الضحك مع الديكتاتور وصناعة “الميمز” في زمن الاستبداد

في عالمٍ يكتظُّ بالمنصات الرقمية، تحوَّلت السياسة من خطابٍ رسميٍّ جافٍّ إلى مادةٍ تفاعليةٍ تتناقلها الأجيال الجديدة. إن ظاهرة السخرية السياسية، التي تجسدت في “ميمز” ومقاطع “ريلز” على وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما فيسبوك وإنستغرام، تسخر من شخصياتٍ استبدادية، مثل بشار الأسد، وصدام حسين، وعبد الفتاح السيسي، لم تَعُدْ مجرد شكلٍ من أشكال الترفيه العابر، بل أصبحت بمثابة عدسةٍ مكبِّرةٍ تكشف عن ديناميكيات الوعي الجمعي في مواجهة القمع.
يكمن في قلب هذه الظاهرة تناقضٌ جوهريٌّ، فهي من جهةٍ تمثل أداةً قويةً للتمكين والمقاومة، وإعلاء السخرية من القامات والهالات الاستبدادية عبر التاريخ والحاضر. لكنها، ومن جهةٍ أخرى، تحمل في طيّاتها مخاطرَ عميقةً قد تؤدي إلى تسطيح الوعي، وتطبيع الاستبداد، بل وتكرار أنماط العنف والتمييز.
في هذا المقال، سنحاول تفكيكَ هذه الظاهرة المعقدة، مستكشفينَ أبعادَها المتعددةَ التي تتجاوز مجرد الضحك. إنّها دعوةٌ للتأمل في العلاقة الجدلية بين السخرية والوعي الجمعي، والبحث في ما إذا كانت آليات التعبير التي نشأت كفعلِ مقاومةٍ قد تُستغل، بقصدٍ أو بغير قصدٍ، لإعادة إنتاج السرديات السلطوية، أو تزييفها، أو التعامل معها كأنها شيءٌ عاديٌّ، لا مفرَّ منه.
وأيضًا، ما هو الثمنُ الاجتماعي والأخلاقي الذي يدفعه المجتمعُ عندما تتحول قضاياه المصيرية إلى مجرد محتوى ترفيهي استهلاكي؟ هل يمكن للضحك على مأساةٍ أن يكون خطيرًا، وماذا يحدث عندما تتحوّل الديكتاتورية إلى “ميم” نُطبِّع معه، ونستخدمه حيال كلِّ شيءٍ في يوميّاتنا؟
الضحك كممارسة تحرّرية
تُعدُّ السخريةُ السياسيةُ في الأنظمة الاستبدادية بمثابةِ سلاحٍ ذي فعاليةٍ قصوى لتجاوز الرقابة وتفكيك هالة السلطة. في المجتمعات التي تفرض فيها الأنظمة خطابًا رسميًّا أحاديًّا وتسيطر على وسائل الإعلام التقليدية، تصبح الفكاهةُ الساخرة هي الأداةَ الوحيدةَ المتاحة للتعبير عن السخط والنقد. ولا تكتفي هذه السخرية بكونها مجرد نكتةٍ عابرةٍ، بل هي “كوميديا سوداء” تعكس أوجاعَ المواطنِ السياسيةَ والاجتماعيةَ، وتوفّر متنفسًا ضروريًّا في الفترات القمعية. إنّها شكلٌ من أشكال “الرفض اللفظي” الرمزي، الذي يُعبّر عن الرفض الكامن تجاه السُلطوية الاستبدادية.
