بعض المنافع الاجتماعية التي لا يُمكن تجاهلها. فهو يوفر سبلَ عيشٍ لآلاف الأسر في ظلّ ضعفِ فرصِ العملِ الرسمي. وفي حالات الأزمات الاقتصادية، سواء من تبعات الجفاف في الأرياف أو ارتفاع تكاليف المعيشة في المدن، يكون القطاع غير الرسمي مأوىً لمن لا يجد فرصةً في السوق الرسمي، فبدل أن يكون بلا دخل، يلجأ البعض إلى التجارة الصغيرة، أو الحرف اليدوية، أو تقديم خدماتٍ غير مسجّلة.

كما أن الشبكات الاجتماعية والتضامنية غالبًا ما تنشأ ضمن هذا الاقتصاد، فالعائلات والجيران والأصدقاء يشاركون مواردهم، يدعمون بعضهم البعض، ويساهمون في تأمين الطوارئ. هذه الديناميات تُخفّف من وطأة الفقر والبطالة المؤقتة، خصوصًا عندما تكون الدولة غير قادرة على تغطية كلّ الاحتياجات الاجتماعية بفعاليةٍ مستدامة، وهو ما ينطبق على جلّ الدول المغاربية.

وبالإضافة إلى ذلك، يُمكّن الاقتصاد الموازي بعض الفئات المهمشة، كالنساء والمهاجرين الداخليين الشباب المُنحدرين من الأرياف… من الدخول في أنشطةٍ اقتصاديةٍ مرنة تُتيح لهم تحقيق دخلٍ دون أن تُفرض عليهم التكاليفُ الباهظةُ للتسجيل أو استيفاء كلّ المتطلبات التنظيمية. هذا يُعطيهم مجالَ المبادرة الذاتية والتكيّف مع الظروف المحلية.

المخاطر على الاقتصاد والدولة

إلى جانب الفوائد، هناك مخاطرُ واضحةٌ وثقيلةٌ للاقتصاد الموازي إذا استمرّ دون ضوابط. فهو أوّلًا يؤثّر بشكلٍ كبير على الإيرادات الضريبية للدول؛ فالدولة تفقد جزءًا من مواردها الضرورية لتمويل الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والبُنى التحتية. وهو ما أشار إليه وزير المالية الأسبق محمد بنشعبون، حيث ذكر أن الاقتصاد غير الرسمي يُكلّف الدولة ما يُقدّر بنحو 34 مليار درهم من الضرائب السنوية المفقودة.

ثم إنّ الاقتصاد الموازي قد يُحفّز الفساد؛ لأن بعض الفاعلين يلجؤون إلى الممارسات غير القانونية أو شبه القانونية، على غرار التهرب الضريبي، والتهرب من دفع المساهمات الاجتماعية… الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى إضعاف ثقة المواطن في الدولة، ويُقلّل من الشرعية المؤسساتية.

بالإضافة إلى ذلك، يُساهم هذا الاقتصاد في زعزعة الاقتصاد الرسمي، إذ إنّ المنافسة غير العادلة من جهة الأنشطة التي لا تتحمّل نفس الأعباء الضريبية والتنظيمية تُؤثّر على المقاولات القانونية. وهو ما يخلق تشوّهاتٍ في السوق، فالأنشطة تُمارَس بأسعارٍ أقل في الاقتصاد الموازي بفضل عدم دفع الضرائب، مما يضغط على الأسواق الرسمية ويُضعفها.

ثم إنّ هذا الاقتصاد يُؤدّي إلى استمرار الاختلالات الهيكلية من عجزِ الاستثمار الرسمي في البُنى التحتية، وفي التعليم والتكوين، ثم في الحماية الاجتماعية… فعندما يكون جزءٌ كبير من العمالة غير مُؤمّنٍ قانونيًا، فإنّ الدولة تجد صعوبةً في اعتماد سياساتٍ اقتصاديةٍ مستدامة تُراعي التنمية البشرية. وهذا ما ينعكس على النمو الاقتصادي على المدى المتوسط والطويل.

إنّ الاقتصاد الموازي في المغرب الكبير ليس ظاهرةً يمكن تجاهلها أو استبعادها من أيّ خطةٍ تنموية، ذلك أنه واقعٌ يفرض نفسه، إذ يلامس حياةَ الملايين من الناس في البلدان المغاربية، ويتحكّم إلى حدٍّ كبير في بنيةِ الأسواق والعمل، كما يؤثّر على مجالات العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. ومعالجة هذه الظاهرة تتطلّب استراتيجياتٍ شاملةً متعددةَ الأبعاد، تنطلق من تبسيط الإجراءات الإدارية، وتخفيض العبء الضريبي للمؤسسات الصغيرة، وتشجيع رسميّة الأنشطة الاقتصادية عبر حوافزَ ملموسةٍ، وضمان تغطيةٍ اجتماعيةٍ صحيةٍ وتقاعديةٍ مناسبة، وتحسين التكوين المهني والتقني في المناطق البعيدة.

كما أنّ تعزيز الشفافية، وتقوية مؤسسات المراقبة، وضمان المساواة في الفرص بين الفاعلين الرسميين وغير الرسميين، يُعدّ من دعائم بناء اقتصادٍ أكثر عدالةٍ واستدامة. فإن نجحت الدول المغاربية في الموازنة بين الحاجة الفورية للنجاة الاقتصادية للفئات الهشة، وبين الإصلاح المؤسساتي طويل الأمد، فستكون أمام فرصةٍ لاستثمار هذا القطاع غير الرسمي بشكلٍ يُقوّي اقتصادها المحلي.