جيل “زد” المغربي يخرج من الشاشة إلى الشارع

لم تكن احتجاجات أواخر سبتمبر/ أيلول 2025 حدثًا عابرًا في المشهد المغربي، بل تجلّيًا عميقًا لأزمة تتجاوز التعليم والصحة إلى بنية العدالة الاجتماعية برمتها، حيث إن جيل Z، الموصوف بجيل الرقمنة والتواصل، قرر أن يختبر لأول مرة قدرة التعبئة الرقمية على التحول إلى فعل احتجاجي جماعي، مكرّسًا مسارًا جديدًا في العلاقة بين الشباب والدولة.

خرج مئات الشباب المغاربة إلى الشوارع في 11 مدينة على الأقل في أنحاء البلاد، تزامنًا مع تصاعد الغضب الشعبي من تدهور الخدمات الاجتماعية. غير أن هذه الاحتجاجات قوبلت بتدخل أمني مكثف؛ إذ عمدت السلطات إلى تفريق المظاهرات بالقوة، مع تسجيل حالات اعتقال في صفوف المحتجين، وهو ما اعتبرته منظمات حقوقية استمرارًا لنهج المقاربة الأمنية بدل الانفتاح على الحوار.

ميلاد حركة شبابية

في البدء، ظهرت فجأة حركة شبابية على تطبيق “ديسكورد” تحت أسماء “جيل زد 212″ و”موروكو يوث فويس”، وأطلقت دعوات للتظاهر السلمي يومي 27 و28 سبتمبر/ أيلول 2025. جاء في هذه الدعوات أن الشباب المغاربة يطالبون بـ”تحسين خدمات الصحة والتعليم العمومي” كمحاور رئيسية.

بالموازاة، اجتاحت الميمات والفيديوهات الساخرة شبكات التواصل، حيث عبّر البعض بسخرية عن تضارب الأولويات الحكومية؛ مثال ذلك السؤال المتداول: “لدينا الملاعب وإصلاحات كأس العالم، فأين المستشفيات؟”. هذا المزج بين الحساسية للمشاهد العالمية والأسئلة النقدية صبّ في خانة السخرية الرقمية، لكنه سرعان ما تحول إلى أفعال ميدانية حين قرر كثيرون حشد أنفسهم في الشارع للمطالبة بالحلول الواقعية.

نشأ “جيل Z” المغربي في عالم رقمي يحفل بمشاهد رفاهية وحقوق ومقاييس عالمية للجودة. وحسب دراسة حديثة، يقضي نحو 43% من الشباب المغربي (18-29 عامًا) ما بين 3 و5 ساعات يوميًا على منصات التواصل الاجتماعي، ويجادلون بأنهم “يجدون في الشبكات مجالًا للتعبير عن الذات والابتكار وتكوين العلاقات”.

وبالمثل، يحتك الشاب المغربي على “تيك توك” و”إنستغرام” بالـ”ترندات” العالمية، فيرى فرق جودة الخدمات بين دول مماثلة لاقتصاد بلده، مما يفاقم إحساسه بالظلم، حيث يلاحظ هؤلاء الشباب، المهتمون بالظواهر العالمية، تراجع المغرب في عدة مؤشرات دولية، ما يعزّز شعورهم بأن واقعهم الوطني لا يرقى إلى مستوى ما تبثه الشاشات من رفاهية.

بالتالي، هذا الفارق بين الأمل الرقمي والواقع المرير يجعل التعبير عن السخط عبر السخرية والتهكم الرقمي وسيلة تلقائية للتنفيس والمطالبة بالتغيير. وقد تفاعل الشباب مع هذا التناقض بسخرية لاذعة على الإنترنت، كما حدث في بلدان أخرى. فمثلًا، استخدم ناشطون في نيبال وسومًا مثل #NepoBaby و#NepoKids لانتقاد “أبناء النخبة” الذين يعيشون برفاهية فائقة بينما 20% من الشباب يعانون البطالة.

عدوى “الربيع الآسيوي”

شهدت شواطئ آسيا خلال العام الجاري ما يشبه “الربيع الآسيوي“، حيث تحولت احتجاجات شبابية إلى حركات جماهيرية هزّت أنظمة حكم متجذرة. وقد تصدّر قادة حركة “الرقص الأسود” (راية مستوحاة من مسلسل الأنمي One Piece) شوارع إندونيسيا ونيبال وبنغلاديش وسريلانكا، رافعين شعارات تطالب بالتغيير السياسي ومحاسبة نخب الفساد.