يقدّم الضحكُ في هذا السياق إحساسًا نفسيًّا مؤقتًا بالانتصار على الطاغيةِ الذي يصعب مواجهتُه بشكلٍ مباشرٍ، لامتلاكه أدواتِ القمع. وفقًا لمفاهيمِ التفوق في الفكاهة، يولد الضحك من الشعور بالتعالي والدونية، حيث يشعر المتفكّه بانتصاره وتفوّقه على الآخر الذي يسخر منه. هذا الإحساسُ بالتفوق، حتى لو كان رمزيًّا، يساهم في كسرِ هيبةِ السلطة وتجريدِها من قداستِها المزعومة. لقد ظهر هذا الأثرُ بشكلٍ واضحٍ في برامجَ مثل “البرنامج” للإعلامي باسم يوسف، الذي حوّل خطاباتِ الساسة إلى مادةٍ للفكاهة والنقد، ووصل إلى ملايين المشاهدين في الشرق الأوسط، وكان سببًا من أسباب الحشد والرفض لحكم الإخوان في مصر بعد ثورة يناير 2011. فلم تكن تلك البرامج مجرد مشاهدَ ترفيهية، بل ساهمت في تشكيل وعيِ قطاعٍ واسعٍ من الجمهور وتنمية معرفتِهم بالجدل السياسي والاجتماعي.
لم يقتصر الضحكُ على كونه متنفسًا فرديًّا، بل تجاوز ذلك، ليصبح “صدى جماعيًّا” يعزّز الشعور بالتضامن في مواجهة العزلة التي يفرضها الاستبداد. فالأنظمة الاستبدادية تسعى دائمًا لخلق شعورٍ بالاغتراب بين رأس السلطة والشعب، ما يُعرف بـ”الاغتراب السياسي”، حسب وصف الكاتب السوري حليم بركات، وتحويل الأفراد إلى مجرد أشياءَ لا قيمةَ لها. في المقابل، تخلق “الميمز” ومقاطع “الريلز” “مجتمعاتٍ افتراضيةً” قائمةً على النكات المشتركة. إنّ انتشارَ هذه المحتويات الفكاهية بشكلٍ فوريٍّ وهائلٍ يولّد شعورًا بالمشاركة الجماعية والضحك المشترك، وهذا الصدى هو ما يكسر حاجزَ الخوف، ويُثبت للأفراد أنهم ليسوا وحيدين في سخطهم. عندما يرى الفردُ أن غيره يضحك على ما كان يخشاه، يتآكل الشعورُ بالقداسة لدى السلطة، في وعيه ولا وعيه، وتتحوّل السلطةُ إلى مادةٍ قابلةٍ للنقد والتحليل. هذا التحول، أي تحوّل السخرية من مجرد نكتةٍ إلى أداةٍ تحمل دلالاتٍ “تُثير الضحك والنقد والتحريض والسخط والقلق”، ما يُمهّد الطريقَ لوعيٍ سياسيٍّ جمعيٍّ.
التبسيط التنويري: الوعي السياسي للجيل الرقمي
تمتلك الفكاهةُ قدرةً فريدةً على تبسيط القضايا المعقدة وجعلها في متناول الجمهور الواسع، وخصوصًا الشباب، حيث أظهرت العديد من الدراسات أن الشباب، أكثر من كبار السن، يتعلمون السياسة من خلال البرامج الكوميدية التي تقدم لهم مادةً سهلةً ومقنعةً لفهم القضايا السياسية. إنّ الميمز لا تكتفي بنقل المعلومة، بل تعزّز من قدرة الجمهور على “فهم المعلومة وتذكّرها، وحتى قناعاتهم تجاه الموضوع”. هذه الخاصية تجعلها أداةً قويةً في الخطاب السياسي المعاصر، حيث يمكن “للميمز” أن تلعب دورًا محوريًّا في حشد الرأي العام وتحدي الروايات السائدة.
كذلك، لا تقتصر وظيفةُ “الميمز” على تبسيط المعلومات، بل هي في جوهرها “إعادةُ تأطيرٍ” للخطاب السياسي بأكمله. إنّها تنقل السياسة من فضاء الجدية النخبوية الرسمية إلى فضاء الهزل والتفاعل الاجتماعي العام، وتساهم في تحويلها إلى لغةٍ عالميةٍ جديدة. ففي عالمٍ يجد فيه المحتوى السياسي التقليدي صعوبةً في جذب اهتمام الجمهور، تقدّم الميمز محتوىً ممتعًا وتفاعليًّا يسهل على الأفراد المشاركة فيه. هذا التفاعل يؤدّي إلى “وعيٍ سياسيٍّ أعلى” وحماسيّةٍ أكبر لمناقشة القضايا، ما يدفع الجمهور إلى التفكير بشكل أعمق في المواضيع التي شاهدها.
هذا التحوّل في كيفية استهلاك السياسة يُجبر الأنظمةَ والسياسيين على التكيّف مع لغةٍ جديدة، حيث أصبحت “الميمز” جزءًا لا يتجزأ من الحملات السياسية في الديمقراطيات، وتُستخدم من قبل الخصوم والمؤيدين على حدٍّ سواء لتشكيل السرديات السياسية. وهذا ما وجدناه في خطاباتٍ لرؤساء دول، السيسي مثالًا، حين كان يتابع “ترندًا” فكاهيًّا في مصر، وعبر متابعته، ذكر الترند في إحدى خطاباته، متحدثًا عن أنه لا مشكلة من زيادة أسعار البنزين، كنوعٍ من التماهي مع الترند الترفيهي في المجتمع.
الوجه المظلم للفكاهة: المأساة مجرد “مادة ترفيهية”
بقدر ما تمنح السخريةُ من قوّةٍ في تبسيط القضايا، كما وجود هذه القضايا بشكلٍ مستمرٍّ ومتجدّدٍ في الوعي الجمعي، بقدر ما تحمل في طيّاتها مخاطرَ التسطيح التي قد تُعيق الفهمَ الحقيقي للواقع. إنّ بساطةَ “الميمز”، وطبيعتها العابرة، تجعلها تقدّم معلوماتٍ “سطحية أو خاطئة أو مُضلِّلة”، وتُستخدم أحيانًا للتلاعب بالجماهير. هذا التبسيط المفرط قد يُجرّد القضايا المصيرية من عمقها، ويحوّلها إلى مجرد محتوى ترفيهي استهلاكي. هنا، أي عندما تصبح النكتة “هي الهدف لا الوسيلة”، يتحوّل الموضوع السياسي إلى مجرد طريقٍ لإنتاج نكتةٍ جيدة ومتجددة، مما يجعله هامشيًّا ويفقد أهميته الحقيقية.
إنّ الضحك على المأساة، في هذا السياق، قد لا يكون فعلًا مقاومًا، بل قد يتحوّل إلى آليةٍ نفسيةٍ للتكيّف مع الواقع القاسي، ما يساعد على إنتاج حالةٍ من “الرضا” أو القبول السلبي. فهذه العملية قد تحوّل الغضب من طاقةٍ يمكن أن تدفع نحو التغيير إلى “تفريغٍ متواصلٍ” للطاقة دون تحقيق أي نتيجةٍ حقيقية. حين يصبح الفساد أو القمع مجرد “نكتةٍ” متكررة، فإنّ الجمهور قد يفقد حسَّ الغضب الذي يدفع إلى ممارسة الفعل. هذه الظاهرة قد تُشجّع على “النشاط السياسي السطحي والكسول”، حيث يكتفي الأفراد بمجرد الضحك والمشاركة الرقمية دون الانخراط في حراكٍ جادٍّ. وكنتيجةٍ لهذا التطبيع، يتكرّر وجهُ الطاغية في المحتوى الكوميدي اليومي، فيفقد هيبتَه المخيفة، لكنه يتحوّل في الوقت نفسه إلى “شخصيةٍ” مألوفة، بل ومحبوبةٍ أحيانًا، بشكلٍ لا واعٍ، ما يقلل من خطورة أفعاله، ويُساهم في التطبيع مع استبداده.
أيضًا، تظهر الطبيعة المعقدة للفكاهة السياسية في قدرتها على أن تكون مرآةً تعكس التحيزات الموجودة في المجتمع بدلًا من محاربتها. ففي محاولةٍ لتجريد الطاغية من قوته وهيبته، قد يتمّ اللجوء إلى استخدام صفاتٍ أو قوالبَ نمطيةٍ تُعتبر “إهانةً”، مما يحمل “عنفًا رمزيًّا” ضد فئاتٍ مهمشة. على سبيل المثال، السخرية من بشار الأسد عبر تشبيهه بـ”امرأة” أو “مثليٍّ” أو “ذوي الاحتياج الخاص”. هذا النمط من السخرية يثبت أنّ الفكاهة ليست أداةً محايدة، بل يمكن أن تُرسّخ “الأفكار النمطية وتحوّل التحيزات لأفكارٍ مقبولةٍ اجتماعيًّا”، كما أنها تؤدي إلى “قطع الروابط الاجتماعية” وتوليد “الأحقاد”. كذلك، يمكن أن تُستخدم لنشر محتوى “عنصريٍّ وكارهٍ”، لا سيما في المجتمعات التي ينتشر فيها الخلافات والاختلافات الثقافية والمناطقية والمذهبية، لبنان والعراق وسوريا مثالًا.
إنّ هذا الجانب يكشف عن مفارقةٍ أخلاقيةٍ عميقةٍ، ففي الوقت الذي يسعى فيه الأفراد إلى محاربة القمع، فإنهم قد يُساهمون في ترسيخ خطاب الكراهية ضد الضحايا الحقيقيين الذين يُعانون من التهميش في المجتمع. إنّ استخدام القوالب النمطية لتشويه صورة المستبد، كالتهكّم على لون بشرته أو عرقه أو جسده، يُعيد إنتاج سلوكياتٍ عنصريةٍ تُمارَس ضد المجموعات المهمشة. وهذا يضع تحدّيًا أمام صنّاع المحتوى: هل يجب أن تكون السخرية حذرةً وتُراعي “عدم الانتقاص من حقوق الفئات الأخرى”، أم أنّ أيّ سلاحٍ متاحٍ مقبولٌ ضد الطغيان؟ هذا التناقض يُؤكّد أن السخرية السياسية الرقمية ليست مجرد فعلٍ بريء، بل هي ساحةُ معركةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ وأخلاقيةٍ، يمكن فيها للجمهور أو الأنظمة نفسها أن تستغلّ الميمز لنشر رسائل دعائية أو مُضلِّلة بشكلٍ غير مباشر.
كذلك، تُعدّ السخرية من الأنظمة المستبدة تجسيدًا عمليًّا لمفهوم “العبث” الفلسفي. فالأنظمة التي تفرض على شعوبها واقعًا بلا منطقٍ أو معنى، من خلال قوانينها التعسفية وسلوكياتها اللاعقلانية (مثل “إمساك القمر”)، تخلق بيئةً يصبح فيها الضحكُ هو الردَّ الوجوديَّ الوحيدَ المتاحَ على هذا الواقع. الضحك، وفقًا لبعض الفلسفات، هو موقفٌ إزاء “الفراغ” و”اللاجدوى”. إنّها “كوميديا سوداء” تُعبّر عن ألمٍ حقيقيٍّ، حيث يمتزج الضحكُ بالدموع، ويُصبح الهزل هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن التراجيديا الكامنة، وهذا، برأيي، هو جزءٌ كبيرٌ من فلسفة الانتشار الواسع لصناعة “الميمز” و”الريلز” بعد فقدان الأمل في الأنظمة والحُكّام وموتِ جدوى العمل السياسي.
إنّ الضحك على المستبد قد لا يكون دائمًا فعلًا واعيًا للمقاومة، بل قد يكون تجسيدًا فلسفيًّا لفقدان الأمل في التغيير. وأحيانًا، هو إقرارٌ بالعبثية التي تفرضها السلطة، والاحتلال، والإبادة، ومحاولةٌ للتغلّب عليها عبر الضحك بدلًا من الثورة. هذا التفسير يُجيب على سؤال: لماذا قد لا يؤدي الضحك إلى تغييرٍ جذريٍّ، بل إلى “التكيّف” مع الوضع الراهن. يُصبح الضحك على المأساة بمثابة آليةٍ للبقاء، لردّ الفعل غير المُكلِّف، في زمنٍ تسير فيه الشعوب نحو النجاة الفردانية، والابتعاد أو الهروب من دفع أيّ أثمان. من هنا، قد يتحوّل السخط إلى طقسٍ ترفيهيٍّ يوميٍّ دون أن يدفع نحو أيّ فعلٍ حقيقيٍّ.
السخرية من المستبدين (بشار والسيسي وصدام)
أثبتت السخريةُ من ديكتاتورٍ مثل بشار الأسد أنها أداةٌ فعّالةٌ في تفكيك الأسطورة التي بناها النظام على مدى عقود. بعد سقوط نظامه، تحوّل “ألبوم صور العائلة” الذي تركه خلفه إلى مادةٍ خصبةٍ للسخرية. هذه السخرية لم تكن عابرةً، بل استهدفت “الذكورة السامة” التي اعتمد عليها النظام كدعامةٍ أساسيةٍ لسيطرته. فمن خلال تصويره بجسدِ امرأةٍ، أو الادعاءات حول مثليّته، سعى الجمهور إلى تجريده من القوة والنفاق، ما يمنح، ولو بشكلٍ نفسيٍّ ولحظيٍّ، آلافًا من ضحاياه نوعًا من “الشفاء والتعافي”، والتشافي أيضًا.
لكنّ هذا النمط من السخرية، رغم أهميته في كسر الأسطورة، يحمل في طيّاته إشكالياتٍ أخلاقيةً. فهو يعتمد على التنمر والتحريض على النساء والأقليات، ما يعكس أو يخلق تحيّزاتٍ وتصوراتٍ مجتمعيةٍ بدلًا من نقاشها. لذا، يُساهم هذا النوع من السخرية في ترسيخ فكرة أن التشبيه بالمرأة أو الأقليات هو إهانة، ما يُكرّس خطاب الكراهية ضد هذه الفئات، في الوقت الذي يتم فيه بناء مستقبلٍ جديدٍ للمجتمع والدولة والقانون في سوريا.
أمّا في مصر، فتتركّز السخريةُ من الرئيس عبد الفتاح السيسي على تناقضاتِ خطاباته ورؤيته الأبوية للشعب، حيث تُحوَّل خطاباته الجادة، التي يحاول فيها الظهور كأبٍ حكيمٍ وحازمٍ، إلى محتوى كوميديٍّ. هنا، الضحك على “اللامعقول” في الخطاب السياسي يكشف الهوّة بين سردية النظام وواقعه. يُصبح السيسي، في أعين الجمهور، مادةً كوميديةً، فلا يُتابَع لفهم السياسة، بل للضحك على أسلوبه، ما يوضح كيف أن السخرية قد لا تؤدي إلى تغييرٍ سياسيٍّ مباشرٍ، بل إلى تحويل السلطة من كيانٍ مهابٍ إلى “شخصيةٍ” مألوفةٍ للترفيه.
وفي العراق، تختلف حالة السخرية من صدام حسين عن الحالات السابقة. ففي حين أن السخرية من الأسد والسيسي تتعلّق بنقد الأنظمة القائمة أو التي سقطت للتو، فإنّ السخرية من صدام غالبًا ما تكون ممزوجةً بنوعٍ من النوستالجيا. فانتشارُ مقاطعَ قديمةٍ له، وبعضُها يزعم أنه لا يزال حيًّا، يُوضح كيف يمكن للضحك أن يخلط بين النقد والاستحضار، والحنين إلى الزمن المفقود، مما قد يُساهم في إضفاء نوعٍ من الإنسانية أو “الكاركتر” على شخصيةٍ تاريخيةٍ شديدةِ العنف مثل صدام حسين.
هنا، الضحك ليس بالضرورة نقديًّا، بل قد يكون جزءًا من إعادة تشكيل الذاكرة الجمعية وتطبيع صورة الطاغية. فصدام، مثلًا، في إحدى خطاباته الشهيرة التي أعدم فيها بعضًا من قيادات حزب البعث، تحوّل هذا الخطاب، عبر الميمز، بأيّ تشبيهٍ يوميٍّ آخر، مثل الأب الذي ينادي على أولاده، ويختار بعضَهم لتناول الطعام، أو غير ذلك من يومياتٍ وقصصٍ واقعيةٍ عن العلاقات، مضحكة، لكنها تُحاكي خطاباتٍ أو مقولاتٍ أو مشاهدَ لزعماء عربٍ حاضرين أو من التاريخ.
الضحك: مُقاوم ومُستبد
إنّ السخرية السياسية الرقمية هي أداةٌ تمنحُ قوةً للمقهورين بقدر ما تحملُ مخاطرَ التسطيح والترويض. من ناحيةٍ، هي سلاحٌ فعّالٌ لكسرِ حاجز الخوف، وتفكيك أسطورة المستبد، وتوفير متنفسٍ نفسيٍّ جماعيٍّ، وتحفيزِ الوعي السياسي للشباب. ومن ناحيةٍ أخرى، هي أداةٌ محفوفةٌ بالمخاطر، قد تؤدي إلى تسطيح القضايا، ونشر المعلومات المُضلِّلة، وترسيخ خطاب الكراهية ضد الفئات المهمشة.
والإجابة على التساؤلات المطروحة تكمن في فهم الطبيعة الجدلية لهذه الظاهرة. فالضحكُ على المأساة يُصبح خطيرًا عندما يُصبح بديلًا، دائمًا، عن الفعل، أو عندما يُستخدم لإعادة إنتاج العنف والتمييز الذي يُفترض أنه يُحاربه. والثمن الذي يدفعه الوعي الجمعي هو أننا قد نخسر عمقَ الوعي، ونتعاطى مع القضايا المصيرية على أنها “نكاتٌ عابرة”، ما يؤدي إلى تطبيع الاستبداد وتحويله إلى جزءٍ من المشهد الكوميدي اليومي.
لذلك، يجب أن لا يكون الضحكُ غايةً في حدِّ ذاته، بل وسيلةً. فلا يكفي الضحك وحده؛ يجب أن يكون السخط وقودًا للتغيير، لا مجردَ متنفس. إنّ هذه السخرية، رغم ما تُحققه من مكاسب، تحمل في طيّاتها مفارقاتٍ عميقةً. فبقدر ما تنجح في كسرِ حاجزِ الخوف وتفكيكِ أسطورة القائد المستبد، فإنها قد تتحوّل إلى أداةٍ لتطبيع صورته في الوعي الجمعي. فعندما يُصبح وجهُ الطاغية مادةً يوميةً للضحك، فإنه قد يفقد هيبته المخيفة، لكنه يتحوّل في الوقت نفسه إلى “شخصيةٍ” مألوفة، مما يقلل من خطورة أفعاله.
كما أن السخرية، بقدرتها على تبسيط القضايا المعقدة، قد تُساهم في تسطيح الوعي. إنّ سرعتها وتركيزها على فكرةٍ واحدةٍ يمنع الجمهور من فهم السياقات الكاملة والأسباب الجذرية للقضايا، مما يجعلهم عرضةً للمعلومات المُضلِّلة. وإلى جانب ذلك، فإنّ السخرية التي تهدف إلى خلقِ خطابٍ مضادٍّ قد تقع في فخِّ إعادةِ إنتاجِ خطابِ الكراهية. وفي النهاية، قد يُشجَّع الأفراد على “النشاطِ السياسيِّ السطحيِّ والكسول”، حيث يكتفون بنشرِ النكات دون الانخراطِ في حراكٍ حقيقيٍّ، ما يجعل الضحكَ بديلاً عن الفعل.