ما بين “الأسطل” و”أبو شباب”.. أدوات الاحتلال للسيطرة على غزة

في خضمّ حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، برزت ملامحُ مرحلةٍ جديدةٍ من أساليب السيطرة التي تعتمدها “إسرائيل” داخل القطاع، إذ لم تعد أدواتها تقتصر على القصف والاقتحامات البرية، بل امتدت إلى توظيف ميليشياتٍ محليةٍ مسلحة يتم استيلادها من رحم الفوضى والحصار والجوع، تعمل بغطاءٍ محليٍّ ظاهري، بينما ترتبط بشكلٍ مباشرٍ بأجهزة الأمن الإسرائيلية.

في هذا السياق، يأتي اسم الضابط السابق في أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، حسام الأسطل، كأحدثِ الوجوه التي أعادت تل أبيب دفعها إلى الواجهة في غزة، ليكون بديلًا عن حركة حماس، غير أنّ الرجل، الذي تُروّج له “إسرائيل” في خان يونس، يلاحقه تاريخٌ طويلٌ من الخيانة والعمالة وسيرةٌ غامرةٌ بالشبهات، ما يجعله موضع ريبةٍ وخطرٍ لدى أهالي القطاع، ويكشف استراتيجيةَ الاحتلال القائمة على تحويل بعض المرتزقة والعملاء إلى “أذرعٍ بديلةٍ” تُكمّل عمل جيشه، وتُوفر له هامشًا من الإنكار.

سيرة رجلٍ محاطٍ بالشبهات

لم يكن اسم حسام عبد المجيد الأسطل، الشهير بـ”أبو سفن”، معروفًا في غزة قبل أن يظهر فجأةً كقائدٍ لميليشيا مسلحةٍ جديدة أطلق عليها اسم “القوة الضاربة لمكافحة الإرهاب”، تعمل ضدّ المقاومة، وتتبنّى “إسرائيل” وجودها علنًا، وتنسِّق بشكلٍ كاملٍ مع جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”، في تجربةٍ تعكس محاولةً لصناعة بدائلَ محليةٍ لحكم حماس.

وفي مشهدٍ يعكس تحوّلاتٍ عميقةً في مسار الصراع على غزة، يتمركز الأسطل برفقة أفراد مجموعته في أرضٍ خاليةٍ مُهجّرة بفعل أشهرٍ من الحرب، بقرية قيزان النجار جنوب خان يونس، داخل منطقةٍ يسيطر عليها جيش الاحتلال بعد إخلائها بشكلٍ كاملٍ من السكان خلال هذه الحرب، كما هي حال بلداتٍ ومناطقَ مختلفةٍ من القطاع.

يُعادي الأسطل حماس بشدّة، وظهر في مقاطعَ فيديو وهو يتوعّد بمواجهتهم وملاحقة عناصرهم، مما جعله يبدو كوجهٍ بديلٍ تُعدّه حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في منطقة خان يونس، على غرار ميليشيا ياسر أبو شباب، التي ارتبط اسمها خلال الأشهر الماضية بنهبٍ ممنهجٍ للمساعدات، وتعمل بتنسيقٍ مع جنود الاحتلال بالميدان.

في مقابلةٍ صحفيةٍ مع “تايمز أوف إسرائيل“، زعم الأسطل إقامة “منطقةٍ آمنة” تُوفر الغذاء والماء والمأوى للراغبين باستبدال حكم المقاومة، وقدّم نفسه بصفته المسؤول عن “منطقةٍ إنسانيةٍ جديدة” تخضع لسيطرته بحمايةٍ إسرائيلية، كما حال أبو شهاب المسؤول عن مناطق شرق رفح وأجزاء من شرق خان يونس.

تبدو هذه المشاهد للوهلة الأولى وكأنها مبادراتٌ فلسطينيةٌ محليةٌ لإغاثة نحو مليوني نازحٍ فلسطيني يعيشون أزماتٍ خانقةً في المساعدات والخدمات، لكنه في جوهره يكشف استراتيجيةً إسرائيليةً لإعادة إنتاجٍ واضحةٍ لسياسة “فرّق تسد” الاستعمارية القديمة، حيث يُوظف الاحتلالُ المجرمين والمجموعات الخارجة عن السياق الوطني كأدواتٍ لتمزيق النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وإضعاف أيِّ مقاومة، وخلقِ كياناتٍ بديلة.

في حديثه للصحيفة الإسرائيلية، لم ينفِ الأسطل علاقته بميليشيا أبو شباب، بل أكد الاتصال والتنسيق معها، لكنه يعمل بشكلٍ مستقلٍّ عنها، إلا أن العلاقة بينهما ليست مجرد تقاطع مصالح، بل جزءٌ من مشهدٍ أكبر، حيث تحاول “إسرائيل” زرعَ وكلاءَ محليين للقيام بأدوارٍ أمنيةٍ ولوجستيةٍ تُكمّل عمل جيشها، وتشمل مراقبة رجال المقاومة والحدّ من عملياتهم.

اللافت في خطاب الأسطل وظهوره الإعلامي في وسائل الإعلام الإسرائيلية، أنه يتحدث علنًا عن تلقي دعمٍ مباشرٍ من “إسرائيل”، ويعرض صورًا لمواد غذائيةٍ وعسكريةٍ تحمل علاماتٍ تجاريةٍ إسرائيلية، بل ويؤكد وجود “تنسيقٍ أمني” مع تل أبيب، حيث يحمل أفراد جماعته تصاريحَ رسميةً لحمل السلاح من جيش الاحتلال.

منتجات من ماركات إسرائيلية ادعى الأسطل أنه استلمها من “إسرائيل”.

كما بثّ عبر الإنترنت مقاطعَ تُظهر مبانٍ مضاءةٍ بشكلٍ لافت في قطاعٍ غارقٍ في الظلام، منذ قطعت “إسرائيل” الكهرباء عقب هجوم السابع من أكتوبر 2023، موضحًا أن مجموعته تستخدم ألواحًا شمسية، لافتًا إلى أنهم سيعتمدون على الاحتلال لتأمين الكهرباء والمياه قريبًا، ما يشير إلى أن الاحتلال يفسح المجال لمثل هذه المبادرات في مناطقَ معينة، لتقويض سيطرة المقاومة، وإيجاد بدائلَ محليةٍ شكلية.

ودعا الأسطل النازحين من سكان خان يونس للانتقال إلى المنطقة الخاضعة لسيطرته، والتي تستعد – حسب قوله – لنصب مزيدٍ من الخيام لاستقبال المئات في الأيام المقبلة، مشيرًا إلى أنه يجري فحوصاتٍ أمنيةً للوافدين لإثبات عدم انتمائهم لحماس، محوّلًا بذلك المساعدات إلى أدواتٍ لفرض الولاء. لكن خلف هذه اللغة “الإنسانية”، يكمن مشروعٌ سياسيٌّ وعسكريٌّ خطيرٌ لتحويل غزة إلى فسيفساءَ من مناطقِ النفوذ، تُدار ببصمةٍ محليةٍ لكن بتخطيطٍ إسرائيليٍّ مباشر.

وفي مقابلاته، لم يتردد الأسطل في الاعتراف بأن مجموعته مسلحة، وتتلقى تمويلًا من أطرافٍ خارجية، بينها أمريكا وأوروبا ودولٌ عربيةٌ لم يسمِّها، مع وعودٍ بحمايته وتوفير الغطاء العسكري من جانب جيش الاحتلال، ليتحوّل بذلك إلى واجهةٍ لمخططات الاحتلال الرامية إلى خلق مناطقَ تدّعي أنها “آمنة”، لكنها تُوازي سلطة المقاومة، وتكرّس واقعًا جديدًا يخدم مشاريع التهجير والسيطرة.

كما نشر على صفحته في فيسبوك صورًا له مع رجالٍ مسلحين، مؤكدًا أن معداتهم العسكرية تأتي من هذه الأطراف الغربية والعربية، وذهب أبعد من ذلك بالقول إن أفرادًا من هذه الدول يتواصلون معه شخصيًا. وفي صورةٍ أخرى، بدا مرتديًا سترةً تحمل شعار “شركة الصناعات العسكرية الإسرائيلية” (IMI)، المُصنّعة لذخائر بتر وقتل الفلسطينيين، والمورّدة لمعدات وزارة الدفاع ومكتب رئيس حكومة الاحتلال.

حسام الأسطل ظهر مرتديًا سترةً تحمل شعار “شركة الصناعات العسكرية الإسرائيلية

تصريحات الأسطل حول الدعم متعدّد المصادر لميليشياته تُثير أسئلةً كبرى حول مشروعٍ إقليميٍّ ودوليٍّ مشتركٍ لإعادة تشكيل غزة، وتعكس هذه الرواية تقاطعَ مصالح بين “إسرائيل”، التي تسعى إلى تقليص تكلفة الاحتلال المباشر، وبعض الأطراف الدولية والإقليمية التي تريد التخلّص من نفوذ حماس، ولو على حساب تحويل غزة إلى “كانتوناتٍ” محاصرةٍ تُدار بوكلاء محليين.

تاريخٌ من الخيانة والعمالة

الأسطل ليس طارئًا على المشهد الغزّي، فقد عمل داخل “إسرائيل” لسنواتٍ عدّة قبل انضمامه لجهاز الأمن الوقائي التابع للسلطة الفلسطينية التي يترأسها محمود عباس (أبو مازن)، عندما كانت لا تزال تُسيطر على غزة، ويفسّر هذا سبب عدائه الشديد للحركة التي أطاحت بسلطة رام الله عام 2007، بما في ذلك الأسطل وعددٍ كبيرٍ من عناصر السلطة.

وعلى مدى ما يقارب ثلاثة عقود، ارتبط اسم الأسطل بمحطاتٍ مفصليةٍ في مسار التعاون مع أجهزة الاحتلال، بدءًا من الاتهامات الأولى بالتخابر في منتصف التسعينيات، مرورًا بتنفيذ مهام داخليةٍ وخارجيةٍ لصالح المخابرات الإسرائيلية، وصولًا إلى تورطه في اغتيال العالم الفلسطيني والمهندس بالحركة، فادي البطش، في ماليزيا عام 2018.

حسام الأسطل أثناء خدمته في صفوف قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.

في عام 2018، اعتقلت أجهزة أمن حماس الأسطل بعد استدراجه إلى غزة، على خلفية تحقيقاتٍ داخليةٍ أجرتها الحركة حول تورّط فلسطينيين في عملية استهداف البطش. وبعد أكثر من 3 سنواتٍ من الاحتجاز، صدر حكمٌ بإعدامه بتهمة التخابر مع الشاباك، والمشاركة في عملية الاغتيال بتكليفٍ من الموساد، غير أنه تمكّن من الفرار من سجون المقاومة أكثر من مرة، كان آخرها مع اندلاع الحرب الأخيرة على القطاع.

ومنذ فراره من سجون المقاومة، تنقّل بين عدة مناطق، وحاول التسلل نحو “إسرائيل”، لكنه سرعان ما التحق بميليشيا ياسر أبو شهاب في رفح، وقاتل إلى جانبه ضد المقاومة، قبل أن يُؤسس تشكيلًا جديدًا مع مسلحين آخرين، بعضهم كانوا متهمين بالتعاون مع الاحتلال ومعتقلين سابقًا لدى حكومة غزة.

وبين ما تكشفه الأجهزة الأمنية، وما تُوثّقه شهاداتُ المصادر الصحفية، تتكشف سيرةٌ حافلةٌ بالارتباطات الاستخبارية والعمليات السرية، من بينها تورّطه في إدخال مركباتٍ مشبوهةٍ من “إسرائيل” إلى غزة لصالح متخابرين مع “الشاباك”، أو بغرض استخدامها لاحقًا في تصفية عناصر من الفصائل.

وهكذا، تحوّل الأسطل من سجينٍ بتُهمٍ جنائية إلى قائدِ ميليشيا مسلّحةٍ تحظى بحمايةٍ ودعمٍ من الاحتلال علنًا. فالرجل الخمسيني، الذي فقد موقعه داخل البنية الأمنية الفلسطينية، وجد في التنسيق مع الاحتلال مدخلًا جديدًا للعودة إلى المشهد، لكن هذه المرة بصفةٍ أكثر خطورةً وإثارةً للجدل.

وحتى اليوم، لم يتوقف الأسطل عن لعب دوره التقليدي كأداةٍ بيد الاحتلال، إذ كشفت تسريباتٌ تضمنت صورًا ومحادثاتٍ مرئيةً ومسموعة، محاولاته استدراج عددٍ من الشبان للعمل لصالح الاحتلال والموساد، مستخدمًا أساليبَ الإغراء والخداع لاستقطابهم وتوريطهم في التعاون ضد المقاومين، في مشهدٍ يعكس استمراره في تجنيد العملاء تحت ستار الخيانة والاحتيال.

تسريبات تُظهر محاولات الأسطل إغراء الشباب للعمل لصالح الاحتلال والموساد.

أدواتٌ قديمةٌ بوجوهٍ جديدة

ما يجري في غزة اليوم لا يمكن اختزاله في مشهدِ ميليشيا ناشئة أو قائدٍ قِبَليٍّ يطمح للنفوذ، بل هو جزءٌ من استراتيجيةٍ إسرائيليةٍ متكاملةٍ تدمج البعدَ العسكري بالاستخباري والسياسي والإنساني، وتُعيد إنتاج سياساتٍ استعماريةٍ بواجهةٍ محليةٍ تبدو أقرب إلى المجتمع، لكنها في حقيقتها وسيلةٌ لتقويضه والسيطرة عليه.

تجاربُ الاحتلال الإسرائيلي ليست بعيدةً عن الذاكرة، فمنذ منتصف السبعينات، أقدمت على تشكيل ميليشياتٍ مماثلةٍ في الضفة الغربية، عُرفت حينها بـ”روابط القرى”، وتكررت التجربة في جنوب لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، عبر دعم تأسيس ميليشيا محلية عُرفت باسم “جيش لبنان الجنوبي”، المعروف شعبيًا بـ”جيش الأحد”، الذي مثَّل نموذجًا عسكريًا أكثر تطرفًا من سياسات “روابط القرى”.

واليوم، يُعاد استنساخ هذه التجارب في غزة، ويعترف بذلك قادةُ الاحتلال أنفسهم، وعلى رأسهم نتنياهو، الذي أقرّ في يونيو/ حزيران الماضي، بتسليح ما سمَّاها “عشائر فلسطينية معارضة لحماس في غزة”، في مسعى لإعادة تقسيم غزة إلى مناطقَ قَبَليّةٍ تسيطر العشائر والعائلات على جزءٍ منها، بما يفضي في النهاية إلى إيجاد بديلٍ محليٍّ يقوم على تقسيم المجتمع المحلي في القطاع.

جنودُ الاحتلال أنفسهم الذين تحدّثوا لصحيفة “هآرتس”، أكّدوا أن وتيرة تجنيد هذه الميليشيات في تزايد، وأنها باتت جزءًا من استراتيجيةٍ مدروسةٍ لمواجهة حركة حماس، حيث اعترفت “إسرائيل” بوجود 3 مجموعاتٍ على الأقل، تتلقّى أسلحةً وتمويلًا لتنفيذ مهام عسكرية، وتُوجَّه لملء الفراغ الأمني والسياسي، وملاحقة عناصر حماس والجهاد الإسلامي.

إلى جانب التشكيلات التي تضمّ شبّانًا من بعض العشائر ومعارضين لحماس، وبينهم عناصر ينتمون إلى حركة فتح، تبرز ميليشيا أبو شباب بوصفها النموذج الأوضح لهذا المسار، فقد تحوّلت من عصابةٍ تنهب المساعدات، إلى قوةٍ ميدانيةٍ تُنفّذ عملياتٍ تحت إشرافٍ مباشرٍ من جيش الاحتلال، في تجسيدٍ واضحٍ لكيفية إعادة تدوير الجريمة المنظمة وتحويلها إلى أداةٍ عسكريةٍ تخدم أهداف الاحتلال.

وقد بدأ ظهورُ هذه المجموعات بشكلٍ واضحٍ فور انتهاء الهدنة الأخيرة وعودة الحرب في مارس/ آذار الماضي، حيث شهدت مناطق من غزة تظاهراتٍ واحتجاجاتٍ مفاجئة، تبيّن أن أغلب من نظّمُوها وقادوها هم عناصر من السلطة الفلسطينية، في مسعى منهم للعودة لحكم القطاع بالتعاون مع “إسرائيل”، التي تستخدم هؤلاء كعناصرَ تمردٍ يمكن أن تحلّ بديلًا لحماس.

وبحسب ما نقلته وسائل إعلامٍ إسرائيليةٌ عن مصادرَ عسكرية، فإنّ هذه الميليشيات التي ترعاها تل أبيب في غزة لا تتزود بأسلحةٍ إسرائيليةٍ نظامية، بل بما تستولي عليه من حماس خلال الحرب، إضافةً إلى عتادٍ استولت عليه من حزب الله في جنوب لبنان، في محاولةٍ متعمّدةٍ لإظهار أدواتها القتالية كأنها “غنائمُ حربٍ” لا صلةَ مباشرةَ لـ”إسرائيل” بها.

لكن الصورة تتضح أكثر عند النظر إلى الامتيازات الممنوحة لأفراد هذه الميليشيات، إذ يحصلون على رواتب شهرية، وتصاريحَ رسميةً لحمل السلاح من جيش الاحتلال، ما يُحوّلهم عمليًا إلى مرتزقةٍ محليين يعملون تحت عباءةٍ فلسطينية، بينما يخدمون أجندةَ الاحتلال، ويُضفون عليها واجهةً داخليةً مُصطنعة.

هذه الاستراتيجية اعتبرها الصحفي الإسرائيلي شيلدون كيرشنر مجرّد إعادةِ إنتاجٍ لسياساتٍ قديمةٍ جُرّبت في الماضي، وفشلت في تحقيق أهدافها، مشيرًا إلى أن تغيير الواجهة أو الأدوات لا يُغيّر من حقيقة كونها وصفةً مستهلكةً، تحمل في طيّاتها نفس الأخطاء ونفس احتمالات الإخفاق، حتى وإن جرى تقديمها اليوم على أنها حلٌّ مختلفٌ يتناسب مع الظروف الراهنة.

رهانُ الاحتلال الخاسر على الميليشيات المسلحة

لم تعد الميليشيات المحلية، مثل تلك التي يقودها الأسطل وأشباهه، حدثًا هامشيًا أو مجرد مجموعةٍ من عشراتِ المسلحين في ميدانٍ معزول، بل تحوّلت، وفق استراتيجيةٍ إسرائيليّةٍ محكمة، إلى أدواتٍ متعددةِ الوظائف تخدم أهدافًا سياسيةً وأمنيةً مترابطة لإعادة تشكيل الواقع الجغرافي والاجتماعي في غزة، لكن بطرقٍ تتيح لـ”إسرائيل” تجنّب إظهار بصمتها المباشرة على الأرض.

ورغم تباين التحليلات حول مستقبل غزة، يكشف تاريخُ التجارب الإسرائيلية في الحروب المشابهة عن أهدافٍ واضحةٍ وراء تشجيع وجود ميليشياتٍ محليةٍ كظاهرتَي الأسطل وأبو شهاب، من بينها: فتحُ جبهةٍ داخليةٍ تستنزف قدراتِ المقاومة، وتفكيكُ النسيج الاجتماعي الفلسطيني عبر تغذية الانقسامات العشائرية، ومنحُ امتيازاتٍ لزعاماتٍ نفعية، وتحويلُ هذه المجموعات إلى أدواتٍ لوجستيةٍ واستخباريةٍ تتحكّم بالمساعدات، وتوفرُ للاحتلال معلوماتٍ دقيقةً تُقلّل كلفة عملياته.

مسلحون يدّعون تأمين شاحناتٍ محمّلة بالمساعدات الإنسانية في غزة.

وعلى المدى القريب، تُعقّد هذه السياسة أيَّ مفاوضاتٍ محتملة، وتُمهد لسيناريو التهجير القسري واسعِ النطاق، من خلال تكليف الميليشيات بمهمةِ حراسة النازحين، وتجميعهم في ما يسمى “المدينة الإنسانية” جنوب رفح، التي لا تعدو كونها معسكرَ اعتقالٍ ضخم تحت إشراف الاحتلال.

ميدانيًا، يبرز تمركزُ ميليشيا الأسطل في قرية قيزان النجار، على طريق صلاح الدين بين خان يونس ورفح، كاختيارٍ استراتيجيٍّ لا يخلو من دلالات، فالقرية تقع على مقربةٍ من منطقة المواصي الساحلية، المكتظة بالنازحين، لتتحول فعليًا إلى “بوابةٍ” على أكبر بؤرةِ تهجيرٍ قسري في الجنوب، ما يمنح “إسرائيل” غطاءً لتبرير سياساتها، ويحوّل الميليشيا إلى أداةِ رقابةٍ اجتماعيةٍ وأمنية.

أمّا ميليشيا أبو شباب، المتمركزة في منطقة الشوكة شرق رفح، الخاضعة بالكامل لسيطرة الجيش الإسرائيلي، فاختيارُ موقعها يعكس نيةً مبيّتةً لتحويل المنطقة إلى مركزِ نزوحٍ بديل عن المناطق المهجّرة شمالًا، ونقطةٍ لتوزيعِ المساعدات الغذائية تحت إشراف الاحتلال أو وكلائه.

ورغم هذه المساعي، يواجه رهانُ الاحتلال على هذه الصيغ عوائقَ حقيقية، وغالبًا ما تتشابه مصائرُ هذه الميليشيات، وتنتهي بالفشل، إذ تشير التجاربُ السابقة إلى أن الوعيَ الشعبي الفلسطيني يدرك خطورةَ “الوكالة” عن الاحتلال، ويعزل المجتمعُ الفلسطيني تلك المجموعاتِ اجتماعيًا، مستندًا إلى خبرةٍ طويلةٍ في كشف العملاء والتصدي لهم بصرامة.

يُضاف إلى ذلك قوّةُ البنيةِ الاجتماعيةِ والعشائرية، التي تعتبر التعاون مع الاحتلال وصمةً لا تُمحى، ما يجعل من الصعب على أيّة زعاماتٍ بديلةٍ إثباتَ شرعيّتها، ويُضيّق الخناق على محاولات الاحتلال لزرعِ شبكاتِ تجسّسٍ وميليشياتٍ تعمل في ظلّ الفوضى.

في دلالةٍ على ذلك، أعلنت عائلته – على غرار ما فعلت قبيلة الترابين مع ياسر أبو شباب في غزة، في خطوةٍ نادرةٍ في الأعراف البدوية – تبرّؤها الكامل من أفعاله “المُستقبحة”، التي اعتبرتها لا تليق بأيِّ إنسانٍ حر، وأكّدت أن ما قام به لا يمتّ بصلةٍ إلى تاريخها أو قيمها، مشددةً على أن سلوكه لا يُمثل إلا نفسه، وقد ألحق الأذى والعار بعائلته ومجتمعه بأسره.

كما تتبنّى المقاومة سياسةَ ردعٍ صارمةٍ عبرَ كشفِ العملاءِ ومحاكمتهم أو إعدامهم ميدانيًا، لتؤكّدَ قدرتها على إدارة “الأمن الداخلي” بالتوازي مع “الميدان العسكري”، وتبعثَ برسائلَ مفادها أن هذا الطريق مسدودٌ أمام أي تعبئةٍ مجتمعيةٍ للمجموعاتِ المتعاونة، وأنّ الانخراطَ في شبكاتِ تجسّسٍ أو تعاونٍ مع الاحتلالِ خطٌّ أحمرٌ لا يمكن تجاوزه.

المقاومة تعدم ميدانيًا 3 متخابرين مع الاحتلال بمدينة غزة.

وكان الأسطل واحدًا من 5 عملاء نشرت حماس أسمائهم مؤخرًا، محذّرةً من التعامل أو التواصل معهم، وأعلنت نيتها ملاحقته، في إشارةٍ إلى استمرار سيطرتها على زمام الأمور، وأنّ مصيره لن يختلف عن مصير العملاء الذين أعدمتهم علنًا في غزة عبر وحدة “سهم” المتخصّصة في مطاردتهم.

هذه العوامل مجتمعةً تفسّر فشل “إسرائيل” في تحويل الميليشيات إلى واقع دائم، لتبقى هذه الميليشيات مجرد أدواتٍ عابرةٍ لتنفيذ “أعمالٍ قذرةٍ”، وسرعان ما ينتهي أصحابُها إلى العزلة أو التصفية مع أول مواجهةٍ جدّيةٍ مع المجتمع والمقاومة، بدلًا من أن يصبحوا أدواتِ حكمٍ محليةً كما يخطط الاحتلال.

وفي موازاةِ غموضٍ يلفّ آليةَ تمويلٍ وحدودَ دورِ هذه الميليشيا، يجمعُ الغزّيون على أنَّ الأسطل — كما أبو شباب — أعجزُ من أن يبني حاضنةً شعبيةً، ولا يتجاوز كونه ورقةً بيدَ الاحتلالِ تخدمُ استراتيجيته البعيدة، إذْ يجسّدُ في نظرهم نموذجَ الخائنِ والعميلِ في زمنِ الحرب، وتلك هي الوصمةُ الأكثرُ احتقارًا لديهم.

وحتى إن بدا أنَّ الأسطل يحقق بعض الأهداف التكتيكية للاحتلال، فإنّما سيظلُّ تفصيلاً هامشيًا في مخطّطه، لا تتوقّف عنده مفاوضاتٌ، ولن تبذل تل أبيب ثمنًا استثنائيًا من أجله إذا اُعتقل أو حُوصر، وحتى المكانُ الذي يتمترس فيه قد يُجبر الاحتلالُ على التخلي عنه.

لا أحدَ يعلم حينها إلى أين سيتجه هو وعصابته، لكن المؤكّد أنّ العربات العسكرية الإسرائيلية لن تحملهم مع الجنود إلى فلسطين، تمامًا كما حدث مع “جيشِ الأحد” حين تُرِك خلف الأسوارِ في ساعةٍ من الليل، وسيكون حظُّهم حينها على الأرجح أقل بكثير.