وفي إندونيسيا، اندلعت شرارة الاحتجاجات بعد تداول معلومات عن امتيازات سخية حصل عليها أعضاء البرلمان في وقت كان المواطنون يعانون من ضغوط اقتصادية متزايدة، حيث رفع الشباب راية “نيو جين” السوداء كرمز للثورة، في مشهد يعكس قدرة “جيل Z” على تحويل رموز ثقافة البوب إلى أدوات سياسية جامعة.

أما في نيبال، فقد شكّل قرار الحكومة بحظر وسائل التواصل الاجتماعي الشرارة التي أشعلت أعنف احتجاجات منذ عقود، شارك فيها شباب غاضبون من الفساد والانسداد السياسي. وأسفرت هذه الاضطرابات عن سقوط أكثر من سبعين ضحية، لتؤكد أن مطالب “جيل Z” الاجتماعية والسياسية لم تعد حبيسة الفضاء الرقمي، بل صارت قوة ميدانية قادرة على زعزعة أنظمة بكاملها.

في المغرب، يشكّل التفاوت الحاد في توزيع الدخل أبرز مظاهر غياب العدالة الاجتماعية، حيث توصّل بحث إلى أن أغنى 10% من السكان سنة 2013 قد استحوذوا على نحو 32% من الدخل الوطني، أي بما يعادل 12 ضعف ما يحصل عليه أفقر 10%. علمًا أن هذا الخلل البنيوي لا يعكس فقط فجوة متزايدة بين الفئات الاجتماعية، بل يحد أيضًا من استثمار الإمكانات البشرية ويضعف آفاق النمو الاقتصادي على المدى الطويل.

كما تتجلى مظاهر اللامساواة في فجوات إقليمية واضحة، حيث تعاني المناطق الريفية من هشاشة في البنية التحتية والخدمات الأساسية، فيما يبرز الاقتصاد غير الرسمي – الذي يستوعب ما يقارب ثلث القوى العاملة – كإطار هش يقوم على ظروف عمل صعبة وغير مستقرة.

بالتالي، فإن الجماهير التي شاركت في الاحتجاجات الأخيرة هي ذاتها التي شهدت جهودًا تنموية كبرى في العاصمة والمدن الكبرى، كالطرق السريعة والبنية التحتية الحديثة، لكنها ترى في الوقت ذاته أهالي الزلزال أو القرى النائية ينتظرون المساعدة. وهكذا يتشكل لديها انطباع بوجود عالمين متوازيين: مغرب فاخر تواكبه الأضواء الإعلامية والاستثمارات، ومغرب مهمش يُترك محتاجًا لإرادة سياسية.

رفض التوظيف السياسي

قد تزامن خروج الشباب المغربي في احتجاجات 27 و28 سبتمبر/ أيلول مع مشهد يصفه مراقبون بالأزمة السياسية الصامتة في البلاد، حيث تعاني الأحزاب والنقابات من ضعف تنظيمي وفقدان المصداقية، فيما أفرغت المقاربات الأمنية الشديدة الفضاء العام من أي قنوات احتجاجية مشروعة.

هذا الواقع دفع الشباب إلى اللجوء إلى المبادرات الرقمية، التي تمثل محاولة للتعبير عن المطالب الإصلاحية في ظل فقدان الثقة بالمؤسسات التقليدية، غير أن مواجهة هذه الاحتجاجات بالقمع قد تؤدي إلى تحركات ميدانية أوسع وأقوى تأثيرًا. وقد أفاد مراسلون وشهود أن قوات الأمن اعتقلت متظاهرين كانوا يدلُون بتصريحات للصحافة أو يقاومون الطرد.

تجاوبت أحزاب المعارضة مع احتجاجات الشباب، حيث طالب حزب العدالة والتنمية بإطلاق سراح المحتجزين، محذرًا من تدهور الوضع الاجتماعي. ودعا الحزب الاشتراكي الموحد الحكومة إلى الامتناع عن إساءة استعمال السلطة والاستماع لمطالب الشباب.

كما حاولت بعض النخب السياسية التقليدية الاحتواء الرمزي، ففي الدار البيضاء شاركت النائبة اليسارية، نبيلة منيب، في وقفة احتجاجية إلى جانب الشباب، لكن سرعان ما كررت صفحات “جيل Z” على مواقع التواصل موقفها الرافض لأي توظيف حزبي لها.

ترسم هذه الأحداث معًا صورة جديدة يشارك فيها “جيل Z” المغربي المعرفة والوعي عبر الحدود، وهو جيل يرى نفسه جزءًا من موجة عالمية أكبر، ويستخدم اللغة الرقمية والسخرية وشعارات عالمية لتحريك المطالب المحلية. ما يعني أن صرخة هؤلاء الشباب هي رد فعل حتمي على تراكم الإحباط تحت وقع أزمات متراكمة ومقارنة مع ما يرونه على الشاشات